لسنا هنا بصدد مقاربة أكاديميةٍ لمفهوم التحول، بما هو تعبير عن مجمل التغيرات التي تطرأ على بنية ما، طبيعية كانت اجتماعية أو ثقافية ، على امتداد مراحل تطورها أو انتكاساتها، حيث لن نكون في هذا السياق مجبرين على التقيد بالمرجعيات النظرية التي يعود لها فضل إثارة نقاشات مسهبة في الموضوع، سواء بتوجهها الميتافيزيقي أو المادي، التقليدي أو الحداثي، علما بأن أصداء هذه المرجعيات تظل حاضرة بقوتها الإجرائية في تضاعيف ما نحن بصدد تناوله، كما هو الشأن بالنسبة لمجمل مقارباتنا المتمحورة عادة حول ما يطرحه الكائن من تساؤلات تخص علاقته بوجوده الذاتي والغيري، سواء كان مؤطرا بخصوصية محيطه، أو واقعا تحت ثقل متاهة الكوني، بكل ما تتضمنه هذه التساؤلات من إشكالات ذات طبيعة مادية أو رمزية ، ملموسة ، أو ذهنية. ومن المؤكد أن مقاربة التحولات والتغيرات التي تعيشها الثقافات والحضارات خاصة، كانت وستظل، موضوع جدال وموضوع بحث و نقاش،وهو أمر جد طبيعي بالنظر إلى ما تقدمه حصيلة هذه النقاشات من معطيات تُعتمد نظريا في إماطة اللثام، ولو مؤقتا، عن أسرار التناقضات التي تعصف بتوق الكائن إلى تحقيق نوع من التوازن السيكولوجي والاجتماعي والثقافي، والذي يحدث في كثير من الأحيان أن ينقلب على عقبيه، ليبلغ حدا كارثيا تضيع معه كل إمكانية للفهم أو التفكير. ولعل أهم ما يعنينا في إشكالية التحول، و ضمن القناعة المشار إليها، هو الاقتراب من موضوعة الطفرة ، المعبر عنها بتلك اللحظة الحاسمة الفاعلة في تحيين حدث التحول /التغيير الذي يتسلل إلى نسق اجتماعي أو ثقافي أو جمالي، فيخرج به من إطاره المألوف إلى إطار مغاير، مؤثث بإبدالاته الخاصة به. فالوعي بالطفرة هو في حد ذاته ترجمة للوعي بالأزمنة المتعددة التي تعاقبت على الصورة ذاتها، بما هي وقائع وأحداث وخطابات ، مؤطرة بأسئلتها الكبيرة والصغيرة ، كما هو وعي بحجم التناقضات والتنابذات التي كانت الصورة الواحدة مسرحا لتمظهراتها، ودلالة الاقتراب المنهجي من سؤال الطفرة ، تفيد هنا ذلك التحرك المرن على أرضية واقعٍ مغرقٍ في قسوته قصد جس نبضِ ما يعتري أحوالَه من تحولات، حيث يمكن القول إن التحول السلبي المفضي إلى تفجير الكوارث الإنسانية ،والمجسد في ما تفرخه الحروب من مذابح، يحتل مركز الثقل، في كل المقاربات النظرية التي تأسست عليها مفاهيمُ وخطاباتٌ فكريةٌ وجمالية ، يمكن اعتبارها دروسا وقائية، يُستأنس بها في مواجهة كافة المخاطر المنذرة بويلٍ ما، تروم إضاءة اللحظة الكارثية من أجل فهم أسرار اشتغال ميكانيزمانها، على غرار ما تعانيه حاليا مجتمعاتنا العربية من أزمات ، أمست بفعلِ حدةِ تواترها ، في منأى عن أي اهتمام نظري، فلم تعد ثمة من حاجة لتأويلها وفهمها على ضوء إوالياتها الخاصة بها، بقدر ما يقتصر في تناولها على مقولات فضفاضة، مستمدة من حقول معرفية، قد تكون قريبة أو بعيدة عن طبيعتها ، من ذلك مثلا مقولة القضاء والقدر المنتمية إلى المرجعية الدينية ،أو قوانين الانتخاب الطبيعي المشتغلة بفلسفة تطور الأنواع ، التي يندرج ضمنها النوع البشري، أو القوانين المستمدة من النظريات المادية سواء في أبعادها الاجتماعية أو التاريخية أو الفيزيائية. وعموما وفي السياق ذاته، نشير إلى أن الصورة لا تستطيع أن تحتفظ بنقائها من خلال انغلاقها على ذاتها، باعتبار أن هذا النقاء لا يمكن بالتالي إلا أن يؤدي إلى طمس ملامحها، لذلك فهي مطالبة بالانفلات من موقعها الأصلي، من أجل ضمان استمراريتها التي تفيد إمكانية تفاعلها المفضي إلى مسرح التحولات، حيث يتجمهر الآخرون، بانتظار انصهارها أو احتراقها في أتون توقعاتهم . إن هذه الفضاءات الطبيعية والاجتماعية، تمتلك كافة الشروط التي تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر، في إنجاز مختلف أنواع التحولات سواء على بنية الكائنات البشرية ،أو بنيات الخطابات الفكرية الإبداعية، بما هي أيضا كائنات معرفية وثقافية.وهي تحولات قد تتخذ منحى تجميليا أو تشويهيا ، تبعا لطبيعة العلاقات التي يحدث أن تندمج فيها هذه الكائنات، إما اختياريا وطواعية أو تحت وطأة إكراه ما. وبفعل هذا التحول، تتحقق مراوحة الذوات بين عالم المسخ وبين عوالم المثل، حيث يمكن للذات الواحدة أن تنتقل عبر أزمنة وأمكنة وملابساتٍ موسومة بما يمكن اعتباره قطائع جد جذرية في ما بينها . إن الأمر هنا يختلف بشكل تام عن منهجية التدرج المتعلقة بالتسلسل والتعاقب الزمني الذي تتحكم قوانينه في ملامح وهيئات الذوات خلال المراحل الممتدة بين زمن الميلاد وبين زمن الموت، بما تتضمنه هذه المراحل من طفولة وشباب وكهولة ، والتي تفسَّرُ به عادةً حيواتُ الشعوب والحضارات، والأنساق الفكرية والإبداعية لأن حركية ومصائر الكائنات ككل مقيدةٌ بقوانينها المشتغلة في تفاصل الصيرورة القائمة بين لعبة الشروق و الأفول، وهو ما يمكن اعتباره الإطار العام الذي يحتوي ويشمل تلك التحولات التي نحن بصددها، والتي تتمثل في قابلية الذات، أو الشيء للتناسخ الطوعي أو القسري في هيئات قد تكون منفصلة تمام الانفصال عن بعضها إلى تلك الدرجة التي يتعذر معها استعادة الأصل الذي تدرجت منه هذه الهيئات، كما يتعذر معها معرفة الخيوط الخفية المضمرة القائمة عادة بين هيئة ما وبين غيرها من الهيئات المتفرعة عنها ، وهو الإشكال الذي يمكن أن نقرأ على ضوئه علاقة المفرد بتعدده ، حيث يمكن طرح سؤال إيبيستيمولوجي يخص حدود القرابة بين الصورة الأصل التي احتجبت، وبين مجموع ما تفرع عنها من صور،إلى جانب التساؤل عن حدود القرابة ذاتها القائمة بين الصور المتفرعة ، مع احتمال حضور ما ينفي أية قرابة ممكنة بين الأصل والفروع، ثم بين الفروع في ما بينها .أيضا على ضوء السؤال ذاته ، يمكن التوقف عند اللحظة الغائمة التي تمهد لبداية حدوث التحول ، بغاية التدقيق في الأسباب المؤدية إلى تفعيل لحظة التحول، وهي أسباب يرتبط بعضها بهوية الشيء/موضوع التحول، كما يرتبط بعضها الآخر بالعناصر المتضمنة للخصوصية التحويلية ،ثم إلى جانب ذلك سؤال منهجية التفاعل القائم بين هذه العناصر،وبين الشيء/الأشياء الخاضعة أو المحفزة لهذا التفاعل . ومن المؤكد أن هذه المعادلة القابلة لأكثر من مقاربة وأكثر من تحليل، هي بمثابة نواة نظرية تتمحور حولها الكثير من الإشكاليات المعرفية، وخاصة منها صيرورة التشكل الكوني، بما يندرج معها من مشتقات وملحقات مادية ورمزية، حيث نجد أنفسنا أمام فضاء تتمسرح فيه القناعات التي يشتغل أغلبها بمنطق التسلسل الكرونولوجي المحكوم ببعدي الميلاد والموت،مع قابلية إضافة بعد ثالث يتجسد في الانبعاث. أيضا بموازاة هذا الفضاء يتموضع التمسرح الفرح أو الدرامي للمشهد الذي يحتفظ فيه الأصل بسلطته ووصايته على مجموع ما يتفرع عنه من صور وأشكال. سلطةٌ لا تملك معه هذه التفريعات أي حق في إعلان استقلاليتها وتفردها ،ضمن أية قطيعة محتملة، مع الأخذ بعين الاعتبار تمسرحَ ما نعتبره تمردا خفيا أو معلنا، للصور المتناسلة من رحم هذا الأصل، على كل ما يمكن أن يمارس في حقها من هيمنة تملكية، تحول بينها وبين الإعلان عن استقلالية حضورها ضمن تفاعلها العام بغيرها ، أو بانفصال تام عن هذا الغير، باعتبار أن استقلالية الحضور هي أول شرط من شروط الاندماج في قلب تبنين ما .و إذا كان هذا التوصيف يبدو للملاحظ من حيث الظاهر مغرقا في جفافه ، بالنظر إلى تجريديته ، فإنه على العكس من ذلك يخفي في باطنه حالة رهيبة من الارتياب التي يستحيل إنكارها أو صرف الانتباه عنها، مع العلم أن الارتياب هنا قابل لأن يكون مقابلا موضوعيا للقلق، للحيرة، للخوف كما للذة وللفرح، وعموما وبغير قليل من المصادرة ، يمكن الإشارة في معرض حديثنا عن هذا الباطن، إلى حالة قاسية من العنف الدرامي ، والناتجة عن حتمية انفلات الصورة من ظلمة الرحم، إلى شمس التحولات الحارقة التي ما من مدارات واضحة لأفلاكها. إن ضرورة الانفلات من حميمية التشكل البدئي القائم داخل رحم الأصل ،هي من أهم قوانين الرحم ذاته الذي لا يمكن أن يسمح للصورة بتجاوز حد تشكلها البدئي، والذي قد يؤدي إغفاله إلى إجهاضها التام، بما هو حالة موت وحالة نفي أبدي، يمارس عليها، كي لا تلج مطلقا مدرات التحول التي هي بانتظارها،وهنا نشير رأسا إلى النسف العنيف الذي يمكن أن يتعرض له زمن الإقامة الآمنة في حميمية رحمها الذي يوهم بإمكانية تماهيه مع جنة منيعة، لا تتسرب لكنةُ التيه إلى معاقل لغاتها، ولن يكون ثمة من إمكانية لتلافي هذا النسف، إلا بالخروج، وبالمغادرة في صيغة انبجاس أو انبثاق، مطالب بمناورة ما يترصده من مصائر وأقدار. إن الزمن هو الأرضية التي تتحين فيها الأشياء والظواهر فرصة تحولها ، بممارستها لفعل الامتداد أوالتقلص، بالإيغال في الظهور أو الغياب، مجددة نضارة اخضرارها، أو منكبة على تسريع صفرةٍ، هي صدى ذبول محتمل ، أو احتراقٍ مباغت. إن الزمن هنا غير مجردٍ، إنه مدجج بأبعاده المادية التي يتغلغل تأثيرها في نسغ الذوات ، وفي نسغ العناصر دون أن تغفل لِحاء الأشياء.