إصلاح التعليم رهان وطني يهم كل المغاربة ويقض مضاجع كل من يشغله مستقبل البلاد، يتطلب تعبئة وطنية شاملة تهم الدولة بكل مؤسساتها التربوية والعلمية والثقافية والإعلامية والاقتصادية، كما تهم المجتمع بكل مكوناته. نجاح الإصلاح مشروع أمة وأولوية دولة، وبالتالي يجب أن يندرج ضمن مشروع تنموي جديد يعتبر التطور العلمي والتكنولوجي والثقافي الرافعة الأساسية لتنمية شاملة ومستدامة، ويعتبر الرأسمال البشري الدعامة الكبرى لبناء المستقبل وتحقيق التقدم الحضاري ومواجهة تحديات العصر. الإصلاح وفق هذه الرؤية اختيار سياسي استراتيجي متى حسم فيه أصبح ممكنا. حينئذ يمكن وضع أسس نظام تربوي جديد، على المستوى الابستمولوجي/ المعرفي، وعلى مستوى الهندسة البيداغوجية والحياة المدرسية، وعلى مستوى نوعية المخرجات ومدى ملاءمتها لسوق الشغل وحاجات المجتمع. ومن المفروض أن يسعى الإصلاح إلى ضمان تكافؤ الفرص بين الفئات الاجتماعية وبين الجهات والكيانات المجالية. يمكن إرجاع دوام أزمة النظام التربوي واستفحالها لثلاثة عوامل رئيسية: 1) غياب رؤية إستراتيجية شاملة ومنسجمة للمسألة التعليمية والتربوية من شأنها توجيه السياسات الحكومية في مجال التربية والتكوين والبحث العلمي، وضبط إيقاعاتها على المدى البعيد والمتوسط، في ارتباط بمشروع اقتصادي واجتماعي وثقافي يراهن على المعرفة والبحث العلمي أساسا للتنمية. والواقع أن المسالة التعليمية مسألة سياسية ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية، ولا يمكن فصلها عن الاختيارات الكبرى للدولة. ولعله من البديهي القول انه لا يمكن بناء نظام تعليمي حديث وعصري وناجع إلا في إطار مشروع مجتمعي ديمقراطي وحداثي، يقدر العلم والمعرفة، ويشجع على الإبداع الفكري والفني والابتكار العلمي والتكنولوجي، ويحترم الذكاء البشري، ويتبنى القيم الكونية، ويوظف العلوم الإنسانية في مقاربة إشكالات التربية والتكوين. يستحيل بناء منظومة تربوية ناجحة دون أن تكون في خدمة مشروع تنموي يشمل الاقتصاد والاجتماع والثقافة، ويستدعي البحث العلمي والتطوير التكنولوجي.ولا يمكن لمثل هذه المنظومة أن تنشأ وتدوم إن لم تكن مرتكزة لقيم التقدم والحداثة التي هي في الجوهر حرية الفكر والإبداع. ولأن منظومتنا التربوية أريد لها منذ إجهاض المشروع الوطني التحرري أن تكون مؤسسة لإعادة الإنتاج الثقافي، وتبرير العسف السياسي، وترسيخ قيم التقليد، وتكريس اللامساواة الاجتماعية، كما ذهب إلى ذلك الجابري، فإن مآله ما كان يمكن أن يكون سوى وضعها المأزوم الذي يعتبر الوجه الفاضح لأزمة مجتمع بأكمله. 2) في غياب الرؤية الشاملة، كانت جل «الإصلاحات» التي طالت النظام التعليمي جزئية، ولم تمس سوء مكونات معزولة داخل النسق التعليمي. منها ما هم لغة التدريس، «فرنسة» أو تعريبا، لمواد محددة، وفي أسلاك دون غيرها؛ ومن الإصلاحات ما أحدثت بمقتضاها شعب ومسالك، أو غيرت استنادا إليها قوانين ومساطير، ومنها من حاول تجريب مقاربات بيداغوجية على نحو اعتباطي وعابر، ومنها من أعاد توزيع الغلاف الزمني وعدل من أساليب التقويم ونظام الاختبارات والامتحانات الإشهادية والمعاملات، ومنها من اكتفى باستبدال الأسماء دون المسميات. كثير من هذه الإصلاحات الجزئية والطارئة لم تكن تستجيب لحاجات موضوعية تخدم تجديد النظام التعليمي وتطويره، ولم تكن نتاج دراسات وأبحاث علمية رصينة، وإنما كانت تصريفا لقرارات سياسية (تعريب المواد العلمية، حذف الفلسفة لمدة في الجامعة المغربية…)، أو تنفيذا لتوصيات المؤسسات المالية الدولية، أو نتاج اختيارات تربوية لمسؤولين تربويين عملوا على نقل مقاربات بيداغوجية حديثة دون ملاءمتها مع واقع المدرسة المغربية، ودون توفير كل الشروط الموضوعية ( الفضاءات والتجهيزات) والذاتية ( تكوين متين للطر التربوية) لاستثمارها على الوجه الأمثل. ويشكل الميثاق الوطني للتربية والتكوين المحاولة الجادة والفريدة لصياغة مبادئ وأسس إصلاح شامل للمنظومة التربوية والتكوينية، وذلك في سياق سياسي خاص أتاح لكل القوى الحية بالبلاد المشاركة في بلورة تلك الوثيقة المرجعية القيمة التي رسمت أفق النظام التعليمي المنشود. غير أن الجوانب الأهم من الميثاق، وهي المتعلقة بالحياة المدرسية، والمناهج، وتطوير تدريس اللغات، والانفتاح على المحيط، وتكافؤ الفرص، لم تشهد تقدما ملموسا خلال عشرية الإصلاح ( العقد الأول من الألفية الثالثة). وتوقف الإصلاح عند إحداث الهياكل المركزية والجهوية، وعند الإصلاح البيداغوجي بالجامعات، الذي ما زال متعثرا لاعتبارات موضوعية (نسبة التأطير، الاكتظاظ، ضعف ميزانية البحث العلمي…). ولم يتوفق البرنامج الاستعجالي في تدارك التأخر الذي طال الجوانب الأساسية من الميثاق رغم ما رصد له من أموال، لم يصل منها للتلميذ والمدرس غير النزر اليسير، بينما صرف الشطر الأعظم في تعويضات لمؤطري «تكوينات» وملتقيات غلب عليها الطابع الاحتفالي وأجواء الولائم. 3) محاولات الإصلاح هاته، علاوة على طابعها الجزئي، والمعوقات الموضوعية لأجرأتها كلا أو جزء، رافقها سوء الحكامة الذي زاد من إضعاف مردودها وعجل بفشلها. ونعني بالحكامة السيئة التدبير اللاعقلاني للموارد البشرية والمادية، وبؤس الحياة المدرسية، وضعف الإدارة التربوية، وتخلف المناهج الدراسية وأساليب التعليم والتعلم، وإتباع نظام تقليدي في المراقبة المستمرة والتقويم التربوي، وعدم ربط التعليم العالي بالمخططات الاقتصادية الكبرى وبالمحيط الاجتماعي والثقافي، وضعف الحوافز على التجديد والبحث العلمي. ولكي لا يقال أن هذا كلام عام يفتقد الحجة ويعوزه الدليل، يمكن إبراز بعض الحقائق في صيغة أسئلة استنكارية، من قبيل:هل يعقل أن تغلق مراكز التكوين أو تقلص أعداد المتكونين طيلة عقد من الزمن، وتسرح خيرة الأطر بموجب المغادرة الطوعية، ثم تلجأ الدولة إلى التوظيف المباشر بعد سنوات معدودة، وإلى الاستنجاد بمن غادروا، طوعا وطمعا، من أساتذة كليات الطب والصيدلة قصد سد الخصاص؟ هل من التدبير الحكيم في شيء إسناد الإدارة التربوية على أساس الأقدمية لأطر لا تفصلها عن التقاعد سوى شهور معدودة؟ هل من سداد الرأي وحسن النظر تعليق تكوين أطر المراقبة التربوية في وقت أصبح فيه المؤطر التربوي عملة نادرة؟ وهل يستقيم تدريس المواد العلمية بالعربية إلى حدود الباكلوريا ليواجه الملتحقون والملتحقات بالجامعات والمعاهد العليا المغربية والأجنبية صعوبات جمة لمتابعة تعليمهم العالي؟ وهل يمكن الحد من نخبوية التعليم، والتعليم العالي ذي الولوج المحدود على الخصوص، في ظل مباريات يشترط في المرشحين لاجتيازها عتبة لا يقوى عليها سوى العباقرة أو من ولدوا وفي أفواههم ريشة من دولار. وهو أمر محبط لكثير من ذوي المؤهلات الذين اضطر كثير منهم للدراسة بالخارج، ومبدد لرأسمال بشري هام لم تهيأ له الشروط للبذل والعطاء خدمة لوطنه؟ هل يجوز الاستمرار في العمل بنظام المراقبة المستمرة في السنتين الأولى والثانية باكلوريا، والجميع على علم بما يقع من غش وتلاعب وابتزاز؟ وهل يجوز أن تصرف أموال طائلة، وتبذل جهود لتجريب وتعميم بيداغوجية الإدماج، ثم تقبر التجربة بقرار وزاري لم يستند لتقويم ولا لرأي الفاعلين المباشرين؟ وهل يجوز أن يتوقف البرنامج الاستعجالي بعد أن هدرت من أجله ملايير الدراهم؟ وهل يقبل أن تكون المدرسة المغربية حقلا لتجريب مقاربات بيداغوجة دون تمحيص ولا تحضير ولا تقويم؟ في غضون سنوات معدودة جربنا نماذج تربوية كثيرة ومتباعدة من حيث المنطلقات والمبادئ وأوليات الإنجاز: بيداغوجية الأهداف، وبيداغوجية الكفايات، وبيداغوجية المشروع، والبيداغوجية الفارقية، وبيداغوجية الإدماج، مع العلم أن الأنظمة التعليمية الرائدة تستعين بكل الطرق التربوية وتقنيات التنشيط الحديثة دون تمييز أو مفاضلة بينها؟ وهل يجوز أن تحدث الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، ويظل المركز مصدر كل القرارات، وتظل الوزارة مقرا دائما لمدراء الأكاديميات، كلما سألت عن أحدهم أجابوك أنه ذهب للرباط؟ وهل… وهل… وهل؟ هكذا يمكن الجزم أن أزمة التعليم ببلادنا أزمة نسقية تهم كل مكونات المنظومة التربوية / التكوينية، بنيات ومناهج ومقاربات بيداغوجية وحكامة إدارية ومالية وتربوية وغايات وأهداف وعلاقة بالمحيط على مستوى المدخلات والمخرجات معا. والأدهى أن تتحول أزمة التعليم إلى أزمة قيم متمثلة في تراجع حب المعرفة والتعلق بالعلم، وخفوت روح المسؤولية والنزاهة العلمية والفكرية، وتراجع الطموح في الارتقاء الاجتماعي عبر التعليم والتعلم، وتفشي الزبونية والغش والفساد الأخلاقي في معاهدنا وجامعاتنا، وسيادة العنف المادي والرمزي. لقد أصبح عموم المواطنين يحملون صورة سلبية وبئيسة عن المدرسة والجامعة، ولم يعد «يغامر» بإيداع أبنائه وبناته مؤسسات التعليم العمومي سوى من لا بديل له عن ذلك. في خضم هذه الأزمة اختارت كثير من الأسر، بمن فيها محدودة الدخل، التعليم الخصوصي بكل مستوياته وبكل أنواعه ( التقني والعام)، آملة أن تجد فيه ما يحقق طموحات أبنائها وبناتها. والحقيقة أن التعليم الخصوصي في بلادنا ليس دوما بأحسن حال من التعليم العمومي لأنه في نهاية المطاف مكون من مكونات المنظومة التعليمية الوطنية، ويشكو من نفس الاختلالات البنوية التي يعاني منها النسق التعليمي برمته، خاصة وأنه ملزم بإتباع المناهج التعليمية الرسمية تحت إشراف الوزارة الوصية. في ما يتعلق بالرؤية الاستراتيجية الجديدة، وبناء على قراءة متأنية لمضامينها، يمكن القول أنها لا تقل طموحا عن الميثاق الوطني للتربية والتكوين، من حيث الأهداف والإجراءات، ومن ثم وجب التنويه بجل ما جاءت به، لاسيما في ما يخص العمل على تحقيق مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء الفردي والاجتماعي، وإدراج الإصلاح ضمن مشروع مجتمعي شامل يستنير بقيم الحداثة والديمقراطية. غير أن ما يجري على مستوى الواقع، فضلا عن ضعف الموارد المالية وسوء الحكامة التربوية والاتجاه العام للسياسة الاجتماعية للحكومة المتسمة بالتقشف والخضوع لتوجيهات صندوق النقد الدولي، كلها عوامل تدعو إلى الشك في تنزيل الرؤية بما يجسد الأمال المعلقة عليها. ولذلك أعتقد أن إصلاح التعليم من خلال تنفيذ الرؤية الاستراتيجية، يفرض بالضرورة أن يتم ضمن مشروع تنموي جديد، خاصة وأن كل القوى السياسية تعترف بفشل التنموي الذي سار عليه المغرب من الاستقلال. إن جزءا مهما من مشكلات التربية والتعليم مرتبطة ارتباطا وثيقا بمشكلات اقتصادية واجتماعية وذهنية. لا يمكن تعميم التعليم والحد من الهدر المدرسي دون التمكين الاقتصادي للأسر وفك العزلة عن البادية، كما بل يمكن تحسين تعلم اللغات في أوساط اجتماعية ذات كثافة ثقافية متواضعة. الخ… فما السبيل إلى إنجاح الرؤية الإستراتيجية 2015- 2030؟ سؤال جسيم ومصيري، لا يجرؤ احد أن يدعي جوابا شافيا عنه. هو سؤال مغرب اليوم ومغرب الغد، نأمل أن تشتغل عليه بجد وعمق وبروح وطنية عالية كل المؤسسات المعنية وفي قدمتها المجلس الأعلى للتعليم الذي يضم ممثلي كل القوى الحية بالبلاد. لكن وجب التنبيه أن إصلاح التعليم يقتضي شروطا لا مناص منها: أولا: تعبئة وطنية شاملة تعيد للمغاربة الثقة في المدرسة العمومية والجامعة المغربية، لينخرطوا جميعا فكرا ووجدانا في دينامية الإصلاح، عبر مختلف المؤسسات التنشئوية الرسمية والمدنية التي يجب أن تتكامل أدوارها. وبهذا الصدد وجب التأكيد أننا بحاجة إلى إصلاح المنظومة التربوية برمتها، وليس النظام التعليمي وحده. فالمنظومة التربوية تشمل الأسرة والمساجد والجمعيات التربوية والمخيمات ووسائل الإعلام والسينما والمسرح، وكل قنوات ومؤسسات تشريب القيم. ثانيا:إشراك الكفاءات المغربية من خبراء وباحثين وأطر تربوية في أجرأة الاستراتيجية وتنفيذ برامجها وتتبع عمليات الانجاز وتقويمها، وفق برنامج عمل متوسط المدى ووفق خطة وطنية لا تتأثر بالتشكيلات الحكومية ونتائج الانتخابات. ثالثا: تعبئة الموارد المالية الضرورية عبر اكتتاب وطني وسن «ضريبة التضامن التربوي» على الشركات الكبرى وعقد شراكات بين التعليم العمومي والتعليم الخصوصي. مما لا شك فيه أن إصلاح منظومة التربية والتكوين إصلاحا شاملا ومستداما يطرح بحدة مشكل التمويل، نظرا لثقل الخصاص في البنايات والتجهيزات المخبرية والتأطير الإداري والتربوي من جهة، واعتبارا لضخامة النظام التربوي من حيث عدد رواده من تلاميذ وطلاب ومتدربين ومن هيأتي التدريس والإدارة من جهة ثانية. فالنهوض بالنسق التربوي/ التكويني وتجويد التعليم يحتاج إلى ميزانيات ضخمة تتجاوز بكثير ما يرصد للتعليم حاليا، على أهميته. وإذا ما قارنا بين تكلفة التلميذ الواحد في التعليم الابتدائي في بلدان ذات أنظمة تعليمية رائدة وتكلفة تلميذ مغربي بنفس المستوى، سنلاحظ أن التكلفة السنوية تناهز 40000 درهم بالنسبة لتلميذ فلندي أو هولاندي بينما لا تتجاوز 6000 درهم بالمغرب. ذلك معناه، أنه لا يمكن اختزال إشكالية المجانية في الموقف المبدئي. إنه مشكل حقيقي، يفرض التفكير في الصيغ الملائمة لضمان جودة المدرسة العمومية دون ضرب مبدأ تكافؤ الفرص. رابعا: حكامة تربوية جيدة تستجيب لمعايير الكفاءة والشفافية وروح المسؤلية. وفي هذا الباب لا مناص من وضع مخطط وطني لتكوين الأطر التربوية والإدارية بما يرفع من نسبة التأطير في المدرسة كما في الجامعة. إذا كان حب الوطن يلزمنا بأن نكون متفائلين اتجاه الإستراتيجية الوطنية لإصلاح التعليم، فإن ذلك التفاؤل لا يجب أن ينسينا أن الإصلاح ليس بالأمر الهين. إنه مشروع مستقبلي مفتوح على كل المآلات، ورهان حضاري سيتحدد على ضوء مآله مستقبل الأجيال القادمة ومستقبل مغرب الغد.