رواية « راعية الذئاب « للأديبة المغربية أحلام لقليدة ( 1 ) هي أول عمل روائي سردي في مسارها الإبداعي الذي عرف بزوغ اسمها كشاعرة ذات منجز شعري متألق ( 2 ) ، و هي رواية ذات منزع واقعي رمزي في أسلوبية الحكي و تخييل الواقع الاجتماعي ، متحررة من هيمنة مبدأ السرد الخطي الأفقي باللجوء الى قالب بناء يعتمد تقنيات التقطيع و التشذير لبنية الأحداث والزمن والمكان ، دون أن تجنح كلية نحو ما يوصف ب ( بالتجريبية / والتجريدية ) . رواية تتمركز بنية اشتغال عالمها التخييلي على ثلاثة محاور رئيسية : 1 – التشخيص التخييلي الواقعي / الرمزي للواقع الاجتماعي 2 – اعتماد تقنيات المرايا المتعاكسة للشخوص في بناء متخيل الرواية 3 – رمزية البحث عن الخلاص في عالم منهار. في مقاربتنا النقدية لهذا العمل الروائي الذي هو نص منفتح على مستويات متعددة من القراءات ( من القراءة ذات الطابع الاجتماعي الى القراءة ذات الطابع الايديولوجي و الى القراءة ذات الطابع التحليلنفسي / و أيضا المقاربة من منظور علم السرديات و التحليل السيميائي ) سأنزاح الى اختيار استطيقي و هو المتمثل في شعرية السرد و دلائليته ، من خلال المحاور الثلاث المشار إليها أعلاه والتي أراها المحافل السردية أو المرتكزات الحكائية الجوهرية للرواية : 1 – التشخيص التخييلي الواقعي / الرمزي لصورة الواقع الاجتماعي :يمتد العالم الحكائي لأحداث الرواية ليشمل مسارا تاريخيا لصورة الواقع الاجتماعي المغربي خلال الحقبة الممتدة من الثمانينات إلى لحظة الزمن الراهن ، ويتساوق هذا الامتداد مع ( ذاكرة السرد ) كما يؤطرها من حيث تنضيد الأحداث والشخوص والأزمنة والأمكنة ، هذا السرد الذي يعتمد الحكي بضمير المتكلم في أغلب مسار حبكته ، وحيث صوت الراوي الرئيسي للأحداث هو بطلة الرواية ( نادية ) التي تتمثل حياتها في مسار إخفاق اجتماعي من حيث العلاقة بالواقع ، يضرب عميقا في الذات والنفس والوجدان والجسد . وتقدم لنا الكاتبة في منجزها هذا محكيا تخييليا : العلاقة فيه بين الرواية ومرجعها الواقعي الاجتماعي هي علاقة تشخيصية لانعكاس شفاف لصورة هذا الواقع في التمثلات التخييلية للنص الحكائي ، حيث تتجاور لغة السرد التعييني المباشر مع لغة الوصف الرمزي الذي يجرد السرد التعييني من الدلالة المباشرة ويمنحه عمقا وكثافة رمزية ، هذا إلى جانب لغة الحوار التي تتقاطع بدورها مع لغة مونولوجية واستبطانية وظيفتها الارتقاء بالحوار المباشر الى درجة التكثيف الرمزي . نكون في النص نقرأ محكيا ينهض على بنية ( التشخيص المحاكاتي ) لأن العلاقة بين النص والمرجع الواقعي علاقة انعكاسية و مرآوية / حيث الشخوص مثلما الأحداث قابلة للتمثل على مستوى الواقع الاجتماعي ، وتشخص في حبكة أسميها انشطارية تراجيديا جيل و طبقة اجتماعية عاشت واقع وجودها بما هو صورة لعالم منهار – عالم تراجيدي للسقوط واغتيال الحلم و النفي والاغتراب والهروب بمختلف صيغه والبحث عن الخلاص وعن ذات متحققة باكتمالها تتجاوز الانهيار والفقدان الذي يبصم على وجودها الواقعي والاجتماعي ببصمة ( الأحلام المهدورة ) . صحيح أن الرواية تعتمد تخييلا تشخيصيا واقعيا ، لكن الكاتبة تنهل من ذاكرة قراءاتية في السرد و الروايات الشيء الذي جعلها تكسر مبدأ الانعكاس المحاكاتي المباشر باعتماد حبكة روائية قامت في أبرز تقنياتها الاستطيقية على : أ – عدم اللجوء الى السرد الخطي الأفقي و ذلك بتشظية الحكي في شكل كتابة مقطعية ، و بتوظيف زخم مدهش لتكنيك ( الاستباق و الاسترجاع الزمني ) الشيء الذي يكسر مبدأ الزمن الخطي للرواية ، و كذلك نسقية الأحداث ، و الانتقالات المكانية المفاجئة ، و هذا قد يربك قارئا نمطيا سلبيا و يتلاعب بأفق انتظاره ، لكنه لن يربك ذائقة القارىء المتفاعل اليقظ الذي يشحذ مخياله و يصيرا مشاركا في بناء النص و تلقيه . ب – اعتماد مستويات متداخلة من التنضيد السردي تجعل حبكة الرواية تستدعي علائقية تفاعلية بين السرد الروائي والمحكي السيرذاتي ، باعتبار السرد الروائي هو في الان ذاته يحكي سيرة بطلة الرواية نادية ، على نفس المحور الذي ينهض فيه السرد الروائي بحكي واقع جيل و طبقة اجتماعية .. هذا بالطبع الى اختراق الحبكة في اخر الرواية باقتباس أسلوب الرواية البوليسية بخصوص التحقيق في مقتل شخصية إلهام و اتهام عمر أخ نادية بكونه القاتل و ذلك اللغز الذي تختتم به الرواية حول وجود رأس القتيلة بلا جذعها في غرفة عمر . ج – من ( الرواية ) إلى ( الشهادة ) : ما من شك أن القصدية الرئيسية للكاتبة أحلام لقليدة في كتابة النص هي أن تقدم إسهاما روائيا ينضاف الى المنجز الروائي المغربي ويغنيه – وغالبا ما يمكن أن يصطدم مثل هذا النص بقراءات تختزله في في اتجاه من المقاربة مثل مسألة الكتابة النسائية وثيمة المرأة ، او في اختزال لا أراه مجديا وهو البحث في علاقة الرواية بذاتية المؤلف وهل تنطوي الرواية هاته على سيرة ضمنية – ومن وجهة نظرنا النقدية فإن هذا العمل الروائي يتوخى أن يقدم ( شهادة ) على مسار جيل عاش وجوده كإحباط تام ، وإدانة لحقبة اجتماعية منهارة لا نزال نعيش ارتكاساتها إلى اليوم . 2 – اعتماد تقنيات المرايا المتعاكسة للشخوص في بناء متخيل الرواية الإخفاقات الاجتماعية التي تشخصها الرواية تبدأ من بؤرة مركزية وهي الاعتقال السياسي متمثلة في رمزية فقد الأب و اختفائه ( أب البطلة نادية ) – و هو أول تجليات الموت الرمزي في النص ، لتمتد إلى بؤرة ثانية مجسدة في إخفاق منظومة التعليم و التشغيل وما يترب عن ذلك من فقر وحرمان، وهي تتمثل رمزيا في شخصية نادية وأخيها عمر وإدريس وصديقتها فاطمة فكلهم من ذوي شهادات جامعية انتهى بهم المصير إلى معاناة الفقر والحرمان والضياع في زمن سيادة الارتشاء والمحسوبية وطغيان الفوارق الاجتماعية . وعلى نحو مركزي أيضا تتسيد في النص موضوعة التفكك الأسري متمثلة في رمزية الأم التي تتحول إلى ( مناضلة ) تقاوم بؤس الواقع وشبح تفكك الأسرة بكل تحد وصمود ، تنضاف إليها بطلة الرواية نادية التي توزعت مواقفها ما بين الحلم بواقع بديل و حلم حياة ثانية مغايرة ، ارتطم بصخرة إخفاق تراجيدي ، فتحولت تنشد الهروب والبحث عن خلاص في الارتباط بزوجها الفرنسي جورج ، وهو حل لم يكن موفقا ، لأن ماضي حياتها وذاكرتها لا تستطيع الانعتاق من الإخفاقات المتصلة بها و المرتبطة بأول حب لها خالد و بحياة أمها الشغالة وأختها ليلى الضائعة وأخيها عمر الذي لم تفده شواهده الجامعية لينتصر على بؤس الواقع .. لذلك تنفصل عن زوجها وتعود في نهاية الرواية إلى نقطة الصفر ، وهي مجازيا أشبه بالرأس المقطوعة التي عثر عليها في غرفة أخيها عمر والذي انتهى مصيره إلى سجن مؤبد . وينضاف الى تراتبية موضوعات الإخفاق هاته موضوعتان تستحضرهما الرواية بقوة و هما : تسليع جسد المرأة و ارتكاسات الجنس سلبيا في الذوات المنهارة المتفككة ( نادية في علاقاتها المنكسرة بكل من عباس وخالد وجورج ، وليلى الأخت وإلهام الجارة القتيلة اللتين تقدمان صورة المرأة / السلعة كحل لا يختلف عن كونه شكلا من أشكال الهروب وانتفاء الذات ) . والموضوعة الثانية هي انتهازية المثقفين في زمن فقدان الكلمة و الوعي الثقافي إلى دمائها الجوهرية، وتحولهما إلى سلوك انتهازي وإفرازا لعقد مرضية لإنتاج الارتكاسات والهزيمة، وردود الأفعال السلبية التي تعد هروبا مضادا إلى ما هو أسوأ من أشكال الإخفاقات السابقة الذكر ( شخصية عباس المثقف و الحاج صاحب المكتبة ) . هذا النسيج الشخوصي شغلته الكاتبة سرديا في نسق رمزي أنتج لنا متخيلا للمرايا المتعاكسة حيث القارئ بإمكانه قراءة و تأويل إخفاقات نادية منعكسة في مرآة الأب الغائب ، وفي العشيق الأول خالد كمرآة لانمحاء مثالية العلاقة العشقية و فساد قيم الحب ، وفي زوجها الفرنسي جورج كمرأة تفضح زيف الحلول الوهمية الباحثة عن خلاص منشود في واقع مغاير مثل الغرب تحكمه قيم لا تتطابق مع الذات والواقع و الوعي الثقافي والايديولوجي لبطلة الرواية نادية . وبالمثل فإن شخصية عمر تنعكس مجازات صورتها الواقعية والاجتماعية في ارتكاساتها وإخفاقاتها من خلال مرايا الشخوص النسائية التي تحيط به ( الأم و أختيه نادية وليلى والجارة إلهام ) – ففي الوقت الذي يشعره حسه الذكوري الشرقي بأنه الكفيل بهؤلاء النسوة مكان الأب الغائب ، فإن إخفاقه في العمل و الحب يحوله إلى عالة عليهما ، وهو موقف سيؤدي به الى تبني حل هروبي يتمثل في التدين المتشدد ، واكتسابه ما يشبه سلطة قمعية لإرادته وإرادة من حوله ، وهذا المسلك الهروبي المتطرف ينتهي به إلى القتل والسجن . لا نريد هنا أن نستعرض كل أشكال الانعكاس المرآوي للشخوص الواردة في الرواية لنترك للقارئ حظ استبطانها في شموليتها ، إذ ما يهمنا هو الإشارة إلى أن هذا التكنيك السردي في بناء الشخوص منح العمل بنية درامية مؤثرة ، نقلت النص من مستوى التشخيص الواقعي المباشر إلى مستوى التشخيص الاستطيقي الرمزي الاستعاري و المجازي الخلاق . 3 – رمزية البحث عن الخلاص في عالم منهار الكثير من الموت المادي والرمزي تجسده الرواية في متخيلها من الموت الرمزي للأب الذي تحمل صورته نادية في صندوق مترحل معها إلى الموت المادي لإلهام موتا عبثيا عديم الدلالة و الجدوى / مرورا بكل أشكال الموت المضاعف للشخوص وهي تغترب في حلول فردية ، ونزعة هروبية تقايض بها مسعى البحث عن الخلاص و المصير في عالم منهار. الروايات ذات المنحى الواقعي الايديولوجي كلها على نحو مماثل طرحت رمزية البحث عن الخلاص في واقع السقوط و الهزيمة ، وكلها انطلقت من التقابل الضدي بين واقع قائم وواقع ممكن يجسد البديل المغاير / الأطروحة و نقيض الأطروحة . الكاتبة أحلام لقليدة لا تدعي أنها تقدم لنا رواية ايديولوجية بالمعنى المتعاقد عليه في أدبيات النقد السائد ، فلقد أبانت الروايات الايديولوجية عن مأزق وعيها الشقي في قراءتها للعلاقة بين الواقع والسلطة ، وتبين أن علاقاتها السياسية بهذا الواقع كانت شعاراتية من جهة وانفصامية من جهة ثانية ، فانتهت إلى سقوط تراجيدي أشد قسوة وارتكاسا في الوجدان العربي الجريح وأشد تحويلا للواقع إلى ما يشبه المتاهة أو واقعا ممسوخا فقد ما تبقى من أصالته وجوهريته . إنها تقدم روايتها ك ( شاهدة على حياتها و زمنها و عصرها ) / لا تقدم شعارات ولا حلول . تشخص هذا الواقع بلغة روائية واعدة تنبئ عن مشروع كاتبة روائية متميزة ، تريد أن تسمع صوتها للعالم وللذين اكتووا بنار المرحلة التي تشخصها روايتها .هي رواية إصغاء للذات و الواقع و التاريخ و للذاكرة ، فنحن تعلمنا أن نتكلم كثيرا ولا نحسن الإصغاء ، رواية مميزة بعفويتها وحتى بأخطاء طفولتها كنص من نصوص البدايات الروائية – رواية قوية أيضا ككل الروايات التي تطرح سؤال المصير و الخلاص . رواية مغربية وعربية في وقت واحد ، لأن شخوص الرواية مرايا عاكسة لكل شخصيات الوطن العربي المهزومة بعنف الواقع وانحلال و تفسخ القيم النبيلة . الخلاص كما تختاره شخوص الرواية له قيمته التحليلية و التأويلية على مستوى الواقع ، لكن الخلاص الجوهري كامن في ( الرواية كمشروع كتابة ) / الخلاص يكمن في الكتابة التي تعيد تأسيس الذات و الواقع بالمساءلة القائمة على النقد الذاتي . فالانهيار قائم والخلاص أيضا ممكن ، لكن يجب أولا أن نكتب ونكتب ونشرح جسد هذا الانهيار .. ثمة نقطة ما ، مكان ما ، طريق ما سيقودنا للخلاص حين نكتشف أصل الخطيئة / الخطأ الأصلي بلغة يونج ونقاد اللاوعي الجماعي . إنها رواية تفتح مسارات التأويل والنقد على كل هذه الأسئلة الجوهرية هي بالتأكيد حاملة لجمرة الكتابة و إرهاصاتها . كل التوفيق للكاتبة أحلام لقليدة . … ( 1 ) – ( راعية الذئاب ) أحلام لقليدة – دار النشر سليكي اخوان ، 2018 / المغرب ( 2 ) – نشر لأحلام لقليدة ديوانان «أجراس السماء» و»رحى الاحلام».