يخلد الشعب المغربي اليوم، ذكرى وثيقة المطالبة بالاستقلال، ذكرى 11 يناير 1944، التي انتقلت فيها الحركة الوطنية إلى مرحلة جديدة في تاريخها الكفاحي، من المطالبة بالإصلاحات كما تنص على ذلك معاهدة الحماية الاستعمارية، إلى المطالبة بالاستقلال. لتقريب القراء من هذه الوثيقة العريضة نقدم في ما يلي فقرات من دراسة تحليلية في الموضوع للأستاذ الفقيد السي عبد الرحيم بوعبيد أحد الموقعين على الوثيقة، يشرح فيها، كيف تم إعداد هذه الوثيقة، وماهو محتواها ومضمونها، وكيف تم تقديمها لجلالة الملك السلطان محمد بن يوسف رحمه الله. يخلد الشعب المغربي اليوم، ذكرى وثيقة المطالبة بالاستقلال، ذكرى 11 يناير 1944، التي انتقلت فيها الحركة الوطنية إلى مرحلة جديدة في تاريخها الكفاحي، من المطالبة بالإصلاحات كما تنص على ذلك معاهدة الحماية الاستعمارية، إلى المطالبة بالاستقلال. لتقريب القراء من هذه الوثيقة العريضة نقدم في ما يلي فقرات من دراسة تحليلية في الموضوع للأستاذ الفقيد السي عبد الرحيم بوعبيد أحد الموقعين على الوثيقة، يشرح فيها، كيف تم إعداد هذه الوثيقة، وماهو محتواها ومضمونها، وكيف تم تقديمها لجلالة الملك السلطان محمد بن يوسف رحمه لله، وردود الفعل المختلفة حولها. هناك، بداءة، توضيح أولي، وهو أن اختيار تاريخ 11 يناير 1944، لم يكن على الإطلاق يرتبط بحدث تاريخي من الماضي، بل إن الاختيار بررته بالأساس التحضيرات، والمناقشات والاستشارات التي تطلبت عدة شهور. هكذا تم تقديم العريضة – رسميا – إلى جلالة الملك، وإلى الإقامة العامة بالرباط، وإلى الممثلين القنصليين لكل من الولاياتالمتحدةالأمريكية والمملكة المتحدة، بمجرد ما تم تحديد الصيغة النهائية للعريضة، والموافقة عليها من طرف جميع الموقعين، الذين كانوا يمثلون آنذاك مختلف اتجاهات الرأي العام المغربي، باستثناء ممثل الحركة القومية محمد بلحسن الوزاني، الذي كان في ذلك الوقت تحت الإقامة الإجبارية ب «ايتزن»، هؤلاء اعتبروا أن المناخ السياسي الوطني أو الدولي، لم يكن مناسبا بما فيه الكفاية للإقدام على مثل هذا العمل. أما علال الفاسي، زعيم الحزب الوطني، الذي كان في المنفى بالغابون منذ سنة 1937، فلم يكن من الممكن عمليا إشراكه ولا حتى استشارته، ومع ذلك فإن رفاقه القدامى، قد ضمنوا سياسيا، وبدون أدنى تحفظ، موافقته على العمل الذي كنا مقبلين عليه. لقد تمت الاستشارات الأولى في سرية تامة، بين الملك وقادة الحزب الوطني منذ بداية سنة 1942، أي قبل نزول قوات الحلفاء في المغرب، في نونبر 1942. ففكرة تحديد هدف واضح كفيل بتعبئة مجموع الرأي العام الشعبي، وتعريف الرأي العام الدولي بحقيقة نضالنا، تم تحديدها إذن، باتفاق كامل مع العاهل، فهذا الأخير، باعتباره المؤتمن على السيادة الوطنية، والمعترف به من طرف المعاهدات، بما فيها معاهدة الحماية، سيأخذ قيادة المعركة، من خلال تجميع كل القوى الحية في الأمة، ومن كل الاتجاهات، إذا أمكن. وكان احمد بلا فريج، والحاج عمر بنعبد الجليل، ومحمد اليزيدي، ومحمد غازي، وأحيانا الأستاذ محمد الفاسي، يعقدون جلسات عمل، تحت رئاسة محمد الخامس، في وقت متأخر من الليل، كل أسبوع تقريبا، وبطبيعة الحال في سرية تامة. وكانت الاستدعاءات والرسائل تنقل بواسطة بن داوود، وهو أحد خلصاء الملك. وكانت اللقاءات تتم إما في أحد مرائب القصر الملكي بالرباط، أو في إحدى الملحقات الأخرى، وفي بعض الأحيان، كانت الاستدعاءات تقتصر على احمد بلافريج ومحمد غازي. وقد تبين أنه لم يعد من الممكن إعادة طرح مطالب «برنامج الإصلاحات» لسنوات 1934 – 1936، حتى ولو تم تجديدها، لأنها أصبحت متجاوزة، ولم يعد من الممكن كذلك إعادة طرح مطلب الاحترام الدقيق لبنود معاهدة 1912، والتخلي عن نظام الإدارة المباشرة، وإعادة ما تبقى، نظريا، من مقومات السيادة المغربية. وهل كان من الممكن تخيل تصور جديد للحماية بدون مراقبين مدنيين، وبدون ضباط للشؤون الأهلية، يعيد مبادرة إقرار الإصلاحات الضرورية للعاهل المغربي؟ إن تصورا من هذا القبيل، كان سيشكل مغالطة كبيرة للنفس! وحتى وإن حدث، من باب المعجزة، أن هذا التصور اللاواقعي من كل الجوانب، قد حظي بموافقة المخاطب الفرنسي، فإنه كان سيشكل، بالتالي، تهديدا خطيرا للسيادة المغربية. وبالفعل، فمنذ إقامة نظام الحماية، قامت الإدارة الفرنسية، بصورة منهجية بتطبيق سياسة للهجرة والاستيطان في المغرب، لسكان فرنسيين، وعناصر أجنبية أخرى، كما يتم تشجيعها على أخذ الجنسية الفرنسية، بواسطة التجنيس. وقد أصبح المغرب أكثر فأكثر بلدا للاستيطان، على غرار المستعمرات الأخرى (انظر الإحصائيات في كتاب جرمان عياش: «المغرب»، وفي مذكرة حزب الاستقلال المقدمة لهيئة الأممالمتحدة، 1946 – 1947). كان مجموع القطاع الاقتصادي العصري بين أيدي الرأسمال الفرنسي والأجنبي: الوحدات الصناعية، مقاولات الأشغال العمومية، النقل، الأبناك، المناجم، التجارة الخارجية للتصدير والاستيراد، الخ.. وكان حوالي مليون هكتار من الأراضي قد تم تسليمها، عن طريق المصادرة، أو بوسائل اغتصاب أخرى إلى معمرين فرنسيين. وكانت الإدارات المسماة بالإدارات الشريفية – الجديدة ، مكتظة بالموظفين الفرنسيين، باستثناء بعض الوظائف الثانوية التي تركت للمغاربة إما الاقتصار على نوع من التطبيق الحرفي لمعاهدة 1912، ومع افتراض قبول هذا لمطلب، فإنه كان سيؤدي فعلا ، وربما قانونيا، إلى وجود إدارتين، أي حكومتين: الحكومة التي تشرف على تسيير مصالح سكان فرنسيين يتزايد عددهم باستمرار، برئاسة المقيم العام، باعتباره المؤتمن على سلطات الدولة الحامية، وحكومة مجموعة الشعب المغربي، المحروم من كل ثروات البلاد تقريبا. لقد تبين إذن، من خلال التحليل، ومن خلال المعطيات المختصرة المذكورة أعلاه، أن الرغبة بالأحرى في «إصلاح» الحماية، في الإطار القانوني لنفس هذه الحماية، يشكل وهما خطيرا، وموقفا لا واقعيا. فالطريق الأسلم ، من أجل حماية سيادة المغرب، في وحدته وتمامية أراضيه، الطريق الأكثر واقعية، كان يفرض دخول الحركة الوطنية في المعركة من أجل إلغاء معاهدة فاس، وإعلان الاستقلال الوطني. وبطبيعة الحال، فإن الاستناد إلى المبادئ الكبرى المتعلقة بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وإلى المجهود الحربي الذي بذله المغرب إلى جانب الحلفاء وإلى الوعود الرسمية التي قدمها هؤلاء لبلدان عربية في الشرق الأوسط ولبعض بلدان آسيا، بوضع حد للسيطرة الاستعمارية ولاستغلال الشعوب المقهورة، كان يتردد بقوة وبإلحاح مستمرين.. ولكن قناعتنا الراسخة كانت ترتكز أساسا على الأخطار التي كانت تهدد مستقبل بلادنا: خطر رؤية الوجود الاستعماري، المتجه إلى إقامة نظام شبيه بالنظام القائم في جنوب افريقيا، في المغرب وفي مجموع الشمال الافريقي، يتعزز ويتسع. ولم يكن من شأن السبل الملتوية والخطيرة للاصلاحية إلا أن تساعد على ذلك وطبعا، سيعترض الفرنسيون بأننا لانتوفر على الأطر، وعلى التقنيين، وعلى الوسائل المالية، لتطوير الاقتصاد، ومحاربة البؤس والأمية، أي باختصار، يستعملون مظاهر عجز الحماية نفسها، كمبررات، للإبقاء على هذا النظام العاجز. موقفنا سيكون هو موقف التأكيد، عن طريق النضال، بأننا في إطار الحرية المسترجعة، وفي إطار الاستقلال، سنتمكن من تكوين الأطر التي تنقصنا، واسترجاع الوسائل المادية التي اغتصبت منا، وقد تم هذا الاختيار بشكل مقصود ليس بدافع حماسي، بل بعد تفكير علمي. كان علينا أن نكون واقعيين، وأن نحدد كهدف، ما كان آخرون يعتبرونه مستحيلا، أو سابقا لأوانه. لقد كان نص عريضة 11 يناير في نهاية الأمر، وبالصيغة التي نشر بها، تسوية تمخضت عن مختلف المفاوضات التي جرت بين قيادة الحزب الوطني والشخصيات المستقلة. كان هناك في البداية مشروعان أو ثلاثة مشاريع، حرصت على إبراز الكيان المغربي، باعتباره دولة ذات سيادة، معترف بها من طرف مجموع المجتمع الدولي، ثم التحريف الذي اعترض معاهدة 1912 في التطبيق، الشيء الذي مكن الإدارة الفرنسية من الحكم، بدلا من المؤسسات الوطنية، وقد خصص حيز واسع في هذه المشاريع للمقاومة المسلحة للتغلغل الاستعماري، منذ 1912 إلى 1934 إلخ.. وفي الأخير، تمت المصادقة على نص مختصر، ومكثف. وهذا النص، كما يمكن أن نتبين، يحمل من الناحية الشكلية، بل وحتى من ناحية المضمون، طابع التصور الذي يغلب عليه الطابع القانوني. فهو أشبه بنوع من المحاكمة، أو الحكم الصادر عن هيئة قضائية، ب «حيثياته»، ومنطوقه. ولم تكن العريضة، في نظر العديد من المناضلين، تحفة رائعة في الوضوح. إن تحليلا سريعا، لهذا النص، الذي أصبح نصا تاريخيا، يسمح بإبراز النقط التالية: إن حزب الاستقلال هو منظمة سياسية جديدة «تضم» الحزب الوطني وشخصيات مستقلة، من مختلف الاتجاهات، أما الحركة القومية لبلحسن الوزاني، التي رفضت الدعوة التي وجهت إليها، فإنها لا توجد ضمن هذا التجمع. بعد ذلك تأتي «الحيثيات» وعددها عشر، والتي تشكل الأسباب التي تدفع حزب الاستقلال إلى المطالبة بالاستقلال. أربع، فقط، من هذه الحيثيات، تحرص على التذكير بإيجاز شديد، ولكن بشكل غير كاف، بأن الحماية أخلت بمهمتها وتحولت إلى نظام للإدارة المباشرة، أما الأسباب الأخرى، فإنها تسجل من جهة المجهود الحربي الذي بذله المغرب إلى جانب الحلفاء، ومن جهة أخرى، التزام هؤلاء بتلبية تطلعات هذه الشعوب إلى حكم نفسها بنفسها، وذلك بمنحهم الاستقلال لشعوب إسلامية «منها ما هو دون شعبنا في ماضيه وحاضره».. وهذا المبرر، لأنه كان يكرس، نوعا من التصور الاستعماري الذي كان يؤكد أن حق الشعوب في تقرير مصيرها مشروط بمستوى معين من النضج السياسي أو الثقافي.. ومع ذلك فقد احتفظ بهذا المبرر، بالرغم من الاعتراضات المقدمة. فيما يتعلق بالسياسة العامة: يطالب الموقعون على البيان باستقلال المغرب ووحدة ترابه تحت ظل جلالة الملك، ويلتمسون من العاهل السعي لدى الدول التي يهمها الأمر للاعتراف للأجانب المقيمين بالمغرب..» وهنا لابد من تسجيل ملاحظة ذات أهمية تاريخية: وهي أن الملك أصبح يتزعم الحركة الوطنية من أجل الاستقلال، كما منحت له كذلك سلطة تقدير الظروف التي ينبغي أن تفتح فيها مثل هذه المفاوضات. أي باختصار، بعد أن تم الإعلان عن مطلب الاستقلال. فقد أصبح من حق العاهل أن يحدد المبادرات الواجب اتخاذها لدى «الدول التي يهمها الأمر». وكان من الطبيعي أكثر، أن يعبر محررو البيان عن مطلب الاستقلال، بالمطالبة بإلغاء معاهدة فاس الموقعة سنة 1912. فإلغاء هذه المعاهدة كان من شأنه أن يعيد للمغرب سيادته الكاملة: إلا أن هذا الشرط أولي لم يتم التعبير عنه بشكل صريح، الشيء الذي دفع بعض الملاحظين إلى إعطاء تفسير غير واضح المعالم لوثيقة الاستقلال. لقد ذهب هؤلاء الملاحظون، المغاربة أو الفرنسيون، في تحليلهم، إلى حد اكتشاف صياغة مرنة، كفيلة بفتح الطريق أمام مسلسل تدريجي، وبذلك يصبح الاستقلال هدفا يتم الوصول إليه في آجال ينبغي التفاوض حولها، مادام إلغاء معاهدة الحماية غير منصوص عليه صراحة، كموضوع فوري للمفاوضات. فمسؤول الإقامة العامة والإدارة السامية الفرنسية، الذين أعمتهم تصوراتهم المتخلفة، فضلوا مواجهة الحركة بالعنف، وقد كان في إمكانهم يضيف نفس هؤلاء الملاحظين أن يتخيلوا انطلاقا من نص البيان نفسه، وبذكاء أكبر، مخططا لتطور العلاقات الفرنسية المغربية.. هناك ملاحظة ثانية تبرز بوضوح: إن المفاوضات التي ستجري ينبغي القيام بها، حسب النص، مع «الدول التي يهمها الأمر». ففرنسا، القوة الحامية، لم تذكر صراحة. فهل كان ذلك سهوا؟ لا أحد يمكنه أن يسلم بذلك، هل كان نابعا من الرغبة في معاملة القوة الحامية، على قدم المساواة مع الدول الأخرى؟ هل ذلك يعني في هذه الحالة، تجاهل وقائع التواجد الاستعماري في كل مجالات الحياة المغربية؟ كيف يمكن وضع حد لنظام سيطرة واستقلال بدون مفاوضات مباشرة بين المستعمر والمستعمر؟ إن من حق الأمم الأخرى أن تعبر عن تعاطفها، بفعالية متفاوتة، ولكن لا يمكن أن تتدخل مباشرة إلا في حالات استثنائية. من هنا جاءت الأسئلة التي طرحت آنذاك، والتي تتعلق بمعرفة ما إذا لم يكن محررو البيان، من خلال دعوتهم إلى إجراء مفاوضات مع «الدول التي يهمها الأمر للاعتراف بهذا الاستقلال وضمانه، يفكرون في استدعاء مؤتمر دولي، شبيه بمؤتمر الجزيرة الخضراء المنعقد سنة 1906. إذا كان ذلك هو قصدهم، فإنه يدل على جهل خطير بالحقائق الدولية الجديدة. وقد أطلق أحد المزاحين آنذاك هذه المزحة: «… ينبغي على المغرب، البلد الذي يوجد تحت الحماية، أن يطلب من وزيره في الشؤون الخارجية، الذي كان هو المقيم العام، أن يجري مفاوضات مع الدول التي يهمها الأمر، بما فيها فرنسا، للاعتراف بالاستقلال الوطني وضمانه!». وقد كان من الممكن تجنب مثل هذه الالتباسات أو هذا الانعدام في الدقة، لو تم إخضاع النص لمناقشات متناقضة من جانب أعضاء الحزب. ولكن متطلبات السرية، دفعت زعماء الحزب إلى تفويض تحرير البيان إلى مجموعة جد محدودة. بمجرد افتتاح القصر، كان وفد برئاسة أحمد بلافريج في قاعة الانتظار، كما تقرر. وفي هذه الأثناء، جاء مستشار الحكومة الشريفة لمقابلته الأسبوعية المعتادة، ففوجىء برؤية أحمد بلافريج ورفاقه في الانتظار. بعد فترة وجيزة، قامت إدارة البروتوكول بإدخال وفد الوطنيين إلى قاعة الاستقبال. وبقي المستشار في قاعة الانتظار، إلى نهاية المقابلة التي خصصها العاهل، قبل أي شيء آخر، للوفد المغربي. كان جلالة الملك هادئا، هدوءا تواصليا، كان يشعر به كل عضو من أعضاء الوفد. كل قواعد البروتوكول الصارمة تجووزت. فقام أحمد بلافريج، وقد تملكه التأثر الشديد، وسلم لجلالة الملك ملف الوثيقة وقال: «جلالة الملك، لنا عظيم الشرف، أن نقدم لجلالتكم وثيقة صادرة عن حزب الاستقلال الذي يجمع كل الإرادات الوطنية بالبلاد. خلال قرون عاشت بلادنا في كرامة، بفضل معارك تاريخية، بدون انقطاع. وقد فرضت علينا الحماية بالقوة، ضد إرادتكم.. «إننا مقتنعون أشد الاقتناع بأن الله يأمرنا باستئناف المعركة من أجل استرجاع سيادتنا الكاملة، تحت قيادة جلالتكم…». وقد رد العاهل على كلمة الناطق باسم الوفد قائلا: «إن هذا اليوم سيبقى في تاريخ بلادنا، يوما مجيدا. وباعتباري عاهلا للبلاد، فإنني واع تماما بالمهمة التي أوكلها الله إلي. وسأقوم بواجبي كسلطان منذ الغد، بعد دراسة الوثيقة التي قدمتموها إليّ، وسأستدعي المخزن والسلطات العليا لهذه البلاد، لاتخاذ القرار في إطار الإيمان والوفاق، للقيام بكل المجهودات وبذل كل التضحيات من أجل استرجاع سيادتنا التامة وكرامتنا الكاملة كأمة إسلامية، مخلصة للمبادىء الخالدة لديننا الحنيف…» (7). وقد استمرت المقابلة حوالي الساعة، كل موظفي المخزن الذين يتربعون عادة خلف قمطراتهم، مثل نساخ القرون الوسطى، كانوا في حالة اضطراب محموم. كانوا ينتقلون من مكتب إلى آخر، ومن مجموعة إلى أخرى، بحثا عن خبر اليوم، عن الحدث. ولم يتأخر الذين كانوا من بينهم، معروفين بانخراطهم في الحركة الوطنية والذين كانوا محاطين أكثر من أي وقت مضى في الإعلان بصوت مرتفع: «المغرب يطالب باستقلاله!». كان البروتوكول ينص على القيام، بعد المقابلة الملكية، بزيارة الصدر الأعظم، وقد استقبل المقرى إذن، الوفد بالابتسامة، وبالكثير من اللباقة، المحسوبة بدهاء، فهذا الرجل الذي كان يقارب المئة من عمره، كان شاهدا وصانعا للعديد من التقلبات. وقد استطاع الاستمرار، شأنه في ذلك شأن العديد من (Tallu round)، بتجديد قسم الولاء، كلما اقتضى الأمر ذلك، بل إنه نجح في الاحتفاظ بسحنة وردية، وابتسامة متشككة، وجلد أملس تقريبا.. كان اللقاء إذن تافها جدا، حرص الوفد خلاله على تجنب أي إشارة إلى الهدف من الاستقبال الملكي. في نفس صباح هذا اليوم (11 يناير)، استقبل وفد آخر يقوده أحد المستقلين، وهو امحمد الزغاري من طرف الوزير المطلق الصلاحية المفوض لدى الإقامة العامة السيد مارشال (Marshall) هذا الأخير كان معروفا بكونه أحد الرجال الأكثر تفتحا لنوع من التطور للعلاقات الفرنسية المغربية. وبعد اطلاعه على نص البيان، أعلن دون أن يتخلى عن هدوئه بأن العلاقات بين فرنسا والمغرب ينتظرها مستقبل زاهر، نظرا للصلات والروابط التاريخية التي تجمع بين البلدين! وفد ثالث، برئاسة المهدي بن بركة استقبل من طرف قنصل انجلترا، ووفد رابع من طرف قنصل الولاياتالمتحدةالأمريكيةبالرباط (8). وقد قبل القنصلان بعد تردد، تسلم نص البيان، على سبيل الاطلاع، لأن المفوضيتين على حد قولهما، لم تكن لهما علاقات رسمية إلا مع سلطات الإقامة. في منتصف النهار تقريبا، كانت المرحلة الرسمية قد أنجزت، كما كان متوقعا، وقد انتشر الخبر بسرعة البرق: ففي مدن الرباط ثم سلا والقنيطرة، شرع الناس في تبادل التهاني والقبل، وأصبح الحماس يغمر المشاعر، وكان الجميع يبحث عمن يقدم أكثر التفاصيل عن مقابلة القصر الملكي والإقامة العامة أو لقاءات القنصليتين الأمريكية والانجليزية. وفي فترة ما بعد الظهر، كان نص البيان الذي وزع بأعداد من طرف المناضلين، ينقل في عدة نسخ ويوزع من حي إلى حي، ومن مجموعة إلى أخرى، ويقرأ بصوت مرتفع في الساحات العمومية، وفي الأسواق وفي المساجد. وفي فاس ومكناس ومراكش والدار البيضاء وتطوان وطنجة، وفي الأطلس وسوس والمغرب الشرقي، كان الاستقبال الشعبي جنونيا: فرح، وهتافات وتصفيقات ودعوات. لم تكن المطالبة بالاستقلال الوطني مفاجأة: بل كانت بالأحرى تأكيدا لرغبة دفينة في قلوب مجموع الشعب. وكان الحدث الحقيقي هو تولي جلالة الملك محمد الخامس قيادة الحركة الوطنية، هو عقد الثقة وتجلي الإرادة الإلهية وتحدي عشرات السنين من السيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كان ذلك ضمانة للانتصار، على قوى الشر الاستعمارية وعلى الاستعباد. في اليوم التالي، 12 يناير انعقد مجلس وزراء المخزن، بمشاركة باشا مراكش الحاج التهامي الكلاوي والقايد العيادي تحت رئاسة جلالة الملك. وكانت النقطة الوحيدة في جدول الأعمال التي تناولها السلطان هي: عريضة الاستقلال التي سلمت في اليوم السابق من طرف وفد عن حزب الاستقلال. «إنني أوافق يقول محمد الخامس على مضمون وعبارات هذه الوثيقة كعاهل للبلاد. وقد جمعتكم اليوم في هذه الجلسة الرسمية والتاريخية، لكي نتحمل جميعا مسؤولياتنا أمام الله وأمام الأمة المغربية. «أنتم نظريا، الحكومة الشرعية لهذا البلد، ولكنكم وهذا ما تعرفونه أكثر من أي مواطن آخر، جردتم منذ فرض الحماية من كل اختصاصات السلطة، وأصبحتم مجرد صور صامتة، لا تحصلون على أبسط المعلومات حول ما يجري، وما يقرر في غيابكم.. «لقد فرض نظام الحماية على بلادنا بالقوة، والاحتلال العسكري. وهذا النظام نفسه لم يحترم الالتزامات التي تنص عليها المعاهدة…». إن الظروف الدولية ومرحلة 1912/1900، لم تعد هي نفسها اليوم. فالحلفاء الذين حاربنا إلى جانبهم، يبشرون بقدوم عهد الحرية، بالنسبة لكل الشعوب الكبيرة والصغيرة…». «إن ماضينا العريق كدولة مستقلة، وواجبنا أمام الله والشعب، يفرضان علينا إعلان إرادتنا الجماعية في استرجاع المكانة التي نستحقها بين الأممالإسلامية الحرة…». ظل الصدر الأعظم صامتا، مطأطئ الرأس.. فأخذ محمد بن العربي العلوي، وزير العدل الكلمة مباشرة ليقول بصوت جد متأثر: «أشكر الله، يا صاحب الجلالة الذي أمد في عمري لكي أشارك في هذه المناقشة التاريخية.. إنكم تجسدون الاستمرارية التاريخية لهذه الأمة الإسلامية العظيمة، وتجسدون سيادتها وتطلعاتها الأكثر نبلا… وقد اختاركم الله للقيام بهذه الرسالة، رسالة الكرامة، والحق، والعدل. كل الأمة معكم فقل لنا ما ينبغي علينا أن نفعله، ونحن نعتبر أنفسنا منذ اليوم تحت قيادتكم، في طليعة المعركة المجيدة التي تقومون بها. والله سيساعدكم، لأن قضيتنا قضيتكم يا صاحب الجلالة، عادلة…». 2002/01/11