يؤكد العديد من الباحثين المغاربة أن إدارة المخزن، ظلت الفاعل الوحيد الذي راكم تجربة السلطة في المغرب الحديث، والتي استطاعت بلورة أهدافها الشمولية، والتحكم في آليات التدبير والتنفيذ، فهي المؤسسة الوحيدة التي حافظت على وجودها الرمزي والفعلي داخل المجتمع المغربي، واستفادت من التحولات التكنولوجية والحضارية وغيرها، منذ نشأها الأولى، ومنذ بدأ احتكاكها بالغرب (الفرنسي، الاسباني) واحتكاكها بمواثيق الاستقلال والوحدة الترابية. ويعتقد العديد من الباحثين المغاربة، أن الحقل المخزني مازال يتطلب تحاليل ميدانية في غاية الدقة والتخصص.رغم الكتابات التاريخية والسوسيولوجية التي أنجزت عن»المخزن» وتجلياته والتي يزيد بعضها من «وحشية» مصطلح المخزن، ويغرق بعضها الآخر هذا «المصطلح» في التيه والضبابية والغموض. ولدولة المخزن، آليات للحكم…تعود هيكلتها إلى عمق التاريخ المغربي، كانت باستمرار محل اهتمام الفقهاء والعلماء ورجال السياسة. ونرى من المفيد أن نتوقف هنا، التوقف قليلا عند هذه الآليات، وعند وظائفها قبل المضي في قراءة مفاهيمها المتداخلة بهدف وضع تصور واف عنها. ***** تتوزع هذه الآليات على أربع مساحات للسلطة، حدد سلاطين المغرب توجهاتها واختصاصاتها بما يناسب مواقعهم وظروفهم التاريخية. وهذه الآليات هي: أ الولاة: (جمع والي) ويشرفون على الشؤون العامة، الإشراف العسكري. استخلاص الضرائب والذعائر. الإشراف على الشرطة (وينوب عنهم العمال في بعض المدن والأقاليم) . الباشوات: (جمع باشا) (والباشا كلمة من أصل تركي، رتبة عسكرية/ ظهرت (مغربيا) في العهد السعدي، ومازالت مستمرة إلى وقتنا الراهن. تعني في»القاموس المخزني» حاكم المدينة مقابل القايد حاكم القرية. حدد السلطان اختصاصاتها في تنفيذ الأوامر المخزنية وتقديم التسهيلات اللازمة للمخزن، حراسة المخازن العسكرية والقصور السلطانية في حدود نفوذها وتصريف أمور الإدارة المحلية وتوجيهها ومراقبة مهام الشرطة، التصرف في المواد الجنائية والمدنية و التجارية، القيام على شؤون الخزينة والضرائب المحلية . و بعد خضوع المغرب لنظام الحماية (مارس 1912)، تقلصت سلطات الباشا لصالح المراقبين المدنيين الفرنسيين ورؤساء المصالح البلدية، بل إن التغيير شمل حتى مسطرة تعيينهم، الذي كان يتم بظهير يصدره السلطان، ليصبح من الناحية العملية / الإدارية ذا ارتباط وثيق بسلطات الحماية. وقد كان الباشوات في المراكز التي تحولت إلى بلديات، محاطين برؤساء المصالح البلدية وفي المدن الصغرى كانوا في عهد الحماية يعملون تحت سلطة المراقبين المدنيين، ويمارسون السلطة التنظيمية لتنفيذ النصوص القانونية. في عهد الحماية أيضا، كان الباشا (تحت نفوذ المراقب الفرنسي) يمارس السلطة التنظيمية لتنفيذ الظهائر والقرارات الوزارية عبر مراسيم تنظيمية، وبموجب الإصلاح القضائي لسنة 1944 أدخلت تعديلات على قضاء الباشوات المدني في بعض المدن الكبرى، باعتماده نظام القضاء الجماعي الذي أوجد بجانب الباشا مجموعة من المساعدين قبل أن يأتي ظهير 1953 ليحدد إنشاء المحاكم الابتدائية و الإقليمية في استقلال عن الباشا الذي مارس أيضا اختصاص اقتراح وتنفيذ قوانين الميزانية وضبط الحسابات الإدارية وإبرام العقود، غير أن هذه الاختصاصات سواء التنظيمية أو المالية وحتى القضائية قلصتها سلطات الحماية، إذ حرصت هذه السلطات على أن توجد موظفين مخزنيين وبجانبهم جهاز مراقبة فرنسي إلى جانبهم،يمتلك السلطة الفعلية لسلب هذه الاختصاصات. القواد: (جمع قايد/حاكم القرية)، وقد حدد النظام المخزني القديم مهامهم في: التأطير الإداري الذي يتناسب مع ترسيخ السيادة المخزنية بالعالم القروي. وتنفيذ الأحكام وفض النزاعات. وتمثيل كل المصالح الإقليمية والجهوية داخل تراب «القيادة». ولأهمية هذا المنصب الاستراتيجي في السلطة المخزنية،أصبح عبر الزمن ظاهرة فاعلة في النظام المغربي المخزني، كما أصبح ظاهرة في البحث العلمي. على صعيد آخر يقوم القواد بوظيفة التعبير عن المطالب المحلية لدى المخزن / الدولة . في دراسته الشهيرة حول» حوز مراكش» يؤكد الباحث الفرنسي بول باسكون، أن هذا الصنف من أعوان السلطة كانوا إلى عهد قريب يرتبطون بالمخزن ويحكمون باسمه، مقابل تحصيلهم لضرائب خزينة الدولة، حيث كان العديد منهم ينهبون الدولة والمواطنين لحسابهم الخاص من خلالها. وفي قراءة للمفكر المغربي، عبد الله العروي، للقايدية، أنها بنية اجتماعية أفرزها المجتمع المغربي في فترات معينة من تطوره، فهي لم تكن منصبا سياسيا أو إداريا يمنح من طرف السلطة المركزية ولكنها (كانت) قوة عائلية داخل القبيلة، تستطيع أن تتقوى وتتفرع على شكل علاقات شخصية وعضوية إلى أن تصل إلى المركز السياسي أو يصل إليها. وحسب العديد من الباحثين المغاربة أن القايدية، وضعت المخزن باستمرار أمام مقاربة ليست سهلة، تتمثل بالأساس في التوازن بين طموحه نحو التواجد بمختلف أنحاء المجال المغربي وقصوره في أن يمتلك أدوات إدارية تخول له تحقيق هذا الطموح. وفي هذا السياق، اعتمد المخزن في الماضي كما في الحاضر أيضا، على شبكة من القواد، تمتد وتتقلص حسب قوته أو ضعفه، تضطلع بوظيفتين أساسيتين : أ/- التأطير الإداري، يسند بموجبه للقواد الوظائف التي تتطلبها السيادة المخزنية، سواء تعلق الأمر بجمع الضرائب، أو بمهام مركزة المعلومات، أو تطبيق الأحكام، وفض النزاعات. ب/- التعبير عن المطالب المحلية، فالقائد بمثابة الممثل الرسمي لكل المصالح الإقليمية والجهوية الرسمية، ومن خلاله يتوصل المخزن بمطالب سكان القبائل، حيث يقومون بمهمة التوسط لدى المخزن، لإطلاق سراح بعض أفراد القبائل من السجن أو لطلب تخفيض نسبة الضرائب، أو التشفع لدى المخزن أو طلب الأمان لبعض القبائل الثائرة. وفي العهد الاستعماري، بدأ القواد يلعبون أدوارا سياسية، حيث عملت الإدارة الاستعمارية على توظيفهم في تنفيذ سياستها بربط مصالحهم بمصالحها وامتيازاتها.. إذ حددت وظيفتهم في التهدئة السياسية للقبائل الرافضة للحماية والمراقبة الإدارية لمجالهم الترابي. الشيوخ والمقدمون: (جمع شيخ ومقدم) عناصر الجهاز الإداري الأكثر انغراسا في الساكنة، يمارسون تحت سلطة القواد المخزنيين مهامّ متعددة: تأطير الأسواق المحلية الأسبوعية./تحديد أوقات الحرث والحصاد/ توزيع الاستفادة من المواد الجماعية كالمراعي وتنظيم توزيع المياه / مساعدة ومؤازرة الأرامل والفقراء والفقهاء المتعاقدين مع الجماعات القروية / الإشراف على تنظيم المواسم المرتبطة بالأولياء/ الفصل في بعض الجنح. /جمع الغرامات والضرائب. وفي النظام المخزني القديم أيضا، كان يتم تعيين هذه الشريحة من معاوني رجال السلطة بالتراضي من طرف أعضاء الجماعة التي تجتمع بانتظام في جلسات عمومية مرتين في السنة على الأقل، بمباركة القائد المعين بظهير السلطان، وبعد تمدنا هذه الشبكة المترابطة من الآليات، بحقيقة لا يمكن الاختلاف حولها، وهي أن سلطة المخزن، استمدت وجودها وسلطاتها دائما وباستمرار من السلطان، فبسلطاته اللامحدودة، يشرف الولاة والباشوات والقواد على الشؤون العامة للبلاد في العالمين الحضري والقروي على السواء. إذ تخضع كل السلطات والقوانين إلى نفوذها المباشر، وحتى في العهد الاستعماري (1912 – 1955) ظل مفهوم السلطة المخزنية ثابتا وراسخا في الإدارة الترابية، حيث استوعبت الإدارة الاستعمارية ما هو مخزني في علاقتها مع «الأهالي» تحت تأثير الازدواجية التي تبنتها هذه الإدارة، وهو ما أحدث هوة سحيقة بين الدولة المغربية ومحيطها المغربي، من جانب، وبينها وبين الإدارة الاستعمارية من جانب آخر. وفي نظر العديد من الباحثين والدارسين الذين استعرضنا بعض شهاداتهم، حول المخزن ومفاهيمه ووظائفه، أن الذي صنع حقيقة السلطة، عبر التاريخ، تلك الروابط التي توجد بين المؤسسات السياسية والعسكرية والصناعية، وأن السلطة، كانت ولاتزال هي الطبقة القائدة لكل عصر من العصور. فهي (أي السلطة) نخبة قليلة، ولكنها قائدة، في مواجهة الجماهير. أقلية تختصر التاريخ إلى صراع بينها وبين النخب الأخرى للبقاء أو للوصول إلى السلطة وإلى أهدافها البعيدة. ***** نستخلص من شهادات الباحثين حول السلطة في المجتمع المغربي عامة وفي الوسط القروي على الخصوص ،أنها باستمرار قامت على أساسين: التنظيم الاجتماعي الأعراف في الماضي، تركزت على الجذور القبلية والعائلية (القروية والمدنية) كرموز للارتقاء الاجتماعي، من هذه الجذور تستمد مفهومها وممارستها، كما استمدته من الأعراف المتبعة،حيث تعتبر نفسها سلطة مكتملة الأبعاد والصلاحيات، إنها في العرف القبلي كما في الأعراف المدنية استمدت نفسها دائما من نهج العشيرة أو الأسرة، قدسيتها تتأكد من العلاقة التي تجمع المجتمع (القروي أو المجتمع الحضري) بالحاكم : إجلال و خضوع كامل و غير مبرر عقليا ، ذلك لأن الخوف يمتلك المواطن الفقير/ الأمي/ المهمش/ الجاهل بالقانون، في حالة عدم الطاعة، يتعرض للانتهاك. ليصبح التداخل السياسي والمقدس غير قابل للجدل… هكذا تبدو السلطة في المفهوم المخزني العتيق، ذات شخصية مستقلة لم تخضع ولم تتأثر بالمفاهيم الأخرى، سواء ذات المرجعية الإسلامية، أو ذات المرجعية الغربية، فهي ذات نسق خاص، ظل ثابتا في آلياته ومكوناته لعقود طويلة من الزمن المغربي، إلى أن حملت رياح القرن العشرين مفاهيم أخرى على يد الإدارة الاستعمارية، ثم على يد إدارة الاستقلال، حيث وقع تعديل بعض القوانين المتصلة بالسلطة المخزنية، دون المساس بجوهرها، وهو ما جعل سلطة المخزن تبقى مستمرة، محافظة على مفاهيمها الثقافية وقيمها إلى اليوم.