شكلت المجلات الثقافية في المغرب وعلى امتداد عقود محركا أساسيا للمشهد الثقافي الحديث والمعاصر، تحديدا منذ فترة الاستعمار إلى حقبة الثمانينيات، وهي مجلات تنوعت مشاغلها واهتماماتها بين قضايا الفكر، الفلسفة، الأدب، النقد، الفنون التشكيلية والبصرية والسمعية وغيرها. وهنا بالضبط برز دور الفاعل الثقافي المغربي. وتعتبر مجلة جسور مجلة فكرية ثقافية فصلية أسسها وتولى إدارتها الأستاذ عبد الحميد عقار، صدر عددها الأول عام 1981 واستمرت في صدورها بانتظام إلى غاية العدد 6 من سنة 1983، قبل أن يتم توقيف العدد المزدوج (7-8) وهو قيد الطبع بقرار إداري جائر في شهر يناير 1984 في سياق حملة قمعية شرسة طالت العديد من المجلات والمنابر والجمعيات الثقافية الديمقراطية والتقدمية، منها مجلاّت: الثقافة الجديدة، المقدمة، بديل، فضلا عن مجلة «الجسور». نظم مختبر الفلسفة والشأن العام، يوم الخميس 23 نونبر انطلاقا من العاشرة صباحا بفضاء عبد الله العروي، لقاء حواريا مع مدير مجلة «الجسور» الأستاذ عبد الحميد عقار بمشاركة الأستاذ موليم لعروسي كرئيس للجلسة، والأستاذ عبد المجيد جهاد، مقدم ورقة اللقاء. وقد نظم هذا اللقاء في إطار برنامج علمي يسهر عليه مختبر الفلسفة والشأن العام تحت عنوان: «صفحات من تاريخ الثقافة الوطنية: المجلات الثقافية»، والبرنامج بمبادرة من الأستاذ عبد الإله بلقزيز. n عبد الحميد عقار: منع المجلة لم يكن له سند قانوني ولم يقدم له أي تفسير قال عبد الحميد عقار «إن التفكير في إنشاء مجلة ثقافية أو فكرية لها تميز وذات فاعلية وتأثير يعود إلى مفتتح السبعينيات، عندما شرعَت حينها صفوة من الأصدقاء كان القاسم المشترك بينهم التدريس والعمل النقابي آنذاك، وانشغال الفكري بدرجات متفاوتة بقضايا الوطن والعالم بمرجعية ومنظور مغاير للسائد والمعتاد، بالتحليل والاستدلال وإبداء الرأي. فيما بعد، تبلورت الفكرة قصد التنفيذ رفقة كل من خديجة المنبهي وعزيز لوديي». ومن ثم يضيف المتحدث كانت «الحاجة إلى منبر فكري مستقل جديد ومتحرر من أي وصاية، منبر يسائل معضلات الواقع ومفارقاته وإشكالاته السياسية والاجتماعية والمعرفية، يراجعها ويرفض الالتفاف عليها رسميا من السلطات ومجتمعيا. فكانت مجلة الجسور أداة فكرية تسهم في إنتاج خطاب فكري نقدي فيه قدر كبير من الجرأة، مؤسسة على التحليل المبني على معطيات ملموسة من الواقع المعاش، أو من التاريخ المعاصر، للآثار الممتدة في الوعي والممارسة، اعتبارا لأهمية الذاكرة وفعلها في مجال الحاضر». وقد أكد رئيس اتحاد كتاب المغرب سابقا، أن إنشاء مجلة تنهض بدور النقاش فيما يشهده المغرب والعالم العربي من أزمات وتناقضات وانتفاضات، بل في ما يحياه من انكسارات سياسية كذلك، نقاش كان يمتد إلى داخل السجون بين المعتقلين السياسيين أو بين بعضهم على الأقل. وعن خط مجلة «الجسور»، صرح عقار بأن خطابها لم تكن مرجعيته مثالية ولا ماضوية، بل كان ينهل مقولاته ومفاهيمه أولا من الماديتين الجدلية والتاريخية، ومن مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية. مبرزا بأنه خطاب كان يتأسس على المعرفة، يبتغيها ويبنيها ويسهم قدر الإمكان في تطويرها ونشرها، خطاب قوامه ومبتغاه مراجعة المسلمات، أو مراجعة الأفكار والأطروحات والممارسات المتداولة. بالنسبة إلى المنع الأبدي الذي تعرضت له المجلة بعد إصدارها ستة أعداد فقط، أعلن عقار أن المنع لم يكن له سند قانوني، ولم يقدم له أي تفسير أو توضيح له سوى رد السلطات، مشددا على أن المنع دائما يخلق الحاجة إلى الإضافة، فبمجرد ما منعت المجلات الأربع (الثقافة الجديدة، بديل، الجسور) ظهرت مجلات أخرى. وهو منع وتضييق وصفه رئيس جلسة اللقاء، بالمنع ضد فكر جديد، للدفع للساحة بفكر آخر. n عبد المجيد الجهاد: المجلة فرضت نفسها رغم أن المجال حينها كان بالغ الحساسية قدم عبد المجيد الجهاد، أستاذ الفلسفة في كلية بنمسيك في الدارالبيضاء، ورقة يعرف فيها بالمجالات الثقافية في المغرب مركزا على مجلة الجسور محور حديث اللقاء، مبينا السياق والظروف المحيطة التي أدت إلى ظهور عدة مجلاّت ثقافية وفكرية، وهي الفترة التي اتسمت بظهور المثقف بحضوره الفعلي. وقال الجهاد، «على الرغم من قصر عمر المجلة فقد فرضت نفسها، وأكدت حضورها في المشهد السياسي والثقافي، حيث كان المجال حينها (1981) بالغ الحساسية إذ اتسم على الخصوص باحتدام الصراع الاجتماعي والسياسي بين مكونات الصف الديمقراطي والسلطة السياسية في البلاد، منه إعلان الحكومة عن الزيادة في أسعار المواد الأساسية، وما تلاه من إضراب عام عُرف ب»إضراب كوميرا». لم تكن الفترة بالسهلة في تاريخ المغرب نهائيا، خاصة بعد أن خلفت تلك الأحداث، إضافة إلى الاعتقالات والتعنيف والقمع، عددا من القتلى والجرحى اشتهروا لاحقا باسم «شهداء كوميرا»، وهو النعت الذي أطلقه عليهم حينها وزير الداخلية ادريس البصري استخفافا بهم وبمطالبهم الاجتماعية». وسط هذا المناخ الاجتماعي والسياسي المتأزم وفي ظل مرحلة تميز الصراع فيها بالنضال من أجل المطالب الديمقراطية وبالنضال ضد أشكال الاستغلال والقهر الطبقيين، باعتبارهما أسبقية أساسية في المشروع السياسي التقدمي الديمقراطي، ستصدر مجلة الجسور بشعار مركزي هو «مجلة الفكر الديمقراطي». ومن هذا المنطلق عملت المجلة على التأكيد على دور الثقافة في التغيير والتحديث بموازاة النضال السياسي. وهو ما ترجمه شعار المجلة ممثلا في قولة للمسرحي الألماني «برتولد بريخيت»، وهو الشعار الذي ظل يتصدر مجموع أعدادها، والذي يحدد في «الخدمات التي تنتظرها البروليتاريا من المثقفين» واعتبر المتحدث أن»الجسور» جعلت من ضمن أولوياتها الاهتمام بالنظرية الثورية الماركسية في نسختها المزيدة والمنقحة، وتأكيدها على تبنيها الواضح للاشتراكية العلمية وعلى دراسة التراث الاشتراكي الإنساني والاستفادة من دروس الثورات الشعبية، وخاصة الروسية والصينية والفيتنامية وأيضا الفلسطينية، والانفتاح على الفكر الراديكالي، فضلا عن أنها ظلت تؤكد دوما على الدور الحيوي للنقد والنقد الذاتي، والتقييم المستمر للممارسات والمواقف والأهداف والأسس النظرية. وأضاف قائلا «المجلة عكست وعي حركة اليسار الجديد، أو على الأقل جزء أساسي منه، بتحديث مفهوم الثقافة، إذ لم تعد فيه الثقافة مجرد فضلة، بل أصبحت مدخلا للتغيير المؤسًّس على الفكر. وأيضا التركيز ضمن المشروع الفكري للمجلة على دور المثقف في العمل داخل الحقل «المدني» والرفع من وعي الشرائح الاجتماعية الدنيا، والتأسيس لفكر ديمقراطي جديد يؤمن بالحوار والنقاش بديلا عن المواقف العدمية التي طبعت ممارسات اليسار الحديث في بداياته الأولى».ترجم اختيار المجلة لهذه الأهداف – حسب عبد المجيد الجهاد – تحولا نوعيا في تجربة اليسار، تمثلت أساسا في مراجعة العديد من مسلماته وأطروحاته السابقة، كالدوغمائية وادعاء امتلاك الحقيقة الموضوعية، والوعي بضرورة القطع مع ثقافة الشعارات، والمساهمة النظرية من موقعها كمنبر متفتح على كل الآراء التقدمية والديمقراطية في إنضاج الشروط الذاتية والموضوعية الكفيلة بتحقيق مشروع اليسار في التغيير، والتأسيس لفكر ديمقراطي جديد يقوم على إفساح المجال للنقد والاشتغال النظري. n عبد القادر كنكاي: عبد الحميد عقار بصم جيلا من الشباب المغربي وأشاد الدكتور عبد القادر كنكاي، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية-بنمسيك بهذه المناسبة بتنظيم هذا اللقاء، مشددا على أن له خاصية مميزة تعكسها نوعية الضيوف وطبيعة مشروع البرنامج، والحوار بين جيلين، أو على الأقل بين السابق واللاحق. وقال كنكاي في مستهل افتتاحه للقاء «عبد الحميد عقار بصم جيلا من الشباب المغربي عندما كان يتحمل المسؤولية الإدارية لاتحاد كتاب المغرب»، وأثنى على مبادرات أساتذة شعبة الفلسفة بكلية بنمسيك الذين ظلوا دوما ينظمون أنشطة ذات بعد ثقافي وبعد استراتيجي وبعد أكاديمي بعيدا عن البهرجة، بعيدا عن الثقافة النخبوية التي تجعل من الكلية فضاءً للدروس فقط، بل فضاء للقاء والحوار وتبادل التجارب، معتبرا أنها فضاء لخلق أواصر ما بين الأجيال لنضمن الاستمرارية للمستقبل لهؤلاء الشباب، لأنهم مستقبلنا. يذكر أن شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك دأبت منذ تأسيسها في عام 2004 على تخصيص جزء هام وأساسي من برنامجها الثقافي والعلمي للقيام بقراءات في بعض المشاريع الفكرية الرائدة، غير أنها منذ السنة الفارطة شرعت في العمل على سلسلة من اللقاءات مع مديري ومسؤولي المجلات الثقافية التي كان لها حضور وازن ومتميز في الحقل الثقافي في المغرب. وبادر بإخراج هذه السلسلة إلى حيز الوجود الأستاذ عبد الإله بلقزيز، أستاذ الفلسفة بالكلية نفسها.