1 بعد أن أصدر الناقد النفسي الفرنسي المعاصر بيير بيار Pierre Bayard كتابًا سنة 2007 تحت عنوان: كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها؟، وكان له دوي كبير في الأوساط النقدية والثقافية والتربوية، وقد سبق أن قدمناه للقارئ ( 1 ) ، فاجأ قراءه سنة 2012 بكتاب جديد تحت عنوان: كيف نتحدث عن أمكنة لم نزرها من قبل؟(2 ) ، ويبدو من عنوانه أنه لا يخلو من غرابة: هل يمكن فعلا أن نتحدث عن أمكنة لم يسبق لنا أن كنَّا فيها؟ هل سيقودنا الكتاب إلى الطرائق التي تسمح بالكتابة عن مكان من دون أن ننتقل إليه فعليا؟ وما قيمة الكتابة عن مكانٍ بعيدٍ من دون أن يغادر الكاتبُ مكانّه الأصلي؟ 2 ينطلق الناقد في مقدمة كتابه من أن " لاشيء، في الواقع، يقول بأن السفر هو أفضل وسيلة لاكتشاف مدينة أو بلدٍ لا نعرفه. وبالعكس، فكل المؤشرات تدفعنا وتجربة العديد من الكُتَّاب موجودة من أجل تعزيز هذا الإحساس إلى التفكير في أن أفضل وسيلة للحديث عن مكانٍ ما هو أن تلازم بيتك. " ( 3 ). وهكذا، فالمسألة لا تتعلق بمعرفة ما توفره المعرفة بأمكنةٍ غريبةٍ، فزيارتها لا يمكن إلا أن تفيد كلَّ صاحب فكر منفتح، بل إن المسألة هي أن نعرف ما إذا كان من الضروري أن تقوم بهذه الزيارة بطريقة مباشرةٍ أو أن الأفضل هو أن نمارسها من خلال أشكالٍ أخرى غير التنقل الفيزيقي إلى المكان عينه. ومن هنا، فإن هذا الكتاب مكرَّسٌ لنوع من الكتَّاب الذين يسميهم بيير بيار ب: المسافر الملازم لبيته voyageur casanier، فالأمر يتعلق هنا بكُتَّابٍ أوتوبيوغرافيين وصفوا بطريقةٍ دقيقةٍ أمكنةً لم يسافروا إليها أبدًا؛ فبفضل قوة كتابتهم، نجحوا في أن يجعلوا تلك الأمكنة أكثر حضورًا مما قد يقوم به مَن يرى أنْ من الضروري الانتقالَ إلى تلك الأمكنة. لكنَّ هذا الكتاب لا يهتم بالكُتَّاب فقط، فهو يستحضر كل مَن يمارس الكتابة، بحكم المهنة أو بطريقة عابرة( علماء الأنتروبولوجيا، الصحافيون، الرياضيون)، قادتهم بعض اللحظات من وجودهم إلى وصف أمكنة لم يسبق لهم، لأسبابٍ مختلفة، أن انتقلوا إليها فعليا. وفوق ذلك كله، فإن طموح هذا الكتاب هو " التفكير في العلاقة التي يقيمها الأدب مع العالم الذي يقوم بوصفه، وخاصة مع الأمكنة التي يستقبلها. " (4): أن يكون هناك كُتَّابٌ يجعلون من أمكنةٍ لا يعرفونها أمكنةً واقعية، وأن يمنحوها شكلا في الوجود مقبولا، أمرٌ يطرح في الواقع مسألة مهمة تتعلق بمعرفة ما هي طبيعة الفضاء الذي يعالجه الأدب، وكيف يتمكن من أن يجد له مكانًا داخل اللغة(5). والأكبر من مسألة الفضاء الأدبي، فإن مسألة الحقيقة داخل الأدب هي التي تفرض نفسها هنا من خلال هذه التخييلات الخِطابية. وبطريقةٍ موازية، وإذا كان علم الجغرافيا يقدم حقيقة علمية حول الأمكنة، فإنه توجد صورة أخرى لحقيقة العالَم في كتابات هؤلاء المسافرين الذين لا يغادرون بيوتهم ولا ينتقلون فعليا إلى الأمكنة موضوع وصفهم وسردهم. ونكتفي في هذا المقال القصير بتقديم نماذج من هؤلاء الكُتَّاب الذين تحدثوا عن أمكنة لم يسبق لهم أن زاروها من قبل. 3 من أشهر الرحلات في التاريخ رحلات ماركو بولو(1274 1324) Marco Polo ، هذا الرحالة الذي ارتبط اسمه بالمغامرة واكتشاف الأراضي المجهولة، فصار بذلك رمزًا لهذا الجمع بين المعرفة والشجاعة البدنية. وما كان يشد انتباه جمهوره هو محكياته الموثقة التي تناقلها النساخ منذ قرون، وهي محكياتٌ تقدم معرفة متميزة جدا بالعالم الأسيوي في القرون الوسطى، وخاصة بالإمبراطورية الصينية التي كانت في ذلك العصر مجهولة عند الغرب. لقد كان ماركو بولو يدعي أنه استقر بالصين مدة طويلة، وكان تكليفه بمهام كبيرة، لكن وثائق الإمبراطورية المحفوظة لا تحمل أيَّ أثر عن كل ذلك، وهناك ثغرات كبيرة في محكيه، إذ نقرأ وصفًا للصين في صفحاتٍ عديدةٍ من دون ولو إشارة واحدة إلى سور الصين العظيم الذي يمتد لآلاف الكليوميترات، والذي لابد أن يكون الرحالة قد عبره مرات عديدة. ولأنه كان شديد الانتباه إلى العديد من الطرائف، فإنه لم يجد ما يقوله عن ربط الأقدام عند الصينيات، أو عن حفلات الشاي، أو عن بعض طرقهم الخاصة في الصيد، أو عن خصائصهم اللسانية اللافتة للانتباه... وهذه الملاحظات وغيرها هي التي قادت بعض المؤلفين من ذوي الفكر اليقظ(6) إلى أن يشككوا في أن يكون ماركو بولو قد زار فعلا بلاد الصين، مسجلا أن كتابه يتقدم كأنه جمعٌ من البطاقات أكثر مما يظهر باعتباره محكيَّ سفرٍ حقيقي. وانطلاقًا من هذه الشكوك، يتقدم بيير بيار بافتراض أن ماركو بولو لم يغادر أبدًا قسطنطينية، هذه المدينة التي بها كانت عائلته تعمل في التجارة البحرية وفي نقل العديد من المسافرين الذين، بلا شك، كان لهم الفضل في تغذية أحلام يقظة ماركو بولو بواسطة محكياتهم. ولكن ما ينبغي لنا أن نسجله، في نظر بيير بيار، هو أن لماركو بولو خيالا واسعًا، وأن رحلاته تؤكد أن محكي السفر هو أفضل مكانٍ لممارسة التخييل. 4 إذا كان هناك من مجال يفرض السفر، فهو الأنتروبولوجيا، إلى حد أننا نجد ليفي ستراوس يبدأ كتابه المشهور مدارات حزينةTristes tropiques بجملةٍ مثيرةٍ: " أكره الأسفار والمستكشفون "، قبل أن يشرع في محكي مفصَّلٍ عن أيامه بأمريكا اللاتينية، بطريقةٍ تكشف أن السفرَ حاسمٌ في مهنة الأنتروبولوجي. وهل كان من الممكن أن نعرف شيئًا ما عن جزر الساموا Iles de Samoa، وعن الحياة الجنسية لسكانها، بل وعن الحياة الجنسية للإنسان بصفة عامة، لولا أعمال مارجريت ميد( 1901 1978)Margaret Mead، ولولا أسفارها في الثلاثينيات من القرن الماضي التي خدمت العلم، وساعدت على اكتشاف شعوبٍ أخرى. والأطروحة المركزية في كتابها، M?urs et sexualité en Océanie, 1928 et 1935 الذي حقق لها نجاحًا عالميا، هي أن الجنسَ في جزر الساموا أكثرُ حريةً من الجنس عند الغربيين، فشباب الساموا يكثرون من التجارب الجنسية قبل الزواج، ولا تمنعهم عن ذلك أي ممنوعات مستبطنة كما نلاحظ عند شباب أمريكا الشمالية؛ ولهذا، فالمراهقة في جزر الساموا ليست أبدًا مرحلة أزمة أو توتر، بل بالعكس تتميز بكونها تطورًا هادئا نحو مرحلة النضج. والشباب في هذه الجزر يجهل الحب الرومانسي كما يعرفه شباب الغرب، لأن هذا الحب مرتبطٌ بفكرة الزوجة الواحدة والوفاء والغيرة وغيرها من الأفكار والمقولات التي تحكم المجتمع الغربي. وفي عصر مارجريت ميد، كان لهذه الأطروحة صدًى كبيرًا وطيبًا في الأوساط العلمية والثقافية، وبدأ السؤال عن الدور الذي تلعبه الثقافة في تحديد السلوكات وتوجيهها، وإلى أيِّ حد يمكن اعتبار مكتسبات المحيط السوسيوثقافي أهمَّ من المكتسبات الفطرية للإنسان... وكان التحول الجذري، الذي سيعرفه النقاش حول أطروحة مارجريت ميد وكتابها، مع صدور كتاب الأنتروبولوجي ديريك فريمان Derek Freeman الصادر سنة 1984 تحت عنوان: Margaret Mead and Samoa, The Making and Unmaking of an anthropological myth ففي هذا الكتاب ذي النبرة السجالية، وضَّح هذا المتخصص في جزر الساموا أننا قضينا الكثير من الوقت في تأويل الوقائع التي وصفتها مارجريت ميد من دون أن نعمل على أن نفحص أولا ما إذا كانت تلك الوقائع موجودة فعلا، فالحريةُ الجنسيةُ عند شباب الساموا التي جعلت العالمَ جميعًا يحلم بها ليست إلا أسطورة لا وجود لها على أرض الواقع. والحجة الأولى تهم الناحية النظرية، ذلك أن الأطروحة ذات النزعة الثقافية التي تدافع عنها مارجريت ميد في رسالتها الجامعية هي السائدة في عصرها بالولايات المتحدة، بل إن من أكبر المدافعين عنها فرانز بواس المشرف على أطروحتها. وقد تعاملت مع الوقائع بكل الطرق الانتقائية والإسقاطية التي تسمح بالانتصار لأطروحة أستاذها. والحجة الثانية تعني الناحية العملية، ذلك أن مارجريت ميد لم تقضِ إلا عشرة أيام في بلدة في الساموا، ثم قررت بعد ذلك، من أجل إقامة مريحة، أن تستقر في الجوار عند عائلة أمريكية. وبهذا، كانت محرومة من الملاحظة المباشرة التي ستسمح لها بفحص فرضياتها، وكان جهلها بلغة الساموا يوسع من المسافة التي تفصلها عن الذوات التي تريد دراستها. والحجة الثالثة أن مارجريت ميد كانت تستعين، وهي بعيدة عن مجال الملاحظة، بشهادات مجموعةٍ من الشباب الذين يقومون بزيارتها يوميا، وهي شهاداتٌ تنتمي إلى خيالاتهم وأحلامهم أكثر مما تنتمي إلى الواقع. وإجمالا، فأن تقوم الباحثة بوصف مكانٍ عن بُعد، مع إعطاء الأفضلية لشهادات المخبرين أكثر من ملاحظاتها الشخصية، هو ما قادها إلى أن تؤلِّفَ، دون علمٍ منها، روايةً تخييليةً حقيقية، تبناها القراء والعلماء لأجيالٍ من دون فحصٍ وتدقيق. ومع ذلك، فهذا التمثل لجزر الساموا قد حقق نجاحًا كبيرًا عبر العالم، لأنه كان يناسب أفقَ انتظارٍ عام: أن تعملَ هذه الأراضي الجديدة المستكشفة على إعادة الحياة إلى هذه المنطقة المستهامة fantasmée التي ذقنا فيها طعم السعادة ولكن انفصلنا عنها منذ زمن طويل. فقد لا يهمُّ أن يكون هذا التمثلُ صحيحًا أو غيرَ صحيح، وذلك لسبب أساس: إليه يعود الفضل في تذكيرنا بأنه من الصعب النفاذ إلى مكانٍ ما من دون أن نُسقِط عليه، مباشرةً، شبكةً من الاستيهامات الشخصية المشبعة بهذا الحلم الذي يسكننا: الحياة الجنسية السعيدة. 5 تفرض مهنة الصحافة، هي الأخرى، السفر، وخاصة إلى الخارج؛ وربما لهذا السبب تُعتبَر مهنة خطيرة، وقد لا نستطيع عَدَّ عددِ الصحافيين الذين يضحون، في كل سنة، بحيواتهم من أجل أن ينقلوا إلى قرائهم أخبارًا موثوقة. ومن هنا قد يطرح بعض الصحافيين هذا السؤال: أليس من الأفضل أن يقوم الصحافي بالملاحظة عن بُعْد، فلا يخاطر بحياته، وقد يسمح له ذلك برؤيةٍ شاملةٍ من دون أن يتورط كثيرًا كما يحدث للعديد من الصحافيين الذين ينتقلون إلى المكان عينه؟ نهاية شهر أبريل 2003، وجد جايسون بليرJayson Blair، الصحافي في جريدة نيويورك تايمز New york Times، نفسه في وضعية صعبة هي التي يحكيها في بداية كتابه الأوتوبيوغرافي: Burning down my Master?s House لقد كان مدعوًا إلى اجتماعٍ نظمه زملاؤه الذين يريدون توضيحات منه بخصوص مقالٍ نشره مؤخرًا في نيويورك تايمز، فهناك أوجه شبه غريبة بينه وبين مقالٍ آخر ظهر قبل أيام بجريدة أخرى(San Antonio Express-News). وكان مقال بلير حول عائلة جندي في عقده الثالث اختفى بالعراق(le sergent Edward Anguiano)، وقد ادعى الصحافي أنه قد استجوب هذه العائلة في مدينتها لوس فريسنوسLos Fresnos القريبة من الحدود المكسيكية. ولم يكن هذا المقال لِيَمُرَّ من دون أن يلفت الأنظار، فقد ظهر في الصفحة الأولى من نيويورك تايمز، وهذا أمرٌ لا يمكن إلا أن يكون حلمَ كلِّ صحافي من صحافيي أكبر جريدةٍ في العالم. وقد وضح لزملائه الظروف التي أنجز فيها المقال، بحيث كان يحتفظ بالعديد من الوثائق والبطاقات في حاسوبه، ومنها فقرات من ذلك المقال الآخر المنشور بجريدة أخرى، ولاشك أن الأمر قد اختلط عليه، فاعتبر تلك الفقرات جزءًا من ملاحظاته الشخصية. وقد اقتنع بعض زملائه بتوضيحاته، فهذه من أخطاء المهنة المألوفة، لكن جايسون بلير كان بينه وبين نفسه يعرف أن الأمر أكبر من ذلك، فالحقيقة هي أنه لم يغادر أبدًا شقته في بروكلين. لكن بعض زملائه ما انفك يحاصره على مرِّ الأيام بأسئلة مقلقة ومزعجة، فكانوا يطلبون منه أن يحدد بدقة كل العناصر التي كانت الأصل في الخلط بين المقالين، وكانوا يبحثون عن فاتورات النفقات التي تعود إلى سفره إلى لوس فرينوس، فما كان منه إلا أن قرر الاستقالة من جريدة نيويورك تايمز، والدخول إلى مصحة من أجل الاستشفاء. لم يكن الأمر يتعلق بالمرة الأولى التي يصف فيها بلير أمكنة في مقالاته من دون أن يكون قد انتقل إليها وزارها، فما يوضحه في مجموع كتابه هو كيف بدأ شيئا فشيئا يُحَوِّل تقنية الملاحظة عن بُعْد إلى عادةٍ، بل إلى فلسفة. ففي الواقع، فإن كتابة مقالاتٍ عن بُعْد لم تفرض نفسها عليه دفعةً واحدة، بل تبعًا لسلسلة من الظروف. ويمكن أن نستخلص من كتابه الأوتوبيوغرافي ثلاثة توضيحات تفسر هذا السلوك الذي صار عادة مألوفة في حياته الصحافية: أولها حالته النفسية التي تتصف بالهوس الاكتئابي، وهي التي جعلته يَمُرُّ بمحطاتٍ من الاضطراب والإحباط والاكتئاب، ودفعته إلى ضرورة الاستشفاء في مصحة بعد استقالته. والثانية هي إدمانه الكحول والمخدرات التي يلجأ إليها العديد من زملائه من أجل مواجهة إكراهات وتوترات مهنة الصحافة. والثالثة أن بلير لم يعد يشعر بالراحة في جريدته التي صارت تفضل بعض المقالات من أجل الرفع من المبيعات، بالرغم من أن تلك المقالات غير ذات عمق. لكن لابد أن نسجل أن بلير لم يكن في مقالاته يحكي أيَّ شيء، بل كان حريصًا على الدقة، ولو عن بُعْد، وكان حريصًا على الحصول على المعلومات، بواسطة الاتصال هاتفيا بالأشخاص المعنيين، وبواسطة جمع ما أمكن من الوثائق حول الموضوع؛ وقد يحدث أن يضيف بعض التفاصيل عندما تبدو له ضرورية من أجل الرفع من درجة الشعور بواقعية الأشياء. وانشغاله بالتفاصيل كان هو ورطته في العديد من المقالات: في مقال يعود إلى 27 مارس 2003، ستكون مفاجأة أبِ جنديٍّ آخر، كان قد اختفى هو الآخر بالعراق، كبيرة؛ فالأب جريجوري لانش سيقرأ في نيويورك تايمز أن مدخل بيته مفتوح على المراعي و حقول التبغ، وهذا ما لم يكن يتصوره في يوم ما. إذا تركنا جانبًا أخلاقيات المهنة يقول بيير بيار ، فإن حكاية جايسون بلير تطرح مسألة شبه فلسفية: ما معنى أن تكونَ في مكانٍ ما؟ تأتي تجربة الكتابة هنا من أجل أن تقول ما يعرفه أنصار الأديان جيدًا: الحضور الفيزيقي ليس إلا صيغة من صيغ الحضور، وهو ليس بالضرورة الأكثر عمقًا. وفي حياتنا الشخصية أو العامة، نجد عدة مشاهد تفرض أن نفصل بين الحضور الفيزيقي والحضور النفسي: قد أكون حاضرًا، فيزيقيا، في قاعةٍ للمحاضرات بالجامعة، لكنني، نفسيا، أوجد في مكانٍ آخر، في مسرح آخر ألجأ إليه بإرادتي منفيًا أو مُغَيَّبًا. وفوق ذلك، فالتحليل النفسي يوضح أن الحضور الفيزيقي لا يلعب دورًا كبيرًا في حياتنا النفسية، ذلك لأن هناك عددًا من الغائبين والأموات الذين يلعبون دورًا كبيرًا في حيواتنا، والأكثر من ذلك أننا نشعر أنهم أكثر حضورًا من الأحياء الحاضرين معنا فيزيقيا. وبالطبع، فهذه الاعتبارات لاقيمة لها في مهنة الصحافة، لكن يبقى أن قوة الكتابة عند جايسون بلير تطرح من الأسئلة ما لايمكن تجاهله، فإذا كان هذا الصحافي يخترق القواعد الأولية في مهنة الصحافة، فإنه كان يتصرف في الوقت نفسه باعتباره كاتبًا حقيقيًّا. إن السؤال عن صحة انتقال الصحافي فعليًّا إلى لوس فرسنوس يحجب سؤالا آخر لايخلو من أهمية: إلى أيِّ حد كان محكي سفره يسمح لقراء الجريدة بِفَهم آلام عائلات الجنود الذين جرى إرسالهم إلى العراق؟ ألا تقتضي الكتابة هنا حضورًا ينبغي له أن يكون نفسيا، لا فيزيقيا، بالرغم من أننا قد لا نتصور أحيانًا آلام بعض الناس إلا بزيارتهم؟ ولابد أن نميز بين حقيقتين: هناك حقيقة صحافية، التي بسببها حوكم جايسون بلير، وهي تبحث عن تلك المطابقة بين اللغة والعالم، وهذا ما يفرض الدقة في الوصف؛ وهناك حقيقة أدبية، وهي تبحث عن شيءٍ آخر، والبلدان المتَخَيَّلة التي تنفذ إليها لا تفرض على واصفيها أن ينتقلوا إليها فعليًّا، فهي لا تفرض أن نَنقل الواقع حرفيا، بل أكثر ما تفرضه هو: إنتاج تجربة انفعالية وجدانية، والبحث عن الوسائل التي تسمح بأن يعيش الكاتبُ التجربةَ في دواخله، والعمل وهذا هو الأصعب على اقتسامها مع القارئ. 5 يقدم كتاب بيير بيار نماذجَ وتحليلاتٍ أخرى، ويطرح أسئلة عميقة حول علاقة الكتابة بالفضاء، وما إذا من الضروري أن نسافر فيزيقيا من أجل الكتابة عن مكانٍ بعيد؛ ويدعو في خاتمته إلى نقدٍ يتأمل، بهدوءٍ وعمقٍ، مسألة الحدود بين فضاء الكتابة وفضاء الواقع، ويثير أسئلة أخرى قد تكون موضوع كتابٍ جديد: هناك كُتَّابٌ وقرَّاءٌ يمارسون السفر " فعليا " داخل عوالم الكتابة، وقد تكون هناك شخصيات أدبية تشدُّ الرحال إلى عالمنا الواقعي؟ هناك فضاءات متداولة بين مختلف الأعمال الأدبية، وبعض شخصياتها يسافر من هذا الفضاء إلى ذاك من دون احترامٍ للحدود الظاهرة؟... الهوامش: 1 حسن المودن: كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها؟ في القراءة واللاقراءة، مجلة علوم التربية، العدد 48، يوليوز 2011، ص 153 159. 2 - Pierre Bayard : Comment parler des lieux ou l?on n?a pas été, ed. Minuit, 2012. ويتألف هذا الكتاب الجديد من مقدمة وخاتمة وثلاثة أقسام، ويتوزع كل قسم إلى أربعة فصول. 3 نفسه، ص 14. 4 نفسه، ص 15. 5 نفسه، ص 16. 6- Frances Wood, Did Marco Polo go to China , Westview Press, 1996.