مثل كتاب قديم أتصفح أوراقه، شرعتُ أُقلب صفحات ماضي الشخصي ، صفحةً صفحةً. تسعفني الذكريات حينا و تتمنع علي في بعض الأحيان. غير أن إصراري لم يلن للعودة بذاكرتي إلى مداها الأبعد من أجل تسجيل أكثر ما يمكن من محطات، خاصة منها تلك التي وضعت بصماتها على طفولتي و صباي الأولين و كونت إحساسي الوطني وأثرت في كمُقاوم و رسمت مسار حياتي كمناضل إلى يومنا هذا من أجل تقدم و رفعة هذا الوطن. و قد تكون هذه المحطات، أحداثا وطنية عامة طبعت جيلا بكامله، مثل الأحداث الكبرى التي عرفتها بلادنا و هي ترزح تحت الاستعمار، أو تلك التي عاشتها بعد الاستقلال من صراع بين قوى التقدم المتطلعة لغد أفضل لجميع فئات الشعب المغربي و بين الرجعية المتحلقة حول النظام و المُتحالفة معه من أجل استنزاف خيرات البلاد و قمع العباد. كما قد تكون محطات و أحداث شخصية، تندرج في سياق الأحداث الوطنية الكبرى، بدءا من انضمامي للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار إلى المشاركة في جيش التحرير بالجنوب إلى مشاركتي في بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد الاشتراكي تاليا،و تأسيس النقابة الوطنية للتعليم و أداء ضريبة هذا النضال في السجون والمعتقلات منذ الستنات حتى أواخر سبعينات القرن الماضي بما في ذلك معاناة تجربة «الكوربيس» الفظيعة . هذه المذكرات شهادة صادقة على الأحداث و الوقائع التي عشتها و التي شاركتُ فيها أو تلك التي سمعت عنها من أفواه أصحابها و صُناعها. و في كل هذا أنا واثق بأن حقائق كثيرة قد فاتني ذكرُها إما لأني لم أشهدها أو لأن دائرة النسيان قد ابتلعتها، و لكني فيما يلي لا أروي سوى الحقيقة و لله على ما أقول شهيد. في تلك الزنازين كنا نمضي وقتنا إما في النقاش أو المطالعة ، إذ أصبح من المسموح لنا بتلقي بعض الكتب من الخارج، و أذكر أن من بين أكثرنا إدمانا على المطالعة خلال تلك الفترة كان المرحوم سالم يفوت و المرحوم محمد مؤيد. و كان لحراس السجن نظرة سلبية و سيئة عن المعتقلين السياسيين بصفة عامة، فلما جئنا نحن غيرنا تلك الصورة السيئة إذ كُنا حين نُسأل عن سبب اعتقالنا نجيب: "نحن معتقلون لأننا ندافع عنكم و عن أمثالكم لا أقل و لا أكثر. فنحن ندافع عن المواطنين البسطاء الفقراء و الضعاف و هذا سبب اعتقالنا، نحن لا نبيع مخدرات و لا نرتشي و لم نقتل و لم نسرق بل ما نقوم به هو توعية الناس بحقوقهم و حضهم على الدفاع عن هذه الحقوق". و بهذه الطريقة كسبنا الحراس إلى جانبنا إلى درجة إن أحدهم أصبح يتحدى المنع و يأتيني بالجريدة يوميا، فكان يغتنم فترة خروجنا الصباحي للتعرض لأشعة الشمس، كي يدخل إلى زنزانتي، و كأنه يريد تفتيشها في غيابنا، و هذا أمر معمول به في النظام السجني بحثا عن الممنوعات، و عوض أن يبحث عن "الممنوعات" كان يعمد إلى وضع واحدة منها و هي الجريدة تحت "بطانيتي"، إلى درجة أن الإخوان ما أن يرونه داخلا أو خارجا من الزنزانة حتى يقولون لي : " تغاوصا جات" و "تغاوصا" مفردة أمازيغية معناها "الشيء" أو "الحاجة". و من خلال الجريدة كنا نطلع على جزء مما يجري في الخارج و خاصة منها التطورات داخل حزب القوات الشعبية، إذ كنا حين ندخل و تُغلق علينا الأبواب و نطمئن ،نعمد إلى الجريدة فنقرأها بشكل كامل ثم نقطع المقالات التي نراها مهمة كي نسلمها لإخواننا الآخرين بباقي الزنزانات و نرمي الباقي، بعد تمزيقه إلى قطع صغيرة، بالمرحاض، و بعد أن يطلع جميع الإخوان على المقالات المهمة يتم إعدامها بنفس الطريقة. كما حصلنا ? تهريبا- على مذياع ترانزستور صغير، كنا نتسقط من خلاله الأخبار في الليل حين تكف الزيارات و تغلق الأبواب و تُطفأ الأنوار، ثم نعيده إلى كيسه البلاستيكي الذي نعيده بدوره إلى مخبئه بثقب المرحاض. و من الاختراعات التي فرضتها علينا الحاجة داخل السجن، اختراع فرن للطبخ، إذ كُنا نعمد إلى علبة سردين فارغة، فنملأها بشبكة من الورق المقوى المطوي بشكل متوازن و مُتتال شبيه بذاك الموجود داخل المصافي الهوائية للسيارات ، ثم نذوب البلاستيك و نغمر الورق المقوى داخل علبة السردين بالبلاستيك المصهور، و نتركه حتى يبرد بشكل جيد، و حين نريد استخدام هذا الفرن المبتكر، نقوم بإشعاله و نضع عليه ما نريد تسخينه أو إعادة طبخه فيبقى محتفظا باللهب و الحرارة لمدة طويلة. أما ليالينا فقد كانت تتخللها نقاشات صاخبة بعضها جدي حول القضايا الكبرى للعالم و للبلد و للحزب و بعضها تافه يتضخم في أعين البعض حتى يحسبه عظيما. و كانت النقاشات في بعض الأحيان تبلغ درجة من الحدة تصل إلى التلاسن السليط بين الإخوان، و هو أمر يوجد في جميع الأماكن الضيقة التي تتلاقى فيها نفس الأوجه بشكل يومي مثل ما كان عليه حالنا، و لهذا فقد كنت أنا و المرحوم محمد مؤيد نقوم بدور رجال المطافيء، إذ ما أن يبلغنا أن صداما يكاد يحل بين أخوين من إخواننا حتى نبادر إلى التدخل للوساطة بينهما و محاولة حل الخلافات . و كنا في بعض الأحيان نضطر إلى المبيت في زنازين الخلاف حتى نقرب وجهات النظر بين الطرفين. و كانت هناك نقاشات سياسية بالخصوص خلال الفترة التحضيرية للمؤتمر الاستثنائي و تغيير إسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بإسم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إذ كان هناك من أيد هذا التغيير و برره بتبريرات يراها متينة من بينها تفادي الدخول في نزاع مجاني مع الاتحاد الوطني الذي لا زال قائما تحت هيمنة البيروقراطية النقابية للاتحاد المغربي للشغل، و منا من عارض هذا التغيير و قدم تبريرات رآها قوية، لكن الطابع السائد ? و هو أمر اكتشفناه بعد إطلاق سراحنا- هو نقص المعطيات و غياب المعلومات التي من شأنها تمتين التحليل و عقلنته، فقد كنا نرى الأمور من زاوية ضيقة فرضتها علينا عزلتنا و قلة اطلاعنا. لقد تابعنا و نحن طلقاء لا نزال التحضيرات الأولية لانعقاد اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية التي صدرت عنها قرارات 30 يوليوز 1972 ، و كانت تلك اللجنة منبثقة عن المؤتمر الثاني المنعقد سنة 1962 . فقد كان الاتحاد الوطني، في الواقع موزعا بين قيادة جماعية غير مُتوافقة حول أمين عام له، و مُتسما بالجمود، مما دفع مجموعة من قياديي الحزب من أعضاء اللجنة الإدارية و أعضاء المجلس الوطني، بتأييد من عبد الرحيم بوعبيد، إلى عقد اللجنة الإدارية التي اتخذت قرارات تاريخية شكلت نوعا من الخط الفاصل بين مجموعتين و بداية للتحضير لمؤتمر استثنائي كان من المفروض عقده في السنة الموالية أي سنة 1973 . بيد أن الأحداث التي عرفتها تلك السنة و حملة الاعتقالات الكاسحة التي تعرض لها مُناضلو التيار التقدمي داخل الاتحاد الوطني، أجهضت هذا الرهان الحزبي الهام و حالت دون التئام المؤتمر الاستثنائي الذي لم يُكتب له الانعقاد إلا في سنة 1975 . و هو المؤتمر الذي أصل لاستراتيجية النضال الدمقراطي، قاطعا مع البيروقراطية النقابية المهيمنة على الحزب و المتواطئة مع النظام من جهة و مع النزوعات البلانكية المؤمنة بالعنف المسلح للإطاحة بالنظام من جهة ثانية. و إلى جانب النقاشات السياسية، كانت إقامتنا بالسجن تتخللها بعض لحظات المرح و الفكاهة للترويح عن النفس، ففي بعض الليالي - مثلا - كان المرحوم بوشعيب رياض،و هو واحد من المقاومين الأوائل الذين ناضلوا في الخلايا التي أنشأها الشهيد الزرقطوني و عمل فيما بعد بمعمل شنوف، يقف أمام بوابة زنزانته مستخدما النافذة الصغيرة للباب كمكبر صوت، و يشرع في إطرابنا بالأغاني الكلاسيكية من ريبرتوار محمد عبد الوهاب و أم كلثوم التي تصادفت وفاتها و نحن بالسجن. لقد كان المرحوم بوشعيب رياض بصلابته المرحة أو بمرحه الصلب يجعلنا ننسى معاناة السجن و يخفف عنا أوزاره الثقيلة. كما كان بعضنا يمارس الرياضة فيما كان البعض الآخر مهووسا بالمطالعة مثل سالم يفوت و محمد مؤيد و الصفا محمد و حسن الكَنوني، و أشعر اليوم بأسف شديد لكوني ضيعت خلال هذه الفترة فرصة ثمينة في تعلم اللغة الفرنسية، إذ كان معنا أساتذة يجيدون الفرنسية و كان بإمكاني تعلمها منهم و لو ساعة من كل يوم. كانت زنزانتنا متميزة إذ لم تكن تضم سوى ستة أفراد، هم أنا و محمد مؤيد و عبد الله بوهلال و إقبال و مجيد (شاب من عائلة المهتدي) و يسيف محمد، بينما كانت الزنازين الأخرى أوسع و كانت بالتالي تضم ما بين إثنى عشر أو ستة عشر معتقلا، لذلك فقد كانوا يسمون زنزانتنا ب"الكويت" و يلقبوننا نحن بالكويتيين. و قد كنا نوزع المهام بيننا بشكل دوري، فمنا من يُعد الأكل و يُسخنه و يَضعه، و منا من يتكلف بغسل الأواني و تنظيف الزنزانة و ترتيب محتوياتها التي لم تكن تتعدى مانطتين لكل واحد منا، يفترش إحداهما و يتغطى بالأخرى. و رغم أني لا أدخن إلا أني كنت أطلب من عائلتي أن تزودني في زياراتها لي بعلب السجائر، و خاصة منها "كازا"، و هي نوع رخيص من التبغ الأسود الملفوف بدون مصفاة، فقد كانت عُلب هذه السجائر عملتنا داخل السجن. و إذا كان الحراس يضربون علينا جدارا فاصلا بيننا و بين سجناء الحق العام، إلا أن المكان الوحيد الذي لا يستطيعون فيه منعنا من الاختلاط بهم هو المستشفى، ففي المرة التي أمضيتها بالمستشفى، و سآتي على ذكرها، التقيت بعدد منهم فكنت أسألهم عن سبب اعتقالهم و سجنهم فمنهم من كان يعترف لي بأنه لص أو نشال محترف و منهم من يتاجر في المخدرات أو يُزور المستندات، و هم في كل هذا يتباهون بإنجازاتهم. و من بين هؤلاء كان معي بالمستشفى سجين شاب لاحظت أنه يتلقى زيارات متواترة من طرف شبان في مثل سنه، و كان يتحدث معهم من نافذة الجناح الذي كنا به. و قد روى لي هذا الشاب أنه مسجون لتورطه في تجارة المخدرات، و حين رأيت كثرة زواره سألته إن كان هؤلاء كلهم من عائلته أو أقارب له فقال لي أنهم أفراد يعملون لديه و حكى لي كيف أنه يتحكم في عصابة يفوق عدد أفرادها العشرين و أنه لا زال يسير أمورها من داخل السجن و أنه اصطنع المرض كي يتم نقله للمستشفى لأن الاتصال منه أسهل. و قال لي أيضا، أن هؤلاء الشبان يدينون له بالطاعة و يأتونه بالمدخول اليومي فسألته عما إذا حصل أن تمرد عليه أحدهم و عصى أمره، فقال لي بهدوء أنه قد يحدث مثل هذا الأمر و يهرب المعني بالأمر بحصة يوم أو يومين لكني أتتبعه حتى أقبض عليه و حينها أسجنه، و لما رأى تعجبي، قال لي أنه يملك سجنا في بيته يسجن فيه مثل هؤلاء تأديبا لهم، فيحلق رؤوسهم و يحكم عليهم بعشرة أيام أو خمسة عشر يوما من العزلة. كان هذا في منتصف السبعينات حين كانت أنواع المخدرات محدودة و كانت شبكات ترويجها محلية و كانت طرق الاتصال بسيطة، أما اليوم حيث تتنوع المخدرات ما بين حشيش و قرقوبي و كوكايين و غيرها، و حيث تعددت شبكات الترويج و توسعت و حيث شاع استخدام الهواتف النقالة ، فلنا أن نتصور كيفية إدارة مثل هذه الشبكات من داخل السجون. و كان يقع أن يزورنا المحامون فيتم استدعاؤنا لمقابلتهم و ذلك حين شُرع في تحضير ملفاتنا لعرضها على القضاء، لكن هذه العملية لم تكن تتم بسهولة خاصة في الشهور الأولى التي أعقبت نقلنا إلى السجن المدني. فقد كان محامونا أنفسهم يتعرضون للتضييق. و في هذا السياق توصلت برسالة من الأستاذ عبد الرحيم برادة المحامي بتاريخ 26 أبريل 1974 تُعبر أصدق تعبير عن تلك الوضعية. و قد جاء فيها : "سيدي، أنهي إلى علمكم أنني ذهبت للسجن يوم 4 أبريل الجاري على الساعة الثانية و النصف بعد الزوال من أجل زيارتكم. و يؤسفني أن أخبركم بأنني انتظرت تقديمكم لي (كما انتظرت تقديم سجناء آخرين متهمين في قضايا أخرى) إلى غاية الرابعة إلا ربع دون أن أحصل على ذلك، رغم توفري طبعا على رخصة الزيارة و رغم احتجاجاتي المتكررة ضد هذا التعسف لدى المسؤولين عن كتابة الضبط. فاضطررت على إثر ذلك أن أتخلى عن رغبتي لزيارتكم. و بما أني أواجه منذ عدة شهور هذا السلوك الذي يشكل ببداهة خرقا فادحا للقانون فإني تساءلت عما إذا بقي أدنى مفعول للمؤازرة التي كلفت بتقديمها لكم، و بالتالي هل ليس من الواجب على أن أتنازل عن هذه المهمة. و قد قررت ألا أتنازل كليا عن مهمتي و سأقتصر موقتا على الاتصال بكم كتابة". و في يوم من الأيام ألمت بي أزمة الكلي، فلما عرضت على طبيب السجن أوصى بإيداعي المستشفى. و بالفعل تم نقلي إلى الجناح 5 بمستشفى "موريس غو" (إبن رشد حاليا). و كان هذا الجناح الخاص بالمسالك البولية، يضم قاعة كبرى للنساء و غرفا صغيرة كنت في واحدة منها محروسا من طرف شرطي من الأمن الوطني، و كان عدد من رجال الشرطة يتناوبون على حراستي تباعا. و قد كان من بينهم من يقوم بواجبه و ينصرف عند نهاية دوامه و مجيئ من يخلفه، و كان منهم من يتعمد الأيذاء و لكن كان من ضمنهم من يتعاطف إلى حد المغامرة و التهور. فبالنسبة للنموذج الأول و هم الأكثرية ، كان رجل الأمن منهم يقوم بواجبه في حراسة السجين المكلف به و المسؤول عنه، بشكل مهني يتسم بالاحترام المتبادل و بالأخلاق التي تفرضها الإنسانية. أما النموذج الثاني فكان يتصرف معي و كأن بيني و بينه ثأر قديم، و منهم رجل أمن متقدم في السن جاء لحراستي عصر أحد الأيام، و كان الجو حارا و خانقا، و كنت ممددا على السرير أعاني من الحرارة الرطبة لصيف الدارالبيضاء، فطلبت منه أن يفتح النافذة قليلا كي يدخل بعض من الهواء للغرفة فما كان منه إلا أن أجابني بغلظة " ممنوع" و مضى يطرطق صوت حذائه جيئة و ذهابا. فأسررتها في نفسي إلى أن حل المساء و انتصف الليل و بدأ النوم يحد من النشاط الزائد لصاحبي، فكان يلوذ بكرسي قريب من سريري كي يستريح. و في تلك الأثناء كنت أراقبه حتى إذا أخذته غفوة من النوم كنت أتعمد التحرك فوق سريري الذي يصدر عنه صرير يحرك الكرسي و يوقظه من غفوته، فيستيقظ فجأة و يحرك رأسه يُمنة و يسارا، أما أنا فأتظاهر بالنوم إلى أن يعود لغفوته فأعود إلى حركتي و هكذا دواليك إلى أن سمعنا جلبة الممرضين و الممرضات في الصباح، فنهض لكي يترك نوبته لمن يخلفه و يعوض سهاد الليلة الماضية - لا شك- بالنوم في بيته، أما أنا فقد كان النهار كله في ملكي كي أنام متى شئت. أما النموذج الثالث و المتعاطف، فقد جسده رجل أمن شاب و مثقف، أحاطني بحنو و حب شديدين لدرجة أنه لم يكن فقط يتقاسم معي غذاءه الذي يأتي به من بيته بل كان يُعد لي خصيصا أكلا و كأنه يعده لضيف عزيز. و لم يقف عند هذا الحد من التعاطف بل اقترح علي أن أتظاهر بأني ممرض أو عامل بالمستشفى و أجاءني بعربة توزيع الدواء كي أدفعها أمامي و نخرج للتجول في حدائق المستشفى و هو ما كان له أبلغ الأثر علي و على نفسيتي. و في مرة من المرات عرض علي أن أهرب من المستشفى إن شئت، طالبا مني ألا أحفل بمصيره هو و أن أفلت بجلدي، فقدرت له مُجازفته تلك لكني شرحت له أني معتقل لأسباب سياسية و بسبب آرائي، و أنه حين تتغير الظروف السياسية للبلاد فقد يتغير وضعي، و قلت له أني لن أقوم بعمل مماثل لأنه مُضر بي بقدر إضراره به هو نفسه. و هذا التنوع لم يكن مقتصرا على حراس الأمن لا غير، بل كان يمتد إلى مجموع العاملين بالمستشفى، من ممرضين و أطباء و غيرهم. فمنهم من كان مهنيا و منهم من كان متعاطفا و البعض منهم كان أبعد ما يكون عن المهنية أو الإنسانية. و من هؤلاء واحد من رؤساء الممرضين، صدف أن ألمت بي في إحدى الليالي أزمة كلي خطيرة جدا و مُمضة الألم ، فكنت أصرخ و أتضور ألما طالبا حقني بحقنة مهدئة، فيما كان هذا الممرض الرئيسي - و هو المؤهل لتقديم هذه الحقنة- منصرفا إلى لعب "الضاما" مع أحد زملائه غير آبه بصرخاتي و لا بطلبات رجل الشرطة حارسي الذي كان يتنقل جيئة و ذهابا بيني و بينه. و بعد مدة طويلة و تحت إلحاح رجل الشرطة، جاء حاملا أدوات الحقن، و تعمد أن يغرس شوكة الحقنة أربع أو خمس مرات في المكان الخطأ من ذراعي حتى ينبجس الدم كل مرة ثم يعود لتجربة أخرى إلى أن "عثر" على الوريد فحقنني بالدواء الذي هدأ ألم الكلي، لكنه آلم ذراعي. و قد مكثت في المستشفى حوالي عشرين يوما كنت ألاحظ فيها أن كل من يأخذونه لإجراء عملية جراحية لا يعود، فكنت أسأل عما إذا كانوا يذهبون بهم إلى غرف أو أجنحة أخرى فقيل لي أنهم ماتوا. فقررت ألا أجري العملية على يد هذا الطبيب المعالج تحت أي ظرف من الظروف، و كان على عكس المهمة الإنسانية المنوطة به جلفا لا يجد الابتسام إلى وجهه سبيلا و في صباح من الصباحات حدث تلاسن بين هذا الطبيب، الذي عادة ما يكون مرفوقا بفريق من مساعديه أو من طلبة الطب، و بين الشرطي الذي يحرسني حول موضوع تافه كان الشرطي مُخطئا فيه و لم يكن الطبيب أقل خطأ. و في عصر اليوم نفسه أخبرني الممرض بأن علي ألا أتعشى تلك الليلة و أن أستعد للعملية التي قد تُجرى لي ليلا أو صباح الغد، فرفضت إجراء العملية و طلبت منه زيارة الطبيب. دخلت مكتب الطبيب مستفسرا عما إذا كان من المستحسن تأجيل العملية، فرفض منتفضا و قال "إما أن تجري العملية أو أعيدك للسجن"فقلت له غاضبا: "السجن أفضل من وجهك".