هذا مشروع كتاب،سيصدر عن مؤسسة آفاق للدراسات والنشر ضمن سلسلة»مراكشيات». يتطرق الكتاب لمسار المجموعات الغنائية من خلال السيرة الذاتية لاسم من أسماء زماننا،فنان جيل الجيلالة عبد الكريم القسبجي،مستعرضا تجربته وكثيرا من مفاصل حياته الشخصية والفنية،فالرجل متشرب للفن عمليا وتطبيقيا،مُرتوٍ حتى الثمالة بإيقاعات متنوعة ومختلفة، واقفا عند بصماته التي تركها على تاريخ المجموعات الغنائية، وعلى فرقة جيل الجيلالة بوجه أخص،بوصفه صوتا جميلا متميزا،منحها نفسا جديدا ودفقة حرارية فياضة،أكسبتها طاقة على تأكيد وجودها وفرض ذاتها أمام المجموعات الغنائية الأخرى.من هنا،يمكن القول ان الكتاب يشكل قيمة مضافة ومكسبا من حيث كونه وثيقة هامة، وثيقة فنية، وثيقة تاريخية وعصرية.
هذه السلسلة، وإن كانت ترسم سيرة ذاتية لفنان كبير، طبع بصوته الحاد والعذب، جغرافيا الأغنية الغيوانية، المجموعاتية، أو غناء الأجيال، كما نُعِتَتْ هذه الظاهرة في أحايين كثيرة، فإنها في الآن نفسه، تؤرخ لمسار المجموعات الغنائية المغربية: ناس الغيوان جيل جيلالة، لمشاهب، نواس الحمراء، ألوان، السهام، تكدة، لرفاك وسواها، وأيضا لجانب من مسرح الهواة والمحترف بالمغرب، لأننا بصدد النبش في مسار رجل، كغيره من أفراد المجموعات الغنائية الأخرى، كانت انطلاقته من الركح أبي الفنون. السلسلة، كذلك، تسلك مسالك عديدة، شكلت ثمرة عطاء هذه المجموعات التي تغنت بالكلمة النقية والهادفة، وجعلت من التراث ماركة أساسية على رأس عطائها الفني، إما من خلال الاعتماد على كلمات من وحي التراث الوطني المغربي، أو من خلال توظيف ألحان من وحي المرجعية التراثية، أو استخدام إيقاعات قادمة من الموروث الجمعي الضارب في أعماق التاريخ، حيث جعل منه رواد الأغنية الغيوانية بوجميع، العربي باطما، عبد الرحمان باكو، عمر السيد، علال يعلى، عبد العزيز الطاهري، مولاي الطاهر الأصبهاني، محمد الدرهم، محمود السعدي، سكينة، حسن، عبد الكريم القسبجي موضوع كتابنا، سوسدي، محمد باطما، الشريف، الشاذلي، حمادي وآخرون، وهم شباب في تلك الحقبة، طريقا موصلا إلى العالمية، بل إن المجموعات الغنائية، فضلا عن كونها لفتت انتباه رواد الأغنية العصرية، إذاك، إلى ضرورة توظيف الإيقاع المغربي، كان لها الفضل في تقديم عدد من الألوان التراثية إلى الإعلام الدولي، وهنا لن ينكر أحد دور ناس الغيوان في إبراز اللون لكناوي، عبر توظيف آلة السنتير واعتماد أغان ذات طابع كناوي «نرجاك أنا»، «النادي أنا»، «غير خودوني»، الحال، «آش جراليك أنت» وغيرها، ما جعل الشباب يغرم بها بشكل غير مسبوق، فلم يعد فن كناوة، ذاك اللون الغنائي، الذي لايتعاطاه إلا من به مس، نظرا لحمولة اللبس التي كانت تكتنفه، كلون غير مصنف موسيقيا، اعتبارا للأسوار التي كانت تحيط به من كل جانب، حتى إنه كان غير متاح إلا في حضرة أكبر ضيوفه، أي الأرواح الغريبة عن الكائن البشري، وبمؤثث أساسي تجسده الذبيحة والدم، كل هذا في فضاء مغلق، لايلجه إلا «موالين الحال». ما يقال عن الغيوان بخصوص الفن الكناوي، ينطبق على جيل جيلالة في ما يخص فن الملحون، الذي كان فنا مغلقا إلى حد عدم الفهم، حيث يؤدى بأسلوب لا يصبر على مشاقه إلا الراسخون في عمق الفنون أو محترفو إبداع الكلام، حتى صنف أنه فن راق جدا غير مسموح به سوى للنخب، ولايقام إلا في أغلظ الحفلات والملتقيات، إلى أن جاءت مجموعة جيل جيلالة، لتمكن المغاربة قاطبة من لذاته ومتعه، من طنجة إلى الكويرة، بل لتسافر به خارج الحدود، بعد أن رفعت عنه الرتابة وبسطت كلامه أكثر، دون المساس بالمعاني والروح، التي تأسس عليها هذا الفن. أكثر من هذا وذاك، أفلحت جيلالة، في إيصاله إلى المداشر والقرى والجبال والفيافي القصية، حتى أضحى مشاعا مغربيا يردده الصغير والكبير، بعد أن كسرت الحواجز التي كانت تحول دون استكناه أغواره، معتمدة في ذلك على إبداع أفراد المجموعة، مع تفادي إدخال أي آلة غريبة عنه من شأنها أن تغضب رواد الملحون، أو تشوش على أصوات أعضاء الفرقة، وهنا لابد من استحضار صوت الأسمر عبد الكريم القسبجي، الذي تمكن من النفاذ إلى القلوب ومن ثم تحبيب هذا اللون الفني الرائق إلى عموم الشباب. لابد، أيضا، أن نلفت الانتباه إلى أن المجموعات الغنائية، أعادت للآلات الموسيقية الأصيلة توهجها واعتبارها، علما بأن فرق الشيخات والفولكلور واللعابات، كانت قد قامت بهذا الدور، لكن بروز السنتير مع الغيوان والتعريجة، والقراقب مع جيل جيلالة، أعطى لهذه الآلات حضورا ومفهوما آخر يمتح من أرضية الاعتزاز والفخر، من خلال جعلها آلات عزف أساسية، خاصة وأننا أمام شبان بصدد الإبحار صوب العالمية، وهم يصدحون بأغنية احتجاجية ذات قالب إبداعي جديد يمزج بين التراثي والحداثي العصري، طارحا إشكالية الانعتاق – بالمفهوم الواسع للكلمة – لدى الشباب العربي، ومن خلاله شباب البلدان التي تخلصت للتو من سطوة الاستعمار والتسلط.