لا يمكن الحديث عن المسرح المغربي دون استحضار تجربة عميد المسرح المغربي الأستاذ عبد القادر البدوي، الذي يحتفل هذه السنة بالذكرى 67 لوقوفه على خشبة المسرح. عمر مسرحي مديد، قدم خلاله روائع وتحف مسرحية خالدة، لتجعل منه أحد الأضلاع الكبرى والدعامات الرئيسية للمسرح المغربي، الذي قدر له أن يعيش اليوم تراجعا كبيرا، بفعل غياب سياسة ثقافية، تجعل من أبي الفنون رافعة وقاطرة تجر وراءها باقي الأصناف الفنية. تجربة مسرح البدوي تعدت الحدود، ودخلت مناهج التعليم الأكاديمي في العديد من الجامعات المغربية، العربية و الدولية، تعززت بالتحاق أبناء الأستاذ عبد القادر البدوي بكل من مصر، بلجيكا و الولاياتالمتحدةالأمريكية من أجل الدراسة الأكاديمية الفنية المتخصصة فعادوا محملين بشواهد عليا و بتجارب فنية أخرى، تفاعلت مع فكر الأب عبد القادرالبدوي وانصهرت، فانعكست إيجابا على هذه التجربة الفنية الرائدة. ويصفه البعض بزعيم المسرح الثوري المغربي، والبعض الآخر أطلق عليه اسم بنبركة المسرحي، وفئة أخرى، ترى فيه مشاغبا، ومعارضا يجب الحذر منه، وتحجيمه. رجل بهذا الزخم وهذا العطاء، يستحق منا أن ننبش في ذاكرته، ونغوص معه في أحداث هذه السنوات الطويلة، لنكون فكرة عن ماضي وبالتالي عن واقع المسرح المغربي. من خلال هذه السلسلة الحوارية التي قررنا أن» نتطاول» فيها على ماضي وحاضر العميد عبد القادر البدوي. في سنة 1957 ستحصل على عضوية جمعية المؤلفين المغاربة باليونيسكو، كيف جاء ذلك؟ كنت عضوا بجمعية المؤلفين المغاربة مع بداية الاستقلال، وفي سنة 1957 حصلت على شهادة الونيسكو، هذه المنظمة العالمية اعتبرت أن الأعمال المسرحية، التي أقدمها تضعني في مصاف المؤلفين المتميزين على مستوى العالم. وهنا سأفتح قوسا لأشير بأن الدول العريقة ثقافيا وفكريا، حينما تريد أن تكرم شخصا ما، فإنها تشكل لجنة للحكماء وتعد نبذة مفصلة وشاملة عن المكرم، تتضمن إنجازاته والإضافة التي جاء بها في أعماله، وبعدها يتم التكريم، عكسنا نحن، حيث نجد التكريمات تتم عشوائيا. ومنظمة اليونسكو حينما تسلم أي شخص تلك الشهادة، فإنها تمنحه اعترافا رسميا بكونه مؤلفا بكل المواصفات. وفي هذه السنة أيضا زار المغرب عميد الأدب العربي، طه حسين، كيف كان لقاؤك به؟ كما أصبح يعلم الجميع، فقد كانت أعمالي مرتبطة بالشبيبة الاستقلالية، بواسطة أحمد العبدي الركيبي، الذي كان رجلا مثقفا، وكان من المؤسسين لفرقة العهد الجديد، ومن الأساتذة الذين يقدمون المحاضرات لأعضاء الفرقة بالنادي. هذا الشخص كان يستدعيني لأي نشاط تنظمه الشبيبة الاستقلالية، فأصبح حضور عبد القادر البدوي ضروريا، بل ويفتخرون به. كانت زيارة الدكتور طه حسين إلى المغرب بدعوة من الحركة الوطنية، وكانت الشبيبة الاستقلالية مكلفة بترتيب أمور الأديب المصري، الذي ألقى محاضرة بالمسرح البلدي بالدارالبيضاء. وفي اليوم الموالي دعي إلى حفل بفيلا بالقرب من مقر شركة التبغ القديم، بحضور شخصيات بارزة ومثقفين معروفين. كان الحفل في الساعة الرابعة عصرا. ذهبت إلى العمل في الساعة الثانية مساء، وطلبت من الإدارة إذنا بالخروج في الساعة الثالثة والنصف. أخذت حماما بمقر العمل، ولبست لباسي الرسمي وتوجهت إلى مكان الحفل. وبينما أنا خارج من العمل أحاط بي العمال وأطلقوا تصفيقا حارا، لأنهم انبهروا بأناقتي، سيما وأنني قبل ساعة كنت إلى جوارهم مرتديا بذلة الشغل. كنت في الموعد بين الحاضرين. وعندما أنا أسلم عليهم، لاحظت في أعينهم تقديرا خاصا لشخص كان قبل ساعة ونصف يرتدي « كومبيليزو» ويضع طاقية على رأسه، ويشتغل أمام آلة لصنع السجائر. تناولت الكلمة، وضمنتها أسئلة لطه حسين، الذي ذكرته بالكلمة التي كان يقدم بها فيلم ظهور الإسلام. لاحظت عليه علامات الإعجاب، خاصة وأن أسئلة البعض حينها كانت خارج السياق العام. قدمت له نبذة مقتضبة عني، وأخبرته أني فنان مسرحي، ومعجب كثيرا بكتاب الوعد الحق، الذي قرأته في سنة 1948، وقدمناه مسرحيا داخل فرقة الرجاء للمسرح. كما قلت له باني أعجبت بتلك الكلمة التقديمية للفيلم، لأنها أعطته قيمة أكبر. فأجابني بصوته الرخيم: شكرا يا ابني .. أعانكم الله. ومازلت إلى الآن أسترجع هذا الموقف في شريط ذكرياتي وكأنه حدث وقع بالأمس القريب. كنت جريئا بعض الشيء، وجرأتي غالبا ما تدفعني على التدخل وطرح الأسئلة، ليس حبا في جلب الانتباه، ولكني بغاية البحث عن المعرفة. وفي سنة 1958، ستكون في استقبال الفرقة الجزائرية، ورافقتها في جولة مسرحية بالمغرب، في أي ظروف جاءت هذه الزيارة؟ كانت في إطار الدعم المغربي للقضية الجزائرية، التي كانت أولوية وطنية بالنسبة لكافة الشعب المغربي. كان عمر بنمالك عضوا بلجنة تضم جزائريين ومغاربة، من بيهم أعضاء من الأحزاب الوطنية، ومهمتها محددة في حشد الدعم للقضية الجزائرية. تلقيت من جديد اتصالا من أعضاء الشبيبة الاستقلالية، يخبرني بأن الفرقة القومية الجزائرية، التابعة لجيش التحرير، ستأتي في زيارة إلى المغرب، وأن الحاجة ضرورية إلى وجود مرافق لها، يكون له إلمام بالشأن المسرحي، اقترحوا على الأمر، فوافقت دون تردد. إن توالي حضوري في أنشطة هذه الشبيبة، جعلتني واحدا من عناصرها، بحيث لا يكاد يمر نشاط ما دون مشاركتي فيه بشكل مباشر. كانت هذه الفرقة تضم ممثلين جزائريين قرروا خدمة الثورة من الخارج، وكان العمل الذي جاءوا به يضم أغاني وطنية أيضا، تم تركيبها في سياق الخط العام للمسرحية. بدأت الجولة من الدارالبيضاء، حيث قدموا عرضا بالمسرح الملكي، الذي كان أهم من المسرح البلدي حينها. لأن هذا الأخير كان يعتبر مسرحا للأجانب، بينما المسرح الملكي كان مسرح الجماهير، بحكم تواجده في حي يعد نواة الحركة الوطنية. وخلال هذه الجولة ستنشأ صداقة بيني وبين الكاتب المسرحي الجزائري الكبير مصطفى كاتب، الذي كان رحمه الله احد أعضاء جيش التحرير الفاعلين، وكان هو المسؤول عن هذه الفرقة، وأيضا مخرج مؤلف هذا العمل المسرحي. وستفرز هذه الصداقة أنشطة فنية مثمرة. بعد الدارالبيضاء، ستقدم الفرقة عرضا آخر بالرابط ومكناس وفاس وطنجة وخريبكة، قبل أن تغادر المغرب. ألم تشارك في العمل؟ لا لم يكن ممكنا، لأن العمل كان جاهزا، ولا يمكن أن يضاف إليه ممثل آخر، غير أني كنت مسؤولا عن ترتيب كل الأمور اللوجستيكية الخاصة بالعرض، عبر الاتصال بقاعات العرض، والدعاية وكل ما يلزم لنجاح هذه الجولة، كما كنت صلة الوصل بين التقنيين الجزائريين والمغاربة. كنت سعيدا لأنني قدمت هذه الخدمة الوطنية مرتين، حيث كانت الأولى بفرقتي المسرحية، إذ قدمنا حوالي 50 عرضا من مسرحية أنتجتها خصيصا لدعم القضية الجزائرية. ما اسمها؟ في سبيل الجزائر، وكانت التأليف مشتركا بيني وبين عمر بنمالك، الذي كان صاحب الفكرة ومخرج العمل. قمنا بجولة خصصنا مدخولها بالكامل لدعم القضية الجزائرية. وشارك في هذا العمل أعضاء الفرقة جميعا كالتومي والخلفي وجميعة العربي ومصطفى الهبطي، الذي كان ضخم البنية، فجسد دور ضابط عسكري فرنسي. ستكون سنة 1958 فارقة في تاريخ الأستاذ عبد القادر البدوي، حيث ستغادر العمل بشركة التبغ، وتتفرغ إلى المسرح، كيف جاء القرار. هذا سؤال مهم، كانت سنة 1958 حافلة بالأحداث، وكنت أتغيب كثيرا عن العمل، وقدمت الكثير من الشواهد الطبية، مما جعل إدارة الشركة تستنكر غيابي، وتطالبني بتقديم تفسيرات مقبولة. تمت دعوتي ذات صباح إلى مجلس تأديبي. أزلت بدلة الشغل، وارتديت ملابسي العادية، ثم توجهت إلى الإدارة. استغرب الشخص الذي جاء يدعوني لما شاهدني أزيل بدلة العمل، وسألني عن السبب، أجبته: ستعرف بعد دقائق. وجدت في انتظاري أربعة مسؤولين نقابيين وأربعة آخرين من الإدارة التي كانت ما تزال فرنسية. تناول الكلمة مدير فرنسي، ذكرني بكثرة غيابي، وعدم جديتي في العمل، وخرق القانون الداخلي للشركة بقراءة الكتب وقت العمل، وغيرها من المؤاخذات. كان يتواجد بالاجتماع مترجم مغربي ترجم لي كلام المسؤول الفرنسي، الذي أكد أنه تم اتخاذ قرار بتوقيفي عن العمل لمدة معينة، وخيرني بعدها بين العمل والتمثيل. سكتت لبرهة، وأمعنت النظر في الجميع، ثم قصدت الباب. وقفت وتوجهت إلى الترجمان: إسألهم إن كانوا قرأوا مسرحية «بيت الدمية» لإبسن، التي كانت بطلتها سيدة دفعتها شدة كرهها لزوجها، الذي أراد حرمانها من حريتها، إلى جمع حقيبتها ومغادرة بيت الزوجية، بعدما أغلقت وراءها إلى الباب بكل قوتها. وقل لهم إني الآن سأقوم بنفس الفعل، لأني أريد حريتي من أجل التفرغ للمسرح. ثم غادرت دون أن ألتفت ورائي. رغم أن بعض المسؤولين المغاربة لحقوا بي من أجل إعادتي إلى العمل. وحاولوا عبثا أن يثنوني عن قراري. كيف تقبلت العائلة قرار الانقطاع عن العمل؟ لم يتقبل أي أحد فكرة الانقطاع عن العمل، لأن استقرار العائلة قد يتضرر. لأن عملي كان يوفر مدخولا قارا، سيما أن إخوتي كانوا مازالوا صغارا، ولا يمكن لدخل والدي المتواضع أن يسد كل المتطلبات. استمرت المفاوضات بين مسؤولي الشركة ووالدي لمدة سنتين، حاول فيها أن يثنيني عن قراري، لكن دون جدوى.. قلت له ذات مرة وأنا أبكي، بأنه لا يمكن لي العودة إلى العمل، لأن مستقبلي في المسرح، ورجاء لا تضغط علي كثيرا. كانت والدتي تنظر إلي من بعيد وتسمع سير الحديث، فطلبت من والدي أن يحترم قراري. اتصل والدي بمسؤولي الشركة ورتب معهم الأمور اللازمة بشأن تعويضي، وعاد في اليوم الموالي يحمل وثائق المغادرة، التي وقعتها له من أجل استلام تعويض الفصل عن الشغل. وتوجهت رفقته إلى البنك واستخلصت تعويضاتي، وقدمتها له كاملة. وقلت له هذه الأموال حلال عليك وعلى إخوتي.