يجد القارئ فيما يلى نص مقالة مخطوطة أملاها طه حسين بالفرنسية على من كتبها على الآلة الكاتبة عن «قوة القرآن من الناحية الصوفية مشروحة لغير المسلمين». وهى تتألف من21 صفحة - فقدت منها للأسف ثلاث صفحات (الثامنة والتاسعة والعاشرة) – وتحمل بعض التصويبات المكتوبة بخط اليد. وهى غير مؤرخة، وليس من السهل أن نستنتج من محتواها تاريخ كتابتها لأنها ذات طابع نظرى ولا المناسبة التى كتبت من أجلها ولا أين كان يراد نشرها أو إذاعتها فى صورتها النهائية. كل ما نعرف فى الوقت الحاضر هو أنها كانت موجهة لغير المسلمين وللأوروبيين بصفة خاصة. وقد تصرفت قليلا فى ترجمة العنوان الفرنسى الذى يمكن أن يترجم حرفيا فيقال «قوة القرآن الصوفية مشروحة لغير المسلمين». وهو عنوان يبدو أن طه حسين لم يكن راضيا عنه لأنه مشطوب وإن كان ما زال مقروءا. ومن المستبعد أن يكون الشطب قد حدث بدون موافقة طه حسين. أما لماذا رأى أن هناك حاجة إلى إعادة كتابة العنوان، ولماذا لم يعد كتابته، فهذان سؤالان لا نستطيع الإجابة عنهما على وجه اليقين. فربما كانت هناك مسودة ثانية تحمل العنوان الجديد ولكنها ضاعت؛ أو لعل طه حسين لسبب أو لآخر لا نعرفه أهمل الموضوع برمته وطرح المقالة جانبا على حالتها الأولى. ومع ذلك فمن المؤكد أن هذه المقالة فريدة عظيمة الأهمية فى كتابات طه حسين وفى كل ما كتب عن القرآن الكريم. فلطه كتابات وتعليقات أخرى عن لغة القرآن. ولعل أبرز هذه الكتابات تلك الدراسة التى تتناول استخدام ضمير الغائب فى القرآن كاسم إشارة(انظر طه حسين، «من الشاطئ الآخر. كتابات طه حسين الفرنسية») ولكنها دراسة نحوية جافة موجهة إلى الإخصائيين. أما المقالة التى تعنينا هنا، فهى مقالة عن بلاغة القرآن أو «إعجازه»، أو لنقل جماليات النص القرآنى والجانب الصوفى فيه. وهى ليست بالدراسة السهلة ولكن يستطيع القارئ المستنير أن يستمتع بقراءتها ويفيد منها على قدر طاقته. وسيلاحظ هذا القارئ على الفور أنها عظيمة الجرءة والأصالة وباهرة. ترجع جرءتها وأصالتها إلى أن كاتبها يواجه فيها تحديا صعبا، وهو شرح جمال لغة القرآن وقوة تأثيرها لجمهور يجهل العربية ويعجز عن تقديرها ولفئة من الكتاب الأوروبيين لا يبدون تعاطفا مع القرآن الكريم بسبب خلوه من التسلسل المنطقى وكثرة ا لتكرار فيه واستخدامه للسجع. وأحسب أن الدراسة بناء على ذلك بغير نظير فى أى لغة. يضاف إلى ذلك أن مؤلف الدراسة يقدم فيها نظرية يرى أنها جديدة – وهى كذلك –يفسر بها كيف سيطر النثر القرآنى – أدب القرآن – على قلوب العرب وعقولهم وأشعل فيهم ذلك الحماس الذى جعل منهم فى غضون ثلاثة عقود قوة ضاربة فى مشارق الأرض ومغاربها. فهذه الحقيقة – أى قدرة القرآن بفضل بلاغته على توحيد العرب وتحريكهم نحو ذلك العمل الجليل – هى المعجزة القرآنية فى نظر طه حسين. وتقوم النظرية الجديدة على مفهوم أساسى هو «التشكيل». وهو مفهوم صكه طه حسين ليتجاوز به فيما يبدو مفهوم «النظم» عند عبد القاهر الجرجانى. فالتشكيل لدى طه حسين مختلف عن الأسلوب لأن الأسلوب ثمرة للذكاء وتراكم التجارب وتطور المعرفة، فى حين أن التشكيل الممتاز يظهر فى شباب اللغة قبل أن تتحدد معانى الألفاظ وتتضح علاقاتها بالأشياء وقبل أن ينفصل البشر عن وسطهم. والتشكيل فكرة مركبة تشمل نظم الألفاظ والعبارات وتشكيل المكان (مثله مثل التصوير والنحت والعمارة)وتشكيل الزمان (مثله مثل الموسيقى)، وهو فى حالة العرب ينطوى على منطق خاص به ليس هو منطق العلم والرياضيات وأهل الحضارة والمدن، بل هو منطق الصحراء فى امتدادها وجفافها وتعرج دروبها وتناثر واحاتها ونفوس سكانها المترحلين فيها وعقولهم. وطه حسين يتطرق فى هذه السياقات إلى فنون يعرفها بسمعه مثل التلاوة والتجويد والإِنشاد والموسيقى بصفة عامة. أما الشيء المذهل حقا والمثير للإعجاب فهو أنه يتعرض أيضا للفنون البصرية التى تعتمد على تشكيل المكان، ولا يكتفى بإشارات عامة بل يضرب أمثلة محددة من تاريخ الفن مثل رافائيل ورمبرانت، ويرجع إلى تقاليد وتيمات(مثل تصوير السيدة مريم العذراء)، وتقنيات فنية بعينها (مثل النقوش البارزة). ومن اللافت للنظر أن طه حسين وقد حاول تفسير التشكيل القرآنى على أساس من التاريخ والوسط (البيئة) وتضاريس الأرض وخصائص الشعوب وأساليب الصنعة البشرية يختتم دراسته الفذة بنتيجة يعرب فيها عن شعوره بأن نظريته، إن وضحت بعض جوانب الإعجاز فى القرآن، فإنها لا تستوعبه، وبأن الأمر ما زال ينطوى على سر، وبأنه ينبغى التسليم فى نهاية المطاف بأن القرآن لا بد أن يكون وحيا إليها. ويضيق المقام هنا عن تحليل وتقييم هذه النظرية المبتكرة، ولكن أقل ما يقال فيها الآن أنها جديرة بالنظر الفاحص والتأمل العميق من جانب المعنيين بدراسة طه حسين، والأخصائيين فى مجالات البلاغة وتاريخ الفن وعلم الجمال. ونظرا لأن الدراسة كما وصلتنا تخلو للأسف من بعض صفحاتها، فقد قسمتها إلى مقتطفين أرجو ألا تخل التفرقة بينهما بالوحدة الأساسية للنص. فالمقتطف الأول يعرض ظاهرة الإعجاز كما تتجلى فى حركة التاريخ وفى حياة النبى، بينما يتضمن المقتطف الثانى محاولة طه حسين تفسير الظاهرة بناء على مفهوم التشكيل – بداية من التشكيل فى اللوحات الفنية، أو لنقل فى مجال التصوير والرسم. المسلم الذى تضلع فى معرفة المأثورات الإسلامية وتربى فى وسط بلغ فيه تقديس جمال القرآن طورا متقدما يتعرض لتأثير هذا الكتاب الشهير إلى حد وبقوة لا يعدلهما شيء آخر فى هذا العالم. فالقرآن يضع المسلمين الذين تشبعوا به فى حالة من النشوة فريدة تماما؛ إذ يشعر المرء عند الاستماع إليه بأنه يرقى إلى مستوى يعلوه، وينفتح أمامه عالم جديد؛ وتستولى عليه سعادة صوفية، غبطة من طبيعة المتعة الروحية. وباستطاعتنا لكى نكون فكرة عنها أن نتذكر ما لا بد لكبار الموسيقيين أن يشعروا به فى أسمى لحظاتهم. وتأثير القرآن على المسلمين ذو طابع معجز والمعجزة من الوضوح بحيث لا نحتاج إلى تحليلها. فالمعجزة تكتنفنا بسرها العميق وتمس نفوسنا بعمق عميق بحيث نسلم بأن طبيعتها قريبة شديدة القرب من سر النفس الأعظم ومن الله. ولم يحدث قط أن كان لعمل أدبى تلك السيطرة التى مارسها القرآن على القادرين على تقدير قوته. ومن سوء الحظ أن الأوروبيين، مثلهم مثل الهندوس واليابانيين فيما أعتقد، لا يدركون فى القرآن شيئا من ذلك. وقد يكون من الصحيح أن يقال إنهم صم عن جمال القرآن كما يكون المرء أصم عن الموسيقى، ولكن ذلك لا يتقدم بنا فى البحث كثيرا. وبناء على ذلك اضطلعت بهذه الدراسة الموضوعية للكتاب العظيم بغية أن أشرح لغير المسلمين تأثير القرآن الفريد؛ بل وقد يكون من الأفضل أن أقول لغير العرب بدلا من أقول لغير المسلمين لأن العرب، بما فى ذلك المسيحيون أنفسهم، معرضون لهذا التأثير. وكان على أن أتخلى للحظة عن عواطفى كمسلم لأننى لا أسعى إلا لدراسة ظاهرة ذات طابع أدبى. ولنبدأ بالوقائع. رجل عمره أربعون سنة أمضى حياته في مكة فى سلام واعتدال وبكثير من التميز. كان شديد الانضباط، فحرص على الامتثال للعرف القائم ولم يسمح بالظهور لأى عرض من أعراض حركته الثورية القادمة. وهو حتى ذلك الحين لم ينبس قط بكلمة تشبه القرآن. والقرآن يذكر بهذه الحقيقة. ثم يشعر الرجل على نحو فجائى تماما برغبة لا تقاوم فى الرحيل عن مكة وقضاء بعض الوقت فى الصحراء، فى عزلة غار. وهو فى وحدته يتفكر معذب النفس وتغزو قلبه مشاعر بغير نظام. وهو يسعى مضطرب النفس إلى أن يخضع لنظام فوضى أحاسيس جديدة لا عهد له بها. كانت الصحراء الممتدة إلى أقصى مدى تحيط به، فلا بد أنه وجد فى هذا الفضاء الرحب - فى السكون النابض الذى لا تتيحه إلا الصحراء وفى هدوء الليالى المرحبة فى تلك المناطق - راحة وسلوى من آلام روحه. ونظرا لأنه لم تتح له الفرصة قط لكى يضع هذه الخبرات فى شكل معروف، فقد كان يشقيه افتقاره هذا إلى الوسائل اللازمة ِلإضفاء شكل مناسب على مشاعره إما عن طريق العمل، أو عن طريق الكلام. وذلك شقاء مفهوم يعرفه كثير من الأشخاص فى لحظات أقل إثارة للقلق. وذات مساء أصبح الأمر يفوق طاقته. كان مرهقا ووجد نفسه فى حالة من النشوة عذبته بفظاعة. ووجد نفسه فجأة ينطق بألفاظ عربية غريبة ومفهومة وإن لم تكن تشبه شيئا مما قاله أو سمعه يقال حتى يومه ذاك. والغريب فى الأمر أنه يستشعر الخوف من هذه الألفاظ التى ينطق بها هو نفسه. وهو لا يدرى ماذا عساه يفعل فى حضرة هذا اِلوحى. والأثر الناتج هنا عنيف لا يقاوم وساحق كما هو الحال فى جميع اكتشافات الحقائق العظمى. وهو يستشعر فى هذه الألفاظ صفة خاصة، وهو رغم اتصال خوفه يخضع لتأثيرها الغامض. وكان فى حاجة إلى قضاء بعض الوقت لكى يستعيد قدرته على الحكم الواضح (وهى قدرة كان فخورا بها) ولكى يقدر قيمة اكتشافه حق قدرها. وهو يتلو هذه الآيات القليلة على زوجه فتجدها بدورها رائعة. وهى تشجعه على تصديقها لأنها أكثر منه ثقة. وشيئا فشيئا تتراكم الكلمات ويشتد أسرها. ويجد محمد فى نهاية المطاف الشجاعة على ترديدها سرا على مسامع بعض الأصدقاء الذين يتبين أنهم مقتنعون بهذه العبارات البسيطة دون أن يخامرهم فيها رأى آخر. بل ان الأشخاص الذين كان من شأنهم أن يروا فى هذه المفاهيم الجديدة ما يضر بمصالحهم لم ينجوا من التأثير المعجز. وتقع أشياء لا تصدق. فثمة عربى بدوى على صهوة حصانه أو على ظهر جمله يسمع بالمصادفة بعض آيات القرآن؛ فيتوقف ويجد الشخص الذى يتفوه بهذه العبارات الجذابة، فيعاهده على الوفاء ويضع حياته تحت تصرفه. ويشمل البلاد تيار من الحماس. ورغم أن السكان كانوا رحلا متفرقين ويقيمون ما زالوا على المثل العليا للأجناس البدائية، فقد ألفوا في بضع سنوات أمة قوية تحت راية القرآن لها مثل أعلى. فقد وحد القرآن بينهم لأنهم كانوا مجمعين على حقيقة واحدة، هى الطابع الإلهى للقرآن. هذه الوقائع لا تقبل الشك. ولكن سعى البعض إلى التقليل من أهميتها بالاستناد إلى حالة العرب البدائية. وادعى البعض أن إبهار سكان الصحراء القاحلة البسطاء هؤلاء لم يكن يقتضى الشيء الكثير. وهو موقف يسهل فهمه فى حالة علماء القرن التاسع عشر، ولكن عفى عليه الزمن. فهؤلاء العلماء الذين أسكرتهم مكتشفاتهم الجديدة كانوا ذوى أحكام قاطعة فيما يتعلق بجميع الظواهر. فهنالك محور الخط المستقيم، والطابع النهائي للقوانين، لقانون الجاذبية، وقانون حفظ الطاقة، والضوء، ولا تناهى الكون، ومعرفة الأشياء التى تخرج عن نطاق الزمان، والفلسفة الثابتة، والفصل بين الطبقات والأجناس. أما اليوم فقد تغير كل ذلك. وذلك أن عصرنا هو عصر نسبية المنحنيات فى المكان، عصر الكون المتناهى والمتزايد عظما. بل لقد أصبح هناك اعتراف بالغائية فى الظواهر الطبيعية مثل النشاط الإشعاعى؛ ذلك هو عصر فلسفة الحركة والزمان والتغير منظورا إليها بوصفها جوهر الأشياء المادية ذاته. ولم يعد هناك ما يمكن تأكيده على نحو قاطع. والعلماء الأوروبيون متقدمون بمقدار نصف قرن على الأقل على معاصريهم من رجال السياسة، والمال، والنقاد وغيرهم. فقد أثبتوا على نحو نهائى أن الناس في أعماقهم متشابهون على نحو مهين للمتحذلقين. وقضى علماء التحليل النفسى بالضربة القاضية على كل فكرة تقول بالتفوق الفطرى لبعض الأفراد أو بعض الأمم. وقوة الشعور الباطن صارت أمرا مسلما به، وهى متماثلة تقريبا لدى جميع البشر. ثم إن الظاهرة تكون عظيمة بقدر اتساع نطاقها. وليس من المهم الوقت أو المكان الذى وقعت فيه. ومن الغريب أن نلاحظ أن بعض الناس الذين أضنوا أنفسهم بحثا عن تفسير لمغزى ظاهرة قليلة الشأن مثل التكعيبية يجهلون أو يتجاهلون ظاهرة فريدة وهائلة مثل تأثير القرآن على الملايين والملايين من البشر. ولدينا إذن كل الحق فى معاملة هذه الظاهرة بوصفها من أعجب ظواهر التاريخ، ولا سيما أن أداة هذه الحركة التى نشأت بين الأميين عمل أدبي، وهو ما يزيد نجاحها غرابة على غرابة. والموضوع الرئيسى فى جميع الكتب المقدسة هو حث الناس على فعل الخير والامتناع عن الشر. وليس هناك ما هو أسهل من إلقاء مواعظ من هذا النوع. ولكن يختلف عن ذلك تماما التأثير على الناس والارتقاء بهم مما يجعلهم يعيشون وفقا لقواعد ضمائرهم، وحملهم على قبول التضحيات اللازمة. وإذا كان هؤلاء الناس ينتمون لجنس بدائى ومترحل ولا عهد لهم بممارسة الأفكار المجردة، فإن دمجهم فى أقل من ثلاثين سنة فى أمة قوية وموحدة تخرج إلى غزو الإمبراطوريات الكبرى المجاوزة بغية هدف واحد هو حملهم على الإيمان بإله واحد يبدو أمرا معجزا. وهولاء العرب الشجعان لم يتساءلوا قط عن أعداد الجيوش التى يتعين عليهم مواجهتها ولا عن مدى قوتها. كان المقاتل العربى يرفع فى غمار المعركة سيفه لهزيمة خصمه ولم يكن هذا الأخير مطالبا بشيء سوى أن يقول: «لا إله إلا الله»، وكان العربى يلقى بسيفه لكى يعانق رفيقه الجديد. ومثل هذه الوقائع تثبت أن هؤلاء العرب كانوا فى حالة من النشوة والجموح لا تصدر إلا عن مثل أعلى شديد السمو. وليس هناك ما يستعصى على المقاومة مثل رجل عمل تتملكه فكرة مجردة يكرس لها كل طاقته. وكثيرة هى القوى التى جعلت من هذه النتيجة أمرا ممكنا. فوضع الإسلام بين اليهودية التى تميل بشدة إلى استوجاب العواقب الطبيعية لأفعالنا وبين المسيحية الميالة بشدة إلى مغفرتها، كان لا بد أن يجعل الإسلام مقبولا لدى قسم كبير من البشر. والاكتشاف الخطير الذى ينظر إليه بوصفه عبقرية الإسلام هو التقوى التى تفترض انسجاما كاملا بين الأخلاق والحياة – انسجاما لا يوجد إلا قليلا فى العهد القديم على حساب الأخلاق، وفى المسيحية على حساب الحياة. غير أن هذه الاعتبارات لم تسهم بشيء رغم أهميتها فى حركة المسلمين الأوائل من العرب. ولا أريد أن أتصدى هنا لدراستهم، بل أريد فقط أن أشير إلى أن الحركة بأسرها أنجزت بفضل القرآن، وسأحاول أن أدرس كيف استطاع القرآن أن ينجح فى إنجازها. لقد نجح بفضل قيمته الأدبية وحدها. والبعض يأخذ عليه افتقاره إلى المنطق وإلى التسلسل فى الأفكار. ولكنا ليس ثمة حاجة إلى أدلة دقيقة ذكية فيما يتعلق بدفع الرجال إلى إثبات تلك القدرة على العمل. بل ينبغى الاستعانة بما هو أشد عمقا لدينا، وأقول أشد إنسانية، من الذكاء. فكارلايل، مع تقديره للحركة الإسلامية ولإخلاص النبي بصفة خاصة، لم يستطع أن ينأى بنفسه عن التصريح بأن القرآن فى رأيه يتصف بغباء نادر المثال. وكان يفضل منطقا أكثر دقة، وتسلسلا فى الأفكار أكثر وضوحا، وترتيبا فى العرض، وكان باختصار يريد كتابا يخاطب الذكاء. فالذكاء بالنسبة له، كما كان بالنسبة لغيره من فلاسفة عصره، هو كل شيء فى حياة البشر. وعلينا أن نصحح هذا الخطأ، فالبشر يهتمون بهذه الأدلة الذهنية ويستمتعون بها، ولكن ليس لهذه الأدلة من القوة الدينامية ما يقودهم إلى العمل. انقضى وقت عبادة الذكاء. والذكاء ما إن يزاح عن العرش يحتل مكانه المشروع ولا يوقعنا فى الخطأ كثيرا. وهو يمثل فينا الصفة العليا للحيوان، ولكن الإنسان ليس حيوانا عاقلا فحسب. وليست تلك صفته المميزة. كلا وليس هو «بالشبكة المفكرة». بل هو كائن يتمتع بالضمير الذى يميز الخير والشر، والجميل والقبيح، وهو باختصار حيوان فنان قادر على إصدار أحكام القيمة. وقد حاول بعض الفلاسفة التفرقة بين الذكاء والغريزة، ولكن من الواضح أن الاثنين ازدهار للميلين في عالم الحيوان. ولدينا شيء لا يوجد لدى الحيوانات على الإطلاق، وهو النفس، والضمير، والذوق، وهى ثلاثة أشياء يحق لنا أن نعتقد أنها تعد شيئا واحدا. وهو ما يفسر لنا أن نقص الأدلة التى تخاطب الذكاء لا يقلل في شيء من قيمة القرآن ومن قوته. وهناك كتب أشد ذكاء من العهد الجديد، ولكن ما هو تأثيرها على البشر؟ وأستطيع أن أذكر ما يشبه ذلك من المآخذ المبتذلة التى تؤخذ على القرآن. فقد يكون من الأمور المبتذلة الحض على الفضيلة، وحث البشر على رؤية ما هو واضح شديد الوضوح والإيمان بقوة خالقه، ولكن هذا هو الموضوع الوحيد لجميع الكتب المقدسة. أما أن يصنع من هذه الأمور المبتذلة أدب رائع، فتلك هى الظاهرة التى نود دراستها. ولكن هناك بالإضافة إلى ذلك الصفة الرفيعة للوحة، وهى الصفة التى تجعل منها إبداعا خالدا، أى تشكيلها. وهى غير المدرك، وغير الواعى، والعميق الشديد العمق، وما لا يحاكى، وما لا يسبر غوره فى العمل الفنى. الجمهور يشعر بتلك الصفة بشدة ولكن من الصعب جدا تحليل سببها. وهى لا تعتمد على الذكاء، بل تنتمى إلى مجال آخر، مجال النفس، مجال الصفات الإنسانية فى المقام الأول. وهى لا تنقل ولا تتعلم. وهى متميزة تماما عن الأسلوب. فالأسلوب يتحسن بمرور الوقت، وهو فضلا عن ذلك سمة لكل ما يعتمد على الذكاء الذى هو قوة تنظيمية وتراكمية فى المقام الأول، بينما يوجد التشكيل فى أكثر صوره تقدما لدى البدائيين. فالفنانون البدائيون الإيطاليون مثل ماساشيو يتميزون رغم الصعوبات الناجمة عن قصورهم التقني بتشكيل لا يوجد حتى لدى رافائيل. وهنا إذن اختلاف أساسى بين الأسلوب والتشكيل. ونحن نجد فى فترة شباب الفن أجمل التشكيل. فقبل أن تتجمد الكلمات فى معناها الدقيق المحدد الرمزى، وقبل أن تصير العلاقات القائمة بين الأشياء المشار إليها بالألفاظ معروفة بوضوح شديد ومهمة أكثر مما ينبغى، تصبح العلاقات بين الألفاظ نفسها طاغية. وأعظم الشعر – وليس للشعر من قيمة إلا إذا كان يدين بقيمته للتشكيل– يوجد دائما أثناء شباب اللغة. ففى نشوة الصبا تبدع اللغة أجمل الأشياء. وتطور الذكاء والمنهج والعلم يقتل التشكيل ويقتل الشعر والفن بصفة عامة. وعندما تأتى مرحلة الكتب للغة بلغت نضجها يلجأ إلى التوثيق ولكن لا يستشعر الحماس. والتشكيل انعكاس للنفس، هو صورتها المرتسمة فى الخارج أو على الأقل تمثيل لصفة من أبرز صفاتها. هو الواصلة بين الإنسان ووسطه. وما إن يتحقق الوصل حتى يحدث التراخى كما لو أن شيئا لم يعد يساوى جهد الإبداع. وكلما اشتدت قوة التشكيل فى الإبداع القومى، كثر وجود ذلك الإعياء الذى يعقبه. فكأن مهمة الإنسان هى السعى إلى تمثيل النفس فى صورة ما. وتلك هى أقوى وسيلة لتحريك مشاعرنا وهى فى نفس الوقت غاية جهودنا. وسنرى أن القرآن هو المثال الكامل للتشكيل فى اللغة لدى قوم كانت اللغة تمثل قوتهم الفنية الوحيدة؛ وقد أثار القرآن حماس العرب بشدة فلم يعد فى مقدورهم إلا نشره. وبعد ظهور الإسلام بفترة قصيرة جدا أصاب الإعياء العرب الحقيقيين ولم يبق إلا رماد النار التى أحرقتهم. ونحن نجد فى ربيع اللغة بصفة خاصة أجمل الأعمال التشكيلية. ففى تلك الفترة يحس الناس بالحقيقة كما لو كانت شيئا ماديا. هنالك تختلط المادة بالمجرد. فهم لا يتصورون المجرد، بل يبصرونه، ويلمسونه، ويشمونه. وذلك ما يوقفه تطور الذكاء، ويضع فاصلا بين المجرد والمادى. والتشكيل فى الحالة الأولى سهل وطبيعى، ومن ثم كان التشكيل الرائع فى جميع الكتب المقدسة. وليس بمستطاع المحدثين فهم هذه الكتب بالطريقة القديمة. ولسنا نجد فى الفن وحده أقوى تشكيل، فمن الممكن أن يظهر ذلك في الأفكار أو فى العمل ثم تأتى الشيخوخة دائما عقب إنجاز العمل التشكيلى الأساسى للفرد أو الإقليم بفترة قصيرة. فقد شاخ اليونانيون فورا بعد أرسطو، وشاخ الرومان بعد إمبراطورية قيصر، وهما عملان مثلا عبقرية كل من الأمتين. وليس من السهل إدراك سر التشكيل القوى. ولكن يمكن أن نقول إن الموسيقى هى تشكيل الزمان، وإن التصوير والنحت والعمارة تشكيل للمكان. أما فى حالة اللغة فإن التشكيل يتحقق فى الزمان والمكان. وقد درست العلاقة بين الرسومات وأساس اللوحة تحت عنوان «تأليف المكان»(space composition) بوصفه السر فى مجد مدرسة بيروجين ورافائيل. والتشكيل الأدبى أكثر تعقيدا والأمثلة الكاملة ليست كثيرة. ويبحث عنه بصفة خاصة فى النتف القليلة من شعر كبار الشعراء فى أسمى لحظاتهم. ولكننى لا أعرف عملا يمثل بأكمله مصدر إلهامه ووسط موضوعاته ونفسها كما يمثل القرآن تشكيل الصحراء والشعوب العربية. وليس لدى ما أقوله للذين لا يستطيعون أو لا يريدون أن يروا فى الصحراء سوى امتداد فسيح قاحل وميت من الرمال. ولا يمكن الحديث عن تشكيل الموسيقى للذين لا يجدون فيها سوى ضوضاء أو الذين لا يرون فى تشكيل للسيدة العذراء سوى امرأة. ومع ذلك فإن الكثيرين منا يجدون أن للصحراء نفسا، وحياة، وشخصية أكثر تميزا من المشاهد الطبيعية الأخرى. أما لذين لا يغريهم القحط، فإنى أقول لهم إن موضوع العمل الفنى ليس مهما. فالأمر المهم هو لطف تشكيله ودقته وقوته. فأين نجد الصحراء فى القرآن؟ لنبدأ بتشكيل المكان. المحدثون الذين هم رياضيون أساسا يأخذون على القرآن الافتقار إلى المنطق والنظام. فلننظر الآن إلى مرأى الصحراء ولا سيما الطرق التى تعبرها بصفة خاصة. فهى متعرجة دون سبب، وهى تلتف التفافا ضخما تلافيا لعقبة صغيرة، وتتسلق التلال بدلا من أن تسلك أوضح المسارات. وهى تحتوى على انحناءات وانحناءات بلا نهاية؛ والخط المستقيم ليس بالشيء الطبيعى فى الصحراء. ولا يعد ذلك نقصا فى المنطق، بل هو منطق خاص للصحراء لا يمكن أن يكون غير ذلك. ومنطق الرياضيين لا مكان له فيها وغير ذى موضوع. فالأمر الوحيد المهم هو الغاية المستهدفة والتى يراد بلوغها دون انتباه كثير للطريق المتبع. والفارق بين القرآن وعرض فلسفى جيد عصرى هو نفسه الفارق القائم بين الطريق من مكة إلى القدس وبين طريق للسيارات. ومن الممكن تفسير كل الالتفافات وانعدام النظام عندما نتذكر أن الهدف والمقصد لا يغيب عن الانتباه. ويجب أن يوجد لدى المرء إحساس شديد بالاتجاه كما وجد عند العرب لكى يدرك أن فى القرآن اتجاها واضحا عبر هذا الاختلاط ونقص النظام وهذه المنحنيات اللانهائية. ويشعر المرء بأنه يضل الطريق من حين إلى آخر، ولكنه لا يلبث أن يدعى إلى الهدف الرئيسى للكتاب، وهو تمجيد كائن واحد مجيد لا نهاية لمجده. وأنا شخصيا أجد فى هذه الحالة بالذات العلامات الأولى لتشكيل الصحراء ولعقلية الشعوب المترحلة. ولنتذكر أيضا أن هذا الافتقار إلى التسلسل فى الأفكار لا يصدم إلا ذكاءنا، ولكن نفوسنا أبعد ما تكون عن الترتيب الشديد وفقا لمنطق عقولنا. فالأفكار تحت تأثير الانفعالات القوية وفى أحلامنا تنبثق من أعماقنا ذاتها دون ترتيب، فكأنها تتحدى المنطق والعقل، ولا يحدث التبلور إلا بعد وقت. والاضطراب البادى فى الأحلام صورة دقيقة لحالة من حالات نفوسنا، وعلى هذا النحو ذاته لا أرى فى انعدام الترتيب في القرآن صورة لنفس الصحراء والعرب فحسب، بل أجد فيه صورة للطبقات العميقة من النفس البشرية. ولننتقل الآن إلى حالات التكرار. من المهم أهمية أساسية وجود قدر من التكرار فى جميع الأعمال الفنية. ففى الموسيقى وفى العمارة والتصوير لا غنى للجمال عن تكرار التيمات. وهناك تكرار مبتذل رتيب قاتل. فمن شأن سلسلة من التماثيل النصفية للأباطرة الرومان أن تصدم الذوق، لأن التكرار هنا بلا شكل. والفارق بين نوعى التكرار، الجميل والقبيح، لا يسهل تفسيره، ولكن من السهل جدا ملاحظته. وحالات التكرار فى القرآن بالنسبة لغير العرب تفتقر إلى التشكيل. فلنتفحصها. اللغة العربية تعرف السجع وتستحسنه جدا، والسجع هو انقسام النثر بوضوح إلى عبارات قصيرة إلى حد ما تنتهى بقافية تتكرر مرتين أو ثلاث مرات. وتلك سمة من سمات اللغة العربية لا نجدها في اللغات الأخرى. ولما كانت العربية لغة قبائل مترحلة تسافر فى قوافل فى الصحراء، فقد كان السجع جميلا وطبع اللغة بخاتم طبيعى يتضمن تشكيل الصحراء بوضوح. ولكن عندما أصبحت العربية لغة بلدان عصرية وعلمية العبارة، اختفى السجع. فهو شكل ممعن فى الصحراوية بحيث لا يمكن استخدامه بنجاح فى الأعمال العصرية حيث يبدو لى دائما كمفارقة تاريخية. ومن السهل تماما تفسير السجع بشكل الصحراء. فقد كان من المألوف أن يضل المرء طريقه أثناء سفر طويل فى الصحراء إذا لم يقسم الطريق دون وعى إلى أجزاء صغيرة قاطعة تحدها معالم تتكرر طيلة الرحلة. أما تسلسل العبارات الطويلة ذات الأهمية المتصلة من البداية حتى النهاية، وتقدمه عبر أوصاف وعمليات عقلية معقدة وانقطاعه أحيانا بوقفات تتفاوت طولا وقصرا، فهو أمر غريب تماما على لغة العرب فى بلاد العرب. والسجع بالنسبة لهم تعبير صحراوى شأنه شأن معالم الطريق ذات الأهمية الأساسية للحياة فى الصحراء. والسجع فى القرآن لا يحاكى. والمؤلفات وفقا لهذا الشكل من أشكال الأدب العربى بعد القرآن تشبه بالأحرى تلك السلسلة من التماثيل النصفية التى أشرت إليها منذ قليل. وفى هذه الحالة أدى مفهوم الترتيب والمنطق الهندسى المسيطر فى المدن إلى جعل السجع خليطا لا يطاق من المدينة والصحراء يطابق نفس مرحلة التطور التى شهدتها تيمات الرسومات التى تتكرر إلى ما لا نهاية وتسمى أرابسك دون سبب كاف. وتميل العبارات في هذه المؤلفات إلى أن تكون بنفس الطول تقريبا، وتتردد القوافى بانتظام كل جملتين. ويبدو العمل المؤلف بأسره مصطنعا شديد التكلف. والترتيب والتماثل الغريبان على الصحراء يقتلان تشكيل السجع. وكثيرا ما يستخدم السجع فى القرآن؛ وهناك سور تقفى فيها جميع العبارات، ولكنها غير متساوية من حيث الطول. ويشتد الاعتماد على القافية فى بعض الحالات ويقل فى حالات أخرى، وقد يحدث أحيانا أن تبتعد عبارة واحدة عن السجع. وتتسم القوافى بطابع مميز، فمنها ما هو متنوع ومتدفق ومنها ما هو قصير وقاطع. وكل ذلك يجعل المجموع أشبه بمظهر الصحراء، أو تعبيرا عن البداوة فريدا فى الأعمال الإبداعية الأدبية. والحكم على مثل هذا العمل بمقارنته بالكتب البسيطة لا يمكن أن يكون إلا حمقا من جانب النقاد ولا يدل على شيء سوى انعدام الإحساس لديهم بالصفات الأساسية للقرآن. ويبقى بعد ذلك تفسير التكرار الدائم فى كل أجزاء القرآن لنفس الأفكار، أى عظمة الله، والإيقان بالبعث، وغير ذلك من المواعظ على اختلاف أنواعها. وبناء على هذا الأساس المؤلف من أدلة بسيطة، ونصائح أخلاقية، ووعود لفاعلى الخير ووعيد لفاعلى الشر، ومن الدعوة المتكررة إلى الإيمان بإله واحد بصفة خاصة – أقول بناء على هذا الأساس الذى لا يتضمن كثيرا من المظاهر المختلفة، تتناثر هنا وهناك واحات تتسم بطابع أكثر تنوعا، وأكثر عذوبة، وأكثر إمتاعا، وذلك مثل قصة التكوين، وقصة آدم وحواء، وقصة بنى إسرائيل بصفة خاصة. وتشبه قصة بنى إسرائيل منجما تستخرج منه عند الضرورة كل التجارب وكل النصائح التى يمكن لتاريخ الشعوب تقديمها. وقد لا نجد فى بعض الأحيان سوى عبارتين أو ثلاث للتذكير برواية تاريخية وفى أحيان أخرى تروى الحكاية بتفاصيلها الكاملة. وهذه الواحات الحقيقية رائعة فى نوعها؛ فهى قاعدة يستمد الروح منها زاده، ومقصد للنصائح التى سبقتها وتعلة لتقديم نصائح أخرى. والواحات شديدة الإمتاع للمحدثين ولا تقل فى شيء عن أفضل القصص فى العالم. وأسلوبها موجز يخلو من التكرار ويختلف تماما عن الأسلوب فى الأجزاء الأخرى. فقصة يوسف، وقصة الخروج، وقصة ميلاد المسيح تنطوى على تسلسل، وعلى منطق وترتيب لا نظير له. وأنا أنصح الأوروبيين الراغبين في إدراك ما هو القرآن أن يبدأوا ببعض المقاطع المختارة التى تجتمع فيها هذه الواحات. فسيجدون عندئذ عملا يعجبهم أعظم الإِعجاب. وستترك هذه المجموعة من الواحات انطباعا غامضا عن المدينة أو أنها على الأقل ستكون مفهومة لأهل المدن. ولكن القرآن لن يكون عندئذ هو القرآن، ولن يكون الصحراء، ولن يكون هو الكتاب الذى ألهب العرب بالحماس. بل سيكون أقل بكثير من القرآن، ولكنه سيكون بالنسبة للأوروبيين أسهل فهما وأشد صدقا من الترجمات الحرفية التى لا قيمة لها وليست صادقة إلا فى الظاهر، وهى أفضل طريقة للكذب. ومثال ذلك أننا نجد الترجمة العربية الحالية للإِنجيل، رغم كونها ترجمة حرفية، لا تحتمل بقدر يفوق عدم احتمال ترجمات القرآن الأوروبية. ولهذه الواحات إذن قيمة كبيرة بالنسبة للمحدثين، ولكنها لن تتضمن وحدها نفس التشكيل الصحراوى إلا إذا سبقها وتلاها الامتداد العظيم الرتيب لأساس اللوحة. وعندئذ يرى فى كل مكان الهواء الطلق وتظهر الرؤيا الحرة فى الأساس وفى هذه الواحات على السواء. وعندما يقتضى الأمر صنع لوحة، فإنها تصنع دائما، بأقصى اقتصاد فى العبارة، من بعض العبارات التى تشبه خطوطا ممتدة عظيمة تحيط بالسماء والأرض. ومثال ذلك وصف نهاية الطوفان: «وقيل يا أرض ابلعى ماءك وياسماء أقلعى، وغيض الماء... واستوت على الجودى وقيل بعدا للظالمين». ومن المستحيل فى ترجمة لهذا النص التعبير عن التشكيل القوى الرائع لهذه الآيات. ويتضمن القرآن بالإضافة إلى ذلك التشكيل الشديد اللطف للزمان. فهناك أولا ما يمكن تسميته بسرعة الأسلوب. ولكل عمل أدبى سرعة خاصة ينبغى قراءته بها. وهناك مؤلفون يستوجبون أن يقرأوا ببطء أو بسرعة. والقرآن يتحرك ببطء. وقراءة القرآن بسرعة يعنى فقدان الكثير من جماله. وهو على أى حال لم يصنع لكى يقرأ. بل يجب سماعه مرتلا ببطء. وتناوله على نحو مختلف يقضى على قدر كبير من تشكيله. وشبيه بذلك ما يحدث عندما تدرس لوحة لرمبرانت نسخت مثلا على شكل نقوش بارزة منخفضة على الخشب. سيكون ذلك بمثابة رؤية هيكل عظمى أو جثة لعمل فنى أشبه بما يحدث عند نسخه بمادة أخرى غير المادة التى صمم بها. والقرآن صمم مقروءا وليس مكتوبا، وللقراءة ببطء فضلا عن ذلك. ونحن نشعر بحاجة إلى الإسراع عند إلقاء حديث عربى مفعم بالنشاط، ولكننا نضطر عند الاستشهاد بنص من القرآن إلى التحرك بتؤدة وفقا لإيقاع محدد. وتلك صفة غامضة شديدة الغموض لتشكيله. ولننظر الآن فى صفة أخرى للزمان يصعب إدراكها. فالشعور بالزمان يتوقف على الحياة، وإذا لم تكن الحياة شديدة الحدة، وإذا لم تأت مظاهرها المختلفة فى أعقاب بعضها البعض، اتسم الزمن بمظهر شديد الغرابة. فعندئذ تمر مدد زمنية قصيرة ببطء شديد بينما تمر مدد طويلة غير ملحوظة؛ تمر الأيام بتثاقل فى حالة الوحدة بينما تمحى السنوات بسرعة تفوق سرعة الأيام. وتلك على وجه التحديد هى نفس الظاهرة التى تحدث فى الأسفار عبر الصحراء، فالمدة الطويلة هي مدة السير حتى بلوغ الشجرة القادمة، حتى المعلم التالى. والقرآن طويل شديد الطول، والترتيب فيه تجريبى، وحالات التكرار كثيرة، وتتشابه فيه مقاطع بأكملها، والكتاب مع ذلك يسهل حفظه كلمة بكلمة. والكتب الأخرى التى يساعد المنطق والترتيب فيها على سهولة الحفظ لم يحدث قط أن حفظت بهذه الطريقة. وهنا نجد صفة من صفات تشكيل القرآن تجعله شبيها بالرحلات الطويلة فى الصحراء على مسارات قليلة التنوع. وليس بوسعنا أن نتلافى الإحساس بنفس الصحراء بكل مظاهرها عندما نستمع إلى القرآن. وقد أحس العرب بها إحساسا قويا، ورأوا فيها تحقيقا كاملا لكل ما كان فى وسعهم، ولكل ما كان الوسط الذي يعيشون فيه قادرا على إلهامه. وكان القرآن يحيط بروحهم وفنهم وحياتهم بأسرها بحيث لم يعد العرب بحاجة إلى صنع عمل باهر آخر. كان القرآن يمثل غاية مسعاهم فى الحياة، فأصبحوا بناء على ذلك وكأنهم انتهوا ونضبوا بسرعة بعد ظهور القرآن. وهذه الملاحظات القليلة قد توضح بعض الشيء هذا اللغز الذى يعرضه تاريخ الأدب بشأن سيطرة القرآن على العرب. فثمة نظرية أعتقد أنها جديدة، نظرية تشكيل الكلمات التى هى من صنع بشرى تماما. فكيف يمكن لكلمة بفضل ما تعنيه، بفضل شكلها، وموسيقاها، وعلاقتها بغيرها من الكلمات، وباختصار بفضل كل شخصيتها ككائن حى- كيف يمكن لهذه الكلمة أن تصبح تعبيرا عن نفس، أن تصبح لوحة صوفية وغير واعية بما هو جوهرى فى مشهد طبيعى أو فى شعب؟ فى ذلك تكمن معجزة القرآن، وأنا لا أعرف أى أمثلة أخرى سوى شذرات متفرقة ليس لها شمول القرآن. والتشكيل لدى شعوب أخرى لا يوجد بالضرورة فى أدبهم. فالتشكيل لدى اليهود مثلا يوجد فيما أعتقد فى سفر الخروج. ولكننا نجد السمة المميزة لهذا الشعب فى فعل الخروج ولا يوجد فى شكل تأليفه. وسيقول الملحدون لعل الخروج لم يحدث قط. ومن الممكن الرد عليهم بأن العمل الأدبى يعيشه شعب وأنه جزء من وجودهم وأنه صادق صدق الوقائع التاريخية ذاتها. بل انه أكثر صدقا لأن هناك وسائل عدة لرواية الواقعة التاريخية الواحدة فى حين أن العمل الأدبى يوجد هنا ماثلا أمام أعيننا مماثلا لنفسه دائما. ولا يقلل من قيمة القرآن أنه لا يمثل إلا تشكيل الصحراء. فهناك لوحات لشحاذين أروع من صورة للصلب أو صورة للسيدة العذراء. وهذا التشكيل الرائع يجعل من القرآن ظاهرة فريدة. ومن السخف الحكم عليه بمعايير القيم الأدبية العادية. فالقرآن هو السيمفونية الكبرى للصحراء، وهو اللوحة الصوفية لهذه الشعوب التى أحست بالقوة السحرية للكتاب المقدس حتى قبل أن تفهمه. وأنا أبحث عن كلمة لوصف هذا التأثير. وليس هناك إلا كلمة واحدة. القرآن لا يمكن أن يكون إلا وحيا إلهيا حقا. عن «الأهرام» المصرية