في أي عَصْر عاش طاغية نجدان ؟ و أين كانت توجد دولته ؟ في الشرق أم في الغرب ؟ في الشمال أم في الجنوب؟ علْمُ ذلك عند علّام الغيوب. كل ما تَذْكره كتبُ التاريخ هو أن المستبدّ بالله - و هذا هو لقبه - كان ينتمي إلى سلالة من الطغاة الظالمين ، الذين حكموا بلادَ نجدان و مارَسوا فيها ضروبا من الطغيان ، واشتهروا بأخبارهم العجيبة وألقابهم الغريبة. ولعل أهمّ كتاب وصلَنا عن نزوات المستبد بالله هو كتاب « إتحاف الخلان بأخبار طاغية نجدان مع الشعراء و الوزراء و الأعيان « ، الذي نقدمه على حلقات ، خلال هذه الفسحة الصيفية . وهو من تأليف الشيخ أبي منصور البغدادي ، المشهور بلقب « رِيق الدنيا .» ويحكي الشيخ أبو منصور في كتابه هذا أمورا لا تُصَدق عن هذا الطاغية ، المولع بالشعر والأدب، والذي كان يَحدث له أن يرتجل دستورا جديدا للبلاد، إذا امتنعَ عنه الرقاد ! كما يسجل له التاريخ أنه أول مستبد يعين وزيرا للشمس والقمر، ووزيرا للرعد و المطر، ووزيرا للألوان ووزيرا لنوائب الزمان و آخرَ للظلم و الطغيان . حدثنا شيخُنا أبو الفضل النجداني ،قال : شهدتُ يوماً مجلسَ الطاغية، وعنده الشعراء و الكتاب، فتذاكرنا حول ما يصيب الإنسانَ منَ الأذى منْ قبَل الأعداء ، و ما ينبغي أن يتحلى به من الصبر و الإباء، ، فقال الشاعر الشيخ أبو عثمان الجهمي ، الملقب بنسيم الصبا، و كان يومئذ وزيرا للشعر : - يا مولاي المستبد بالله، رحم الله أعشى همدان الذي قال : و أصابَني قومٌ و كنتُ أصيبهمْ = فاليوم أصبرُ للزمان و أعرفُ قال الطاغية متوجها إلى الحاضرين : - لا شك أنكم تَعرفون كيف كانت نهاية هذا الشاعر الفارس الفقيه ، الملقب بأعشى همدان ، و كيف جيء به أسيراً إلى الحجاج بن يوسف الثقفي ، فأمرَ بضرب عنقه ... قال شيخنا أبو الفضل : ثم إن الطاغية سكتَ بعد ذلك و طفق يجيل النظرَ في الحاضرين ، قبل أن يخاطبهم قائلاً : - يا شعراء نجدان و كتّابها الأفاضل ، لَطالما مدحْتُموني في قصائدكم بالظلم و الجور، و ذكرتمْ ما جُبلتُ عليه من طغيان، و ما فُطرتُ عليه من استبداد . لكنكم تدركون دون شك أني لا أبلغ شأو الأقدمين في هذا المضمار. و يشهد الله أني لم أتفنن قطّ في التنكيل بالشعراء و الكتّاب و الأدباء ، كما كان الحكام يفعلون ، في سالف القرون . و إلا فأخبروني - رعاكم الله - هل سبق لي منذ اعتليتُ عرشَ نجدان ، أن صنعتُ بأحدكم ما صنعه الحجاج بأعشى همدان ؟ و هل فعلتُ بشاعر منكم ما فعله والي مكة ، محمد بن هشام ، بالشاعر العَرْجي، حفيد عثمان بن عفان، حين قيده وعذبه ، وتركه في الحبس تسع سنوات، فلم يخرج منه إلا جثة هامدة ؟ و هل خطرَ لي يوماً في أنْ أدفنَ أحدكم حيا ، كما فعل المَلك النعمان بالشاعرالمنخل اليشكري ، أو كما فعل الخليفة أبو جعفر المنصور بالشاعر سُديف ، أو كما فعل الوليد بن عبدالملك بالشاعر وضّاح اليمن ؟ و هل صنعتُ بأحدكم ما صنعه الخليفة العباسي المهدي بالشاعر الضرير بشار بن برد ، حين قتله ضربا بالسياط ؟ أو بالشاعر صالح بن عبدالقدوس ، عندما أومأ هذا الخليفة الظالم إلى سيافه فشطره بالسيف نصفين ؟ و هل مثلتُ بأحدكم تمثيل والي البصرة بابن المقفع، إذْ قتلهُ قتلة شنيعة، بأمر من الخليفة العباسي المنصور ؟ و هل ارتكبتُ ما ارتكبه الخليفة العباسي المأمون حين أمرَ بقطع لسان الشاعر الضرير علي بن جبلة - الملقب بالعَكَوَّك - قبل أن يقوم بقتله ؟ و هل صنعتُ يوما بواحد من أدباء و كتّاب نجدان ما صنعه الخليفة المتوكل بابن السّكّيت ، لمّا أمرَ بسَلّ لسانه ثم بقتله ! أو ما صنعه الخليفة الراضي بالخطاط ابن مقلة، حين أمر بتعذيبه ثم بقطع يده ثم بقطع لسانه ، فلما مات في السجن ، نُبش قبره و أعيد دفنه ثلاث مرات ! و هل عاملتُ أحداً منكم معاملة أبي العباس السفاح لعبدالحميد الكاتب، عندما أمرَ بإعدامه ، بعد أن أنزل به ألوانا من العذاب ؟ و هل أنزلتُ بفرد من جماعتكم ما أنزله الخليفة المقتدر بالحلاج ؟ أو ما أنزله صلاح الدين الأيوبي بالسهروردي؟ فيا شعراء نجدان و كتابها الأفاضل، لا تمدحوني بعد اليوم بما ليس فيّ من ظلم وجبروت ، فإني لا أبلغ ما بلغه الأقدمون في هذا المضمار. و كلُّ ما أحسن القيام به هو نَفْيكم بين حين و آخر إلى جزيرة دهْلك ، أو تسييركم إلى سجْن الكثيب ، حيث تقضون أوقاتا طيبة ، ترسفون خلالها في القيود، و تعيشون على التمر و الماء ، ثم تعودون فأستقبلكم هنا في داري العامرة ، و أخلع عليكم الخلَع الفاخرة ، متمثلا بقول الشاعر الكميت بن معروف : لئنْ تكُ قد ضاقت عليكم بيوتكمْ = لَيَعْلمُ ربي أنّ بيتيَ واسعُ قال الشيخ أبو الفضل : ولم يكد الطاغية ينتهي من كلامه هذا حتى التفت إلى وزير الشعر ، و قال له : - أيها الشيخ الوزير، إن الشاعر الكميت بن معروف قد جزمَ بِ ( لَئنْ) ، في بيته هذا ، و زاد لاماً في قوله ( لَيَعْلمُ) ، مع أن الجواب ليس للقسَم ، و لو كان من معاصرينا لأمرتُ باعتقاله . فحرك وزير الشعر رأسه دون أن ينبس بكلمة ، فيما امتُقعَ لونه ، كأنما خاف أن يُعتقل مكان ذلك الشاعر القديم !