تعود الحكاية إلى أكثر من 20 سنة، كان أول لقاء بيننا هو مناقشة رسالة بكلية الآداب بمكناس، لم أكن قد رأيت حسن بحراوي من قبل، ولكنني كنت أعرف الاسم، فقد اقتنيت كتابه الأول بنية الشكل الروائي سنة 1990، وقد استعنت به في بداياتي الأولى من أجل الاستئناس بالمفاهيم العربية في ميدان البنيويات الأولى، وقد استفدت كثيرا من ترجماته واقتراحاته. ولم تنته الحكاية بعد، ولا يبدو أنها ستنتهي، ولن تنتهي، فما يجمعنا أكبر وأوسع بكثير مما قد يفرق بيننا، فقد هدتنا الخيبات المتتالية، ولم يعد هناك في واقع الأمر ما يدعو إلى الاختلاف، لقد استقرت الأمور في الأذهان والوظائف والأحكام القديمة والجديدة، ووحدها صداقة قائمة على علاقات إنسانية خالصة، تستطيع أن تصمد في وجه صروف الدهر ونائباته، كما كان يقول أسلافنا. ولكن للحكاية وجه آخر، فلا يمكن أن أتحدث عن حسن بحراوي الصديق دون أتحدث عن إسهاماته في المشهد الثقافي المغربي والعربي عموما. لن أعدد كتبه، فهي متداولة ومعروفة، ولن أصنفه ضمن التيارات والمذاهب هنا عندنا أو عند غيرنا، كما يفعل الناس عادة هذه الأيام في حفلات التكريم التي لا تنتهي، فذاك أمر لا يقدم خيرا للقائل والمقول على السواء. فقيمتنا في ما نحن عليه لا في ما يقال عنا مجاملة. وحدها سمة، وليست بالهينة، تغريني عنده، بل تستهويني، فهي في تصوري ما يميز مشروعه ومن خلالها يتجدد ويتنوع. ما هو ثابت في كتابات حسن بحراوي هو الحكاية، ذاك النفس السردي الذي لا يمكن أن ندرك أي شيء خارج منطقه في تقديم الأشياء والكائنات والمقولات المجردة. فقد استطاع، من خلال حالات التشخيص الكثيرة التي يضمنها مواقفه وتحليلاته، أن يحول المعرفة التي يقدمها للقارئ العربي إلى سلسلة من المحكيات التي لا تنتهي، محكيات شملت عنده كل شيء، التيارات الفكرية والظواهر الأدبية، بل شملت المفاهيمَ ذاتَها. إنها موجودة في كتاباته النظرية الأولى، وحاضرة بقوة بكل في كل ما كتبه بعد ذلك عن الرواية والمسرح والترجمة والعيطة والفكاهة وتاريخ المدن والشخصيات. إنه يحكي وهو يحدثنا عن نظريات الترجمة وشعريتِها، فلا يمكن أن نقرأ ما كتبه عن الترجمة دون أن نلتقط ذلك الخيط التاريخي الذي يسرد لنا قصة أناس أعيتهم الوحدة فراحوا يبحثون عن أقوام آخرين يتبادلون معهم خبرات ضاقت بها الأنفس. ولا يمكن أن ندرك سر العيطة باعتبارها شكلا تعبيريا دون أن نستحضر حالات الفرح والأسى عند الشعب وأشكال القمع العسف عند السلطة، ودون أن نستحضر أيضا حالات "النشاط" التي رافقت صرخة الشيخة بحثا عن لذة يهددها زمن لا يتوقف. وذاك أسلوبه أيضا في تقديم الكثير من المفاهيم التي لا يشرحها إلا من خلال إدراجها ضمن زمنية تحولها إلى كائنات حية تعيش بالإحالة على ما سبقها أو ما يعاصرها. فنادرا ما يهتم بحرواي بمفهوم ما من خلال الإحالة على مضمونه في انفصال عن قصة تكونه، بل يبدو لي أحيانا أن ما يستهويه في حقيقة الأمر هو هذه الحكاية بالذات، وليس المضمون الذي استقر عليه هذا المفهوم. إنه "يحكي" المفاهيم، عوض أن يكتفي بشرح سماتها في الدلالة والتركيب والتواتر إنه لا يحلل بالاختفاء وراء التجريد، إن كل حكم عنده جزء من حالة تشخيصية ترفض أن تمتص المتاهات التجريدية أجمل ما في المعرفة: بعدَها الاستعاري، ما يسرب الوجود المطلق إلى ما تشخصه الحكايات. فما يأتينا من المفاهيم حقيقٌ نظرية، أما ما يأتينا من الحكاية فهو حكمة الحياة. وبذلك تتحول المعرفة إلى فرجة حياتية تنتشي بها الذات العارفة، وينتشي بها الحس القصصي في الوقت ذاته. إنه يعتمد بأسلوبه هذا ما يسميه إيكو "الغش السردي"، ذاك الذي يسعى الباحث إلى طمس معالمه بعد رحلة البحث التي تمت في الذهن وفي الكتب وفي الزمن، لكي لا يلتقط سوى ما استقرت عليه خلاصاته. والحال أن السحر في هذه الرحلة بالذات، فليس هناك من حالات تأمل عقلي خالص، هناك الاستيهام والحدس والإرهاصات، وقد يكون ذلك هو نصيب الناقد من الإبداع. وتلك هي اللحظة التي يلتقطها حسن بحراوي، إنه لا يخفي لعبته في أحكام قد تغني الناقد بالتجريد وتجنب القارئ وعثاء البحث في كليات المفاهيم، ولكنها لا تشبع رغبات العاشق. إن في الحكاية عشقا. وهذا أمر طبيعي، فأحكامنا ليست دائما علمية وموضوعية، كما نتوهم، ولا ضير في ذلك، فنحن لسنا أرقاما ولسنا معادلات رياضية. جزء كبير في وجودنا مصنوع من استيهامات هي ما يجعل الحياة مقبولة، وهي ما يحد من غلواء العقل وهي ما يروح عن النفس فيلهمَها فجورها وتقواها. لذلك فإن، ما يقدمه حسن بحراوي لقرائه استنادا إلى هذا الحدس، هو معرفة من نوع خاص، إنها معرفة مرحة سهلة التداول، تقود المتلقي إلى اكتشاف وجهها المشخص خارج عسر التجريد. وقد ساعدته في ذلك لغة تقول الأشياء بدون زيف ظاهر أو خفي، إنها لا تصف من الخارج، بل تعيد بناء موضوعها في ما يشبه التوالد التلقائي لحظة البناء ذاته. يبدو أننا نلتقط القواعد والقوانين عندما نتخلص من النص، إلا أننا ننسى هذه القوانين في كل عودة إلى النص، لأننا نعود إلى الحكاية فهي أصل القواعد. وذاك جزء من ذاكرة الكتابة عند بحراوي.