تيسكدلت إقليم أشتوكة آيت باها .. كما هي عادة الأهالي في قمم الجبال، كان الاستقبال حارا، بل ومحرقا بخبز تافرنوت كما بزيت الزيتون والعسل الأصيل و وجبة أملو، دون الحديث عن أكواب الشاي المنعنع. كما أي خلية نحل، اجتهدت نسوة من تعاونية جماعة تيسكدلت طوال الصباح في إعداد الفطور على شرف وفد من طلبة جامعة ابن زهر دون غفلة منهن عن أدق التفاصيل. بادرت سيدة في الستينات من العمر، قدمت نفسها كعضو بتعاونية ما، أفواج هذا الوفد بلهجة مغربية لا تخطئها الأذن من حيث لكنتها الأمازيغية المتأصلة في هذا العمق الجبلي من قبائل إدوسكا ، والذي يصل إلى حوالي ألفي متر: « مرحبا بيكوم. عندنا منتوجات و شكرا لكم على الزيارة ». الطريق غير المعبدة إلى موقع هذه القبائل، التي تشكل جزءا من فيدرالية قبائل إيلالن، تكشف رأي العين عن قطعان متفرقة من الماعز وعن استغلاليات محدودة لإنتاج الشعير تفاقمت وضعيتها بسبب ندرة التساقطات خلال العام الجاري، حتى أن وكالة الحوض المائي بالجهة أصدرت ما يشبه «ما قبل الإنذار» . وهذا عبد اللطيف السيد، رئيس جماعة أركان إيلالن القريبة، يرد «شهدنا ما هو أسوأ واستطعنا التعايش مع الظروف اعتمادا على أنفسنا بفضل عائدات المغتربين منا في المغرب والخارج (لاسيما في مارسيليا) وبفضل انخراط جميع الشركاء في عملية ارتباطنا بهذه الأرض وبجذورنا وبانتمائنا الذي لا يتبدل» . ذات الجمعية هي من دشنت، منذ 2008 في إطار شراكات متعددة الأطراف، مشروع إحداث مركز استقبال للسياحة التضامنية، يطل على أكادير إينومار الذي يعد برأي الكثيرين، أكبر مخزن جماعي بالمغرب ومن ثم بمجموع بلدان شمال إفريقيا، حيث ينتشر هذا النوع من الأبنية. والحال أن المطل على هذا البناء، الذي يغطي مساحة 5000 متر مربع ويضم 295 غرفة تنبني على خمس طبقات، لا يمكنه إلا أن ينبهر بقوة هذا المخزن الجماعي الذي شيد على مشارف «وادي ورغة» من حيث كانت تأتيه أغلب الهجمات الفجائية وغير المتوقعة في سياق غياب الأمن الذي تلا حكم السلطان العلوي مولاي إسماعيل (1645/1727) . ومهما اختلف الدارسون حول تاريخ بناء هذا الحصن لكونه قد تم على دفعات، فمن المؤكد، برأي السيد خالد العيوض، فاعل جمعوي و كاتب متخصص في المخازن الجماعية بالمنطقة، أن أكادير إينومار كان يضم محتويات ونفائس لما مجموعه 13 دوارا، بما فيها الألواح التي كانت تكتب على الخشب والأوراق، محددة حقوق وواجبات كل طرف. ومازال هذا المخزن الجماعي، الذي تحيط به أربع قلاع وثلاث مطفيات للماء الشروب، يسهر عليه أحد آخر الأمناء محمد ماركو، رجل ناهز السبعينات من العمر ما انفك يبهر الزائرين بقدرته على تذكر شفرات فتح الأبواب بمفتاحه الخشبي وبتسلق سلالم «أسفكال» لوضع الزرع والسمن والعسل في أحشاء أكادير. ويضم المغرب ما يربو على 100 مخزن جماعي يتقاسمه مع عدد من نفس المنشآت بشمال إفريقيا ودول جنوب الصحراء، يختزن منها إقليم أشتوكة آيت باها حوالي 80 في المائة، علما بأن أقدمها على الإطلاق هو أكادير أوجاريف ، وفقا لأحدث الألواح التي تشير إلى تأسيسه (1492) . ودون الخوض مع المؤرخين، من نافلة القول التأكيد على ما تختزنه من معطيات علمية وتاريخية وأنتروبولوجية هذه المنشآت المبنية بالحجر الصلب على شكل مجموعتين متقابلتين منفصلتين من أربعة أمتار ومن ثلاثة طوابق أو أكثر بطول غرف يتراوح بين 5 إلى 8 أمتار وبعرض لا يتعدى مترا ونصف في مقابل نسبة علو لا تتجاوز 160 سنتمترا . إلا أن «هناك حالة استعجال»، برأي السيد العيوض، الذي يشير إلى ما تتعرض له من نهب الأبواب والسقوف المصنوعة من خشب الأركان و الألواح من طرف الباحثين عن الكنوز، مشيرا في هذا السياق إلى أن «التشريع الإسلامي من خلال ألواح جزولة « كان موضوع أطروحة الدراسات العليا التي ناقشها بجامعة القرويين، المرحوم محمد العثماني، والد وزير الخارجية السابق سعد الدين العثماني، تحت تأطير الأستاذ علال الفاسي. صحيح أن أكادير إينومار غدا يستقطب على مر السنين عددا من الزوار والطلبة الجامعيين والباحثين من مختلف أصقاع المعمور، لكن المؤكد أيضا أن هذه المنشأة باتت تتطلع إلى أن تلعب أدوارا طليعية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية انسجاما ، على الأقل، مع التوصيات الصادرة عن اليوم الدراسي الذي جرت فعالياته مؤخرا بمدينة بيوكرى بشأن مستقبل المخازن الجماعية. وكان المشاركون في أشغال هذا اليوم الدراسي حول المخازن الجماعية «إيكودار « ، قد شددوا على ضرورة تكثيف جهود جميع الفاعلين محليا وجهويا ووطنيا، لضمان تصنيف هذه المنشآت التاريخية والعمرانية كتراث وطني و إنساني. وأبرز الكاتب العام لوزارة الثقافة محمد لطفي المريني بالمناسبة أن برنامج العمل المشترك هذا يشكل عملا متفردا سواء من حيث عدد ونوعية الشركاء أو من حيث المشروع الذي تم تبنيه أو من حيث نوعية التراث الثقافي المعني، إذ نادرا ما تجتمع كل هذه الأطراف على عمل طموح يهم مجالا ترابيا وثقافيا شاسعا كمجال إيكودار. وبعدما شدد على عزم الوزارة «القطع مع الخطابات التي تقف عند حدود استحضار الحنين إلى هذه الكنوز ومزاياها مع التحسر على مآلها وما يتهددها من أخطار»، قال إن المطلوب اليوم هو ليس فقط ترميم وصيانة هذا التراث ولكن الاجتهاد في إيجاد وظائف جديدة وبديلة من شأنها أن تساهم في استمراريته كتراث ولكن أيضا كأداة من أدوات التنمية المستدامة عبر إنعاش السياحة الثقافية بالإقليم وبالجهة. وأكد أن التوقيع على اتفاقية إطار خاصة برد الاعتبار وتثمين المخازن الجماعية يجسد رغبة الوزارة في جعل هذه المبادرة مشروعا نموذجيا يحتذى به في باقي جهات المملكة ضمن توجه جديد للمحافظة على التراث يرتقب أن يشهد انطلاقة شمولية مع تفعيل استراتيجية التراث 2020 التي قطعت أشواطا مهمة في الإعداد ومسطرة التفعيل بما يجعل منها وجها جديدا من أوجه التعاطي مع التراث الوطني المادي وغير المادي وفق مقاربة تشاركية بأجندة محددة على المدى القريب والمتوسط. ومن جهته، شدد عامل الإقليم عبد الرحمن بنعلي على تنوع وغنى المنطقة بالمخازن الجماعية (أزيد من 40 أكاديرا قائما) وبالوعي السائد لدى الجميع بضرورة صيانتها وتثمينها، مذكرا أن المجلس الإقليمي للسياحة قام، في غشت 2011، بإطلاق مشروع دراسة جرد وتشخيص شامل لوضعية إيكودار تحت إشراف مركز صيانة وتوظيف التراث المعماري بمناطق الأطلس والجنوب. وبالموازاة مع ذلك، تم إطلاق مبادرات ميدانية همت ترميم أربعة «إيكيدار» و بناء مركز التوثيق والتعريف بمشهد بلاد إيكودار بآيت باها ووضع نظام للتشوير بغلاف مالي يتجاوز 1.92 مليون درهم، مشيرا إلى نهاية أشغال ترميم أكادير إكونكا بجماعة إمي مقورن، والذي تم اختياره لقيمته التاريخية و طابعه النموذجي،اعتبارا للدراسات التي أنجزها عنه الباحث الفرنسي روبير مونطاني في عشرينيات القرن الماضي. وأضاف أن «من أهدافنا الأساسية الحصول على تصنيف إكودار والمشهد العام لبلاد إيكودار ضمن قائمة التراث الوطني ولائحة اليونسكو للتراث الإنساني لما يمكنه ذلك من الحماية القانونية والبعد الإنساني العالمي»، داعيا إلى تضافر جهود الجميع لإعداد الملفات المتعلقة بذلك وإلى البحث عن التمويلات اللازمة لصيانة المعالم الأخرى الآيلة إلى الانهيار. وتميز هذا اليوم الدراسي الوطني بتقديم خلاصة للدراسة العلمية والتقنية التي أنجزها مركز صيانة وتوظيف التراث والقصبات بالجنوب و الأطلس و تقديم برنامج العمل المشترك للحفاظ على منظومة إيكودار وتثمينها و عرض الإطار العام لمخطط التدبير ومراحل إعداده، فضلا عن تقديم عرض حول «إيكودار كتراث إنساني عالمي مع وقف التنفيذ» و تقديم كتاب «المخازن الجماعية بالأطلس الصغير» . وتواصلت أشغال هذا الملتقى، الذي جرى بحضور والي جهة سوس ماسة درعة عامل عمالة أكادير إداوتنان وعامل عمالة إنزكان آيت ملول ورئيس مجلس الجهة ورئيس جامعة ابن زهر وعدد من الأساتذة الباحثين والطلبة، بتنظيم ورشتين حول مخطط التدبير ومراحل الإعداد توجتا بإصدار عدد من التوصيات الخاصة بتوظيف وتثمين فضاء إيكودار، بالإضافة إلى زيارة وتدشين أكادير إكونكا بعد الانتهاء من أشغال ترميمه.