ما بين مجال البحث والتفكير في قضايا عدة منها ما يتصل بتلبس الأنساق الثقافية للنصوص الدينية ومنها ما يتصل بقضايا المرأة في الديانات الثلاث, نتساءل من خلال هذا الحوار مع الاستاذة لطيفة الحياة ,باحثة في مستقبل الأديان والمذاهب الدينية في حوض البحر الابيض المتوسط بجامعة الحسن الثاني كلية الاداب والعلوم الانسانية بنمسيك الدارالبيضاء, قاربنا مجموعة من المحاور المتعلقة بموضوع «اسهامات نسائية من أجل اسلام الانوار» ، فكان الحوار كالتالي: { من اعتبار «الحراك» التنويري ليس حراكاً في جغرافيا محددة، فكيف تنظرين إلى هذا الفعل؟ أعتقد أن الأفكار تشبه الطيور، لأنها تمتلك أجنحة تجعلها تطير فتنتقل من مكان إلى آخر. لذلك واهم من مازال يؤمن بقدرة الحدود الجغرافية والدولية والسياسية على التحكم في الفكر، لأنها قد تنجح في ضبط حركة أجسادنا المادية ، أجدها عاجزة عن ضبط حركة أفكارنا. والسبب أن أفكارنا تتصل بأرواحنا التي هي من الله، القوة الخفية السارية في الكون بأسره، والذي حيثما ولينا نجده «فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ». وعليه، نرى أنه لا خيار أمام كل الدول والحكومات سوى تثبيت كراسيها على أرضية الأفكار التنويرية التي تحترم إنسانية الإنسان في بقاعها الجغرافية. إنها السبيل لضمان البقاء والاستمرار أمام القوة ، أي هزة من هزات الفكر النير. وأعتقد أن التغيير شأن داخلي يتعلق بحراك يتم على مستوى الأفكار التي تتشربها قلوبنا (1) ، التي نعقل بها، أي هو ذلك الانزياح التدريجي من نمط تفكير استنفد صلاحيته إلى نمط تفكير أقدر على جعلنا نحيا ونتجدد. وهو سنة كونية نلاحظها في الطبيعة ومخلوقاتها، ونأخذ هنا على سبيل المثال الثعبان الذي ما أن يمضي 48 يوما حتى يحس نفسه يختنق ، ويجد نفسه في حاجة إلى التجدد، مما يجعله يحتك بالصخور والأحجار من أجل فسخ كسائه القشري. فإن هو نجح في فسخه ازداد نموا وحيوية، أما إن فشل فسيختنق ويموت. وفي هذا السياق أرى أن ما سمي ب «الربيع العربي» ، فشل في قيادة الشعوب العربية نحو التغيير. والسبب أن هذه الشعوب اعتقدت أن أزمتها في الحكام والرؤساء، وليس في ما تتشربه قلوبها من أفكار الموت والاستعباد التي كانت وراء إنتاج هؤلاء الطغاة. أي أنها لم تفسخ كساءها القديم ولم تخرج من نمط التفكير الميت. وعليه، أرى أن البلد المؤهل للتغيير، هو من يشجع الحراك السلمي الهادئ بين مواطنيه. فيفسح المجال لبروز الاختلاف والتعدد في مقاربة الأسئلة والقضايا المجتمعية، مما يضع وجهات نظر فاعليه المختلفين والمتنوعين في المحك فيصقلها بشكل يومي. { إلى أي حد يمكن أن تشكل اجتهادات النساء المغربيات مدخلا للتنوير في الفكر الديني؟ تسألونني هنا عن «اجتهادات النساء المغربيات»، اسمحوا لي أن أختلف معكم ، وأقول: إن الاجتهاد لا يقترن بالنساء. فحسب فهمي، النساء لا يجتهدن، ولا اجتهادات لهن، لأنهن ببساطة لا يوظفن عقولهن ولا يتدبرن ولا يتفكرن، بل يتبعن ويستهلكن. فالاجتهاد للرجال فقط، لأنهم من يتدبر ويتفكر ويتعقل. ولذلك متى أردتم الحديث عن الاجتهاد في العالم عامة ، والمغرب خاصة ما عليكم سوى أن تقرنوه بالرجال لا بالنساء. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أقول: إن الأستاذة فاطمة المرنيسي رجل من رجال المغرب، مثلها مثل الأستاذ محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وإن اختلفا على مستوى أجسادهم. وأعتقد أنه من الاجحاف تصنيفها ضمن صفة «النساء» ، وهي التي وظفت عقلها في كثير من القضايا الإنسانية، في حين يصنف كثير من الذكور ضمن «الرجال» ، لا لشيء سوى أنهم يمتلكون بيولوجيا قضيب. فأنا لم أعد أتفق مع القراءة التي تشرح مفردة «النساء» في القرآن على أساس أنها «الإناث» ، وتشرح مفردة «الرجال» على أنهم الذكور. لست أدري لماذا نصر على أن نتعامل مع المفاهيم القرآنية بهذه السطحية الفجة التي تحبس صلاحيتها لكل زمان ومكان، كما تحد من عالميتها وتقزم كونيته؟ .. فالرجال والنساء ، هي صفات تتصل بالعقل الذي يميز الإنسان عن باقي المخلوقات، أي أن القرآن يميز بين الناس على مستوى العقول التي بها نتدبر ونتفكر ونتعقل ، وليس على مستوى الأعضاء التناسلية التي هي عند غالبية مخلوقاته. وبناء عليه، الرجال هم كل من يقوم بالمجتمعات الإنسانية عبر توظيف عقولهم في خلق النماء والتطور الذي يسهل الحياة ويسعد الناس، بينما النساء هم كل من لا يقومون بهذه المجتمعات لأنهم لا يتدبرون ولا يتفكرون، مما يجعلهم يحتلون المراتب المتأخرة فيعيشون عالة على الرجال. هكذا إذن، أرى أنه لا علاقة لمفهوم الرجولة في القرآن بالذكورة ، كما لا علاقة لمفهوم النساء بالأنوثة. وبالنسبة لي إن من يفرق بين المفهومين بالأعضاء التناسلية، إنما ينتج مجتمعات التكاثر التي يسود فيها التكرار والنمطية المنتجان للموت لا الحياة. وهو ما أفهمه من الآيتين القرآنيتين«أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ» ، أي أن التكاثر يصل الناس بالمقابر، حيث تقبر الجثث، رمز الموت. أما من يفرق بين المفهومين على مستوى العقل فسينتج مجتمعات حية، يسود فيها الاختلاف والتنوع كسبيل للتكامل والشهود الحضاري. وختاما، أقول، إن التنوير عملية عقلية مؤسسة على نقد الموروث الديني الذي يخنق إنسانية الإنسان ذكرا كان أو أنثى. وحسب علمي يتم هذا النقد بواسطة العقل الذي ليس فيه تمييز بين عقل مؤنث وعقل مذكر. والدليل أن العديد من الإناث مازالت تنعم بهذا الموروث الديني وتقدسه وتنتعش فيه، في مقابل وجود ذكور يرفضونه على الرغم ، من أنه في صالحهم ويمنحهم سلطة اجتماعية. ونورد هنا مثالا تاريخيا شهده المغرب، ألا وهو السيد سعيد السعدي الذي كان على رأس من ناضلن ضد الموروث الديني بمسمى «الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية»، بينما وقفت العديد من الإناث بما فيهم أنا ضدها. فإذا كنت بالأمس، أنا لطيفة الحياة ، ضد العديد من الآراء التنويرية، فها أنا اليوم أغير نظرتي، لا لأن جنسي تغير من أنثى إلى ذكر أو من ذكر لأنثى، وإنما لأن أفكاري ومنهجي في التفكير ، هو الذي تغير. وعليه، فالتنوير في المغرب، يعود للإنسان المغربي الذي منه الإناث والذكور. نعم لا يمكننا أن ننكر وجود جهود تنويرية للإناث ، لكنني أفضل أن ننظر إليها من المنظور الإنساني الذي هو أعم من الزاوية البيولوجية الضيقة. { أين يمكن أن نصنف قضية المرأة كعتبة لإسلام الأنوار؟ أعتقد ، أن ما قلته أعلاه ، هو إجابة على هذا السؤال. فلا يمكن أن نعالج التمييز الذي تعاني منه المرأة في مجتمعاتنا بواسطة خلق تمييز آخر. فإذا كان الموروث الديني ، ميز بيننا على مستوى الأعضاء التناسلية، فإنه لا ينبغي أن ننتقده بإنتاج تمييز آخر. وإذا كان الموروث الديني مؤسسا على ثنائية هرمية ترفع الذكر فوق الانثى، فإن نقده لا يكون بقلب الثنائية الهرمية، بحيث ترفع الأنثى على الذكر. إن التنوير، هو عملية خروج من الموروث، لا محاولة ترقيعه أو التوافق معه، أي هو العبور من مفاهيم هذا الموروث إلى مفاهيم حية. وبالتالي نحتاج أن نعود إلى النصوص القرآنية باعتبارها مؤسسة لثقافة مجتمعاتنا. فنعيد قراءتها، وفق منهج مخالف لمنهج السلف الذي استوفى مدة صلاحيته، ولم يعد قادرا على الاجابة عن أسئلتنا الانسانية المعاصرة. نحن، في حاجة إلى تفكيك هذا الموروث ، وفهم بنيته الداخلية، ثم نعيد تركيبه من جديد وفق منهج جديد قرآني. وأحيل هنا على جهود المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد ، الذي حاول وضع معالم منهج قرأني يجعلنا نقرأ القرآن من داخله لا من خارجه. كما أحيل على جهود الدكتور محمد شحرور. والجميل عندهما، هو أنهما طرحا منهجا تجاوزا به عملية التفكيك إلى تركيب العديد من القضايا الأساسية. { هل يمكن أن يكون صوت المرأة الباحثة والجمعوية والحقوقية .. فاعلا أساسيا في الانتصار لهذا المشروع؟ أرى ، أن المرأة إنسان قبل أن تكون باحثة أو جمعوية أو حقوقية. ومتى كان انخراطها في مؤسسات التنوير نابعا من إنسانيتها، فستصبح فاعلا أساسيا في اخراج الناس من الظلمات إلى النور. ستكون مثل الشمس التي تشرق من بعيد فترسل أشعتها إلى مساحات شاسعة من الأرض. ولأن التنوير، ضرورة وجودية، لا تبدأ مع المؤسسات ولا تنحصر فيها، فهناك فاعلات تعشن في المناطق الجبلية النائية ، وتنعتهن مجتمعاتنا بالأمية، لأنهن لا يكتبن ولا يقرأن. فإنسانيتهن هي التي جعلتهن يصرن على تسلق الجبال ، بالرغم من قسوة الظروف المعيشية على أن يتسولن لقمة العيش. فهذا الانتصار لإنسانيتهن هو انتصار للتنوير في حد ذاته. { ألا تعتقدين أن مشروع التنوير يسبح عكس العديد من التيارات، ما قد يعيق مسار ومساحة تحركه ؟ سبق وقلنا إن التنوير عملية تجدد، تتم بالعبور من حالة فكرية تحبس الأنفاس إلى حالة الحياة. وعليه فإن من يعارض الفكر النير، إنما يعارض التجدد والتطور الذي يؤديان إلى الحياة، والسبب أنه يرفض الخروج كما رفضه بنو اسرائيل حينما أراد موسى قيادتهم نحو التحرر من الاستعباد. وما الاستعباد إلا نمط تفكير يعشش في أعماق أعماقنا. وأعتقد، أن معارضة التنوير أمر طبيعي في كل المجتمعات الإنسانية. وما النبي ابراهيم عليه السلام إلا أكبر مستنير علم الانسانية، فكيف تنتقد الآباء بمساءلة موروثهم. لذلك رموه في النار فكانت بردا وسلاما عليه. وكذلك النبي موسى عارض سياسة فرعون الذي نعته بالساحر المجنون. فالجنون هي تهمة جاهزة تلصق بكل مستنير، لأنه خرج عن المألوف أو عن النسق. وكما قال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو إن «لكل جنون عقل يحكمه ويحكم عليه». هامش: (1) استخدم هنا «القلب»،حسب التوظيف القرآني الذي يجعله أداة للتعقل وليس عضلة تضخ الدماء في عروقنا.