في حوار أجرته معه إحدى الصحف قبل نحو ثلاثين سنة، تحدث غابرييل غارسيا ماركيز عن الموت متأسفا لأنها بالنسبة إليه أهم تجربة في الحياة لن يستطيع الكتابة عنها. وفي "مائة عام من العزلة" عندما كان الكولونيل أوريليانو بوينديا، يلملم تفاصيل حياة من المجد، آلت إلى عزلة قاتلة في ماكوندو، ومنتظرا الموت التي تأخرت عن الميعاد، سيقول الكولونيل : "الإنسان منا لا يموت عندما يجب ذلك، ولكنه يموت عندما يستطيع" والآن، عندما أصبحت وفاة ماركيز "موتا معلنا" تصبح حياة امتدت على مدى 87 سنة، مرآة لقراءة هذه التجربة الرائعة، التي يمكن تلخيصها في بضع كلمات لا تخلو من دلالة جاءت في افتتاحية يومية "إيل تييمبو" الكولومبية التي تفتخر أن "غابو" كان ذات يوم من كتابها، فقد كتبت : "الآن وقد خبا نور الكولومبي الأكثر تقديرا على مر العصور، يتوجب الانحناء احتراما أمام كل ما قدمه لبلدنا، لأمريكا اللاتينية وللأدب العالمي"، وأضافت افتتاحية الجريدة الأولى في بلد ماركيز :"عندما كانت كولومبيا اسما مرادفا في العالم كله لتجارة المخدرات، قدم لنا ماركيز عبر جائزة نوبل تقديرا جاء ليصب علينا ماء منعشا يخفف من حرارة هذا الواقع الأليم". لقد أعاد نور ماركيز الذي خفت، الضوء إلى هذه الثلاثية الماركيزية الخالدة، ما قدمه لبلده كولومبيا، ولقارّته أمريكا اللاتينية وللأدب العالمي. والحقيقة أنه لا يسع لأي مثقف إلا أن يفخر أن هناك بلدا يعتبر فيه المواطن العادي أن أهم شخصية عرفها على مر العصور، ليس لاعب كرة أو نجم غناء أو راقصة مدللة،ولكنه روائي، ويستطيع كل زائر لكولومبيا أن يلمس هذا الإعجاب المتغلغل داخل أوساط الناس العاديين بكاتبهم الكبير، إذ يصعب أن تلج منزلا في كولومبيا ليست فيه نسخة لرواية "مائة عام من العزلة" إلى جانب نسخة من الإنجيل، لقد أصبحت الرواية التي حملت ماركيز إلى مصاف كبار الكتاب على مر العصور إنجيل الكولومبيين، فالبلد الذي عصفت به ولا تزال الحرب الأهلية، البلد الذي ظهرت فيه أخطر عصابات الجريمة وأقوى كارتيلات المخدرات، وأصبح مرادفا لكل مآسي العالم، يفخر أنه رغم كل ذلك أنجب غابرييل غارسيا ماركيز. وفي أمريكا اللاتينية، لا يختلف اثنان أن "البوم" اللاتينو أمريكي، الذي حمل أدب القارة إلى مختلف بقاع المعمور، كان لروايات ماركيز الإسهام الأكبر فيه، فبعد أن نشرت "مائة عام من العزلة"، سنة 1967، وعن طريقها بالضبط، سينتبه الجميع إلى هذا العالم السحري، إلى إمكانيات هذا الجيل الجديد من الروائيين، الذين امتلكوا وصفة جديدة، سرعان ما أصبحت ذائعة، لمهمة الكتابة :إعطاء بعد سحري للواقع كوسيلة لفهمه وليس لهدمه، وكثيرا ما قال ماركيز نفسه إن الواقع أكثر سحرية مما نتخيل، وعلى دربه سيكتشف العالم كتابا مثل ماريو فارغاس يوسا، خوليو كورتازار، كارلوس فوينتيس.. وغيرهم من كبار أدباء القارة. ويبقى أن روايات ماركيز أعطت للأدب العالمي، خصوصا في العقود الأخيرة، ما يستحق الوقوف أمامه مليا، لقد جعلت للأدب جماهيرية يحلم بها كل كاتب، يكفي أن نعرف مثلا أن "مائة عام من العزلة" بيعت منها حوالي 30 مليون نسخة، وبأرقام العارفين بواقع النشر حيث أن كل نسخة تباع قانونيا تفيد أن عشر نسخ طبعت وبيعت بشكل غير قانوني، فذلك يعني أن 300 مليون نسخة بيعت على الأقل من الرواية، وإذا اعتبرنا أن من قرأ نسخة قد يسلمها لثلاثة أصدقاء ليقرؤوها، أترك للقارئ أن يعرف إلى أي مدى تمكن ماركيز من أن يعطي للأدب بعده الجماهيري، قليلون في التاريخ من تمكنوا من فعله. لن يكتب ماركيز عن تجربة الموت، فقد حمل الهواء أفكاره إلى سماء الخلود، لكن الذين قرأوه وأعجبوا به سيكتبون وسيصرحون كل وقت وحين أن ماركيز كان واحدا من الذين أعطوا معنى للحياة على هذا الكوكب... وعندما ندرك معنى الحياة فالأكيد أننا سنستشف معنى الموت.