1 أيُّها الطّاعنُ في الوقْت، ها أنتَ الآنَ في نهاية الطّريق، فماذا تبقّى لك من الوقت كيْ تختفيَ عن الأنظار نهائيّا؟ لا شيء سوى مأوى القبْر، كيف تغدو وقدْ غدوت فعْلا عليلا؟ أمَا تعبت من وقتك الفائض ومن الوُجُوه الرّديئة التي تتطفّل عليك صباحا ومساءً مقتحمة عليك فضاءكَ النفسيّ المضطرب بدون استئذان؟ في المقْهى، في الحانة، في القطار، في سيّارة الأجرة؟ كلّ صباح وأنتَ مُكبّل بالعلاقات الزائدة دون أنْ تستريح. فهل من سبيل إلى الهروب إلى الحديقة أو إلى الغابة المُجاورة لتتنفّس هواءً أخضرَ وترى الطيور وهي تحلق أمامك بين الأشْجار؟ في الغابة سوف تتسع رئتاك للأوْراق المتساقطة، تدفعها الريح نحو الجذور، وفي المدينة يهبط عليك التلوّث بكلكله، لا طريق لك الآن إلى الاختباء وراء نفسك القلقة الباحثة عن معناها المفقود. أيّها الطاعنُ في الوقت، هلْ أنت في طريق الانقراض أم انقرضتَ فعلا؟ كل رفاقك في الكلام المباح انقرضوا إلاّ أنت، فلماذا لا تسكت أنت أيضا عن هذا الكلام المباح الذي يجرّ عليك التأويلات المُغرضة في انتظار نهايتك المأساوية؟ عندما ستنقرض تهائيّا سوف لا يتذكّرك أحد، ستصبح مضغة في أفواههم المتشدّقة بالكذب، ثم ما الذي يجرّك إلى التشبت بهذه الحياة الروتينيّة، وقد بلغتَ من العمْر عُتيّا؟ لكنها هي الحياة نفسها بما امتلأت به من مُتَعٍ ومن رغبات. لا عليك، لا عليك فما يزال أمامك متسع من الوقت الآخر للانْغماس في هذه المتع المتبقّاة في حياتك المتشظّية منذ أن ولدت، ما يزال... لكن نهايتك وشيكة! يقول لك المقرّبون إليك، على سبيل الدُّعابات المُبطّنة: متى ستنقرض؟ أكيد أنهم ينتظرون نهايتك الأبَديّة على أحرّ من الجمْر، فدعْهمْ، فهلْ تزاحمهم؟ إنك لا تدري منْ أحببتَ، فلماذا يستعجلون انقراضكَ؟ هل يتضايقون من حضورك الجسديّ والمعنويّ؟ هل أنت عدوّهم؟ وفي الواقع، إنك خارج تصنيفهم المُسْبق، داخل الفضاءات العامة والخاصّة، بل خارج حساباتهم الضيّقة. هنا يحضر الكاتب الرّعديدُ صاحب المسافات الطويلة في الكتابة والتي لا صدى لها إلا عند أتباعه، إذلالهم له إلا أنتَ، فاغسله من دماغك واتْركه لقَدَره. هو نفسه كاتب مزعج وغيْر مستساغ على الإطلاق. أيّها الطاعنُ في الوقت، مدَّ يدكَ لصديقتك الشابّة الجميلة وجُرَّها إلى حُضنكَ الدافئِ المليءِ بالعواطف النبيلة، والْغِ من حسابك رفيقتكَ الأولى المرْتمية في سرير آخر، فهي لا تصلح لك نهائيّا. لا تيْأس أيّها الكائن، أمامك الوقت الكافي لاستعادة توازنك النفسي شبْه المنهار، هل أنت منهار؟ لا أعتقد، إنك تعيش حياتك بشكل طبيعيّ دونما حاجة إلى كائن مزْعج، كلُّ شيء يهون أمام معاناتك اليومية، النفسية والجسدية. 2 بإمكانكَ أنْ تتخلص من العلاقات الزائدة إذا أردتَ، فكثرتها ليس فيها إلا التشويش والقيل والقال والنّمائم المُغْرضة، من ارتباط أُسَريّ عقيم، من ما يُسمّى ب»العائلة» التي لا ترى فيك إلاّ جيْبك، فهلْ أنت مجرّد «بنْك» مليء بالنقود؟ هكذا كانتْ رفيقة حياتك الأولى. لمْ تكن لها عواطف حقيقيّة تُجاهك، بلْ كانت لها عواطف جيْبيّة، أيْنها الآن؟ إنها في سرير آخر، فتغلّبْ على وحدتك القاسية وانغمسْ في مُتَعك الحسّيّة إلى ما لا نهاية، فالمرأة هي المرأة في نهاية المطاف. إنها مثلُ الطقس المتقلّب، كلّ يوم هي في شأن. أيُّها الطاعن في الوقت، ماذا تبقّى لك منه؟ سنة؟ سنتان؟ ثلاث سنوات؟ ربّما غدا أو بعد غد، ربما الآن. لقد اشتعل الرّأس شيبا، خذ ما شئت من هذا الوقت ودع الأحلام الورديّة تأتي إليك. أرسل قبلة عميقة إلى فم صديقتك الجميلة لتنتعش، هي الآن تعويض عاطفيّ عن الجفاف العاطفيّ الذي عشته طيلة ربع قرن، جادك الغيث إذا الغيث هَما، يا زمانَ الوصْل بالعواطف، أيْنهُ لأغْتسل به وأغْسل أوْساخي النّفسيّة المتراكمة والمعطوبة مثلَ أجساد مرميّة على جنبات الطريق. لا شيء مرّ في حياتك سوى الجفاف الناتج عن بُرود عاطفيّ مُزْمن. فهلْ تفهمُ ما أقصده؟ دَعْك من الأوْهام والأحْلام المستحيلة، فكلّ شيء يمرّ عبر المعاناة. استرحْ الآن وَدَعْ نفسك تسير في النسْيان، نسيان ما مضى وما سيأتي، بلْ استرح من عنائك اليوميّ وقلْ لها: حان وقتك، وها هو يقترب منك ببُطء.