خلع الاعلام الامريكي بذلته الانيقة الرسمية منذ اليوم الاول لاختفاء الطائرة الماليزية، ولم تصل الامور الى حد الحفاظ على قميص مسطر من التقارير الاخبارية الجدية بل تعرت القنوات والصحف تماما من أي التزام اخلاقي مهني من اجل اللهاث وراء القصة العالمية الجديدة التي تسيطر تقريبا على اهتمام اي مواطن امريكي. القنوات الامريكية الرصينة والتي فقدت بريقها في السنوات الاخيرة مثل «سي.ان.ان» و«سي.ان.بي.سي» عثرت اخيرا على دراما حقيقية تنقذها من كارثة السقوط المريع لنسب المشاهدة لصالح قناة «فوكس نيوز»، والتي تتربع حاليا على عرش الاعلام الامريكي منذ عشر سنوات على الاقل. أما الصحف الليبرالية مثل «نيويورك تايمز» فهي تحاول عبثا انقاذ نفسها من محيط ورقي والكتروني غير هادئ ينذر بسقوطها في القاع مع حطام انتصارات سابقة. مذيع قناة «سي.ان.ان» وقع في المحظور عندما بدأ يتحدث عن تفسيرات خارقة وكائنات فضائية وثقوب سوداء ابتلعت الطائرة الماليزية مما يدلل على تلاشي مصداقية وسائل الاعلام في ثقب اجوف، واستضافت القناة نفسها «عرافة» جميلة المظهر لمساعدتها في العثور على الطائرة. البرامج الصباحية والمسائية، قنوات التلفزيون والراديو والصفحات الاولى للصحف الوطنية والمحلية هاجسها الاول والاخير قصة الطائرة ولم يعد احد يكترث بالغزو الروسي لاوكرانيا اوبالنقاش الدائر حول قانون الرعاية الصحية او حتى قضية تجسس الوكالات الامنية الامريكية على مواطنيها. قناة «فوكس نيوز» التي تمثل اليمين المحافظ الامريكي حاولت في البداية عدم الاهتمام بقصة الطائرة الماليزية بل وهاجمت القنوات المنافسة بالقول إنها تحاول التقاط انتباه الناس من قضايا مثيرة للجدل مثل هجوم بنغازي وصرف النظر عن التحقيقات المتلاحقة حول ادارة الرئيس الامريكي باراك اوباما، الا ان القناة استفاقت في اليوم التالي لحادثة الطائرة لتخصص معظم وقتها لفك لغز الاختفاء ولم تغفو القناة ولو للحظة واحدة بعد ان اكتشفت الصعود الصاروخي لقناة «سي.ان.ان». ووصل الامر باحد المذيعين الى تشبيه عملية البحث الى سفينة نوح، المشكلة الرئيسية في هذه التغطية والتي ادت الى تضاعف نسبة المشاهدة الى مستويات قياسية هي الحجم الهائل من الوقت المخصص للتوقعات والتكهنات والتحليلات الفارغة المحتوى من قاعدة متينة من المعلومات بحيث تحولت قصة الراكب الايراني الى مخطط دولي ارهابي ضد الولاياتالمتحدة وتغيير مسار الرحلة الى قوى مجهولة تمكنت من السيطرة على الطائرة عن بعد اما الاختفاء فيعود الى كائنات فضائية. في نهاية المطاف هذا هو الفشل الذريع للصحافة، من الواضح أن رغبة وسائل الاعلام الامريكية في تلبية رغبة الجمهور في معرفة الجديد عن الطلسم الماليزي ادت لحالة من عدم السيطرة على الضوابط المهنية. بلا شك، سيدفع الاعلام الامريكي ثمنا باهضا لما يحدث، وفي الاغلب ستتضرر مهنة الصحافة باكملها بعد ان يصل الجمهور الى معرفة نهاية دراما الطائرة، الشعب الامريكي ينظر هذه الايام للصحافيين كنجوم، ولكن بذات الطريقة التي ينظروا بها الى المستشارين في جلسات المقامرة والتي تنتهي غالبا بخسارة في الحضيض.