في كتابهما ««الحرب غير المرئية» «تفسح ليلى مينانو وجوليا باسكوال المجال لمجندات فرنسيات للحديث عما تعرضن له من اغتصاب وعنف جنسي في الثكنات العسكرية التي يخدمن بها وفي ميادين العمليات وحتى خارج فرنسا كأفغانستان ومالي. وهي شهادات تكسر جدار الصمت الرهيب الذي يفرضه «الأبكم الكبير» على نفسه. وهي التسمية التي تطلق على الجيش الفرنسي والتي تشير إلى منع العسكريين من الاقتراع أيام الجمهورية الثالثة. ولكن يصمت معظم ضباط الجيش الفرنسي اليوم، ليس احتراما لقانون ما، وإنما بسبب واجب التحفظ, إذ احتراما لهذا «الواجب» لا يعيرون أدنى اهتمام لشكاوى المجندات المغتصبات. لم يكن هذا الصمت المريب متعلقا بالجيش الفرنسي فحسب, بل كان سائدا في غالب الجيوش الأوروبية. في الجيش الأميركي كانت تُغتصب مجندة كل ثلاث ساعات إلى سنة 2010 حسب تقرير دائرة الدفاع القومي (2011) وأمام هذا الوضع الخطير، أصبح الكفاح ضد الاعتداءات الجنسية قضية وطنية أميركية منذ 2012. وفي الجيش الأسترالي تقول 62 بالمئة من المجندات إنهن ضحايا للتحرش الجنسي (1995). في 2012 كانت العدالة تحقق في 24 جريمة اغتصاب مقترفة بين صفوف الجيش الأسترالي (تقرير القوات المسلحة الأسترالية ). ولم تسلم العسكريات السويديات من التحرش, إذ حسب تقرير لوزارة الدفاع منشور في سنة 2005، تصرح 35.9 بالمئة منهن, بأنهن كن عرضة للتحرش. وفي استطلاع قامت به اللجنة البريطانية من أجل تكافؤ الفرص سنة 2006، تبين أن ثلثي المجندات قد تعرضن للتحرش وأن الربع منهن قد خاطرتهن فكرة الاستقالة من صفوف الجيش بسبب تصرفات الزملاء الذكور. في الجيش الإسرائيلي تقدمت 500 مجندة سنة 2012 بشكاوى قضائية بسبب التحرش والاعتداءات الجنسية (إحصائيات القوات المسلحة الإسرائيلية 2012). أما في كندا فقد تم تكليف الشرطة العسكرية في التحقيق في 145 قضية اعتداء جنسي سنة 1997. والغريب أنه حتى سنة 2013 لم يكن الموضوع مثارا بفرنسا, ولم يعلن رسميا عن حادثة اعتداء جنسي واحدة بين صفوف القوات المسلحة الفرنسية! كيف يمكن أن يصدق عاقل هذا الأمر, حينما يعرف أن الجيش الفرنسي هو ثالث قوة في العالم بتعداد وصل إلى 230000 ,من بينهم 15 بالمئة من المجندات, ويعتبر الجيش الأكثر تأنيثا في أوروبا ومع ذلك ف» كل شيء على ما يرام « في نظر السلطات العسكرية! جمعت الصحفيتان شهادات مثيرة روت عبرها النساء المجندات تصرفات المجندين غير الأخلاقية وردود أفعال السلطات العسكرية المجحفة وتحيزاتها الجنسية المشينة, وهو ما لم تصدقه الصحفيتان المستقلتان ليلى وجوليا، فأنجزتا تحقيقا حصريا في مسألة الاعتداءات الجنسية دام قرابة السنتين, نقرأ فيه شهادات المجندات اللواتي قدمن شكاوى رسمية وطالبن من العدالة أن تنصفهن وكذلك النساء اللواتي سكتن وحاولن الاستمرار في عملهن العسكري وإكمال مشوارهن المهني كأن شيئا لم يكن، خوفا من العواقب الوخيمة. وليس الكتاب مجرد تسجيل شهادات فحسب, بل هو تشريح لعلاقة حواء وآدم المضطربة وغير المتكافئة داخل الجيش الفرنسي. وربما يعبر عنوان أول فصول الكتاب أجمل تعبير عن تلك العلاقة: «أليس في بلاد الأوباش» وهو عرض لما قاسته الشابة أليس، بنت الثالثة والعشرين، من ويلات بين مجندين تحت تأثير الكحول والمخدرات وقيادات تغمض العين بغية المحافظة على سمعة المؤسسة العسكرية. في مركز التكوين الذي كانت تتدرب فيه أليس, كان المؤطرون في أغلبيتهم معادين للأنوثة حسبها. تقول: «في إحدى المناسبات الدراسية كان مفروضا على كل متربص الإدلاء برأيه في إحدى المسائل, ولمّا وصل دوري قال الأستاذ المُكوّن: « على كل حال أنت لا تستطيعين أن تدلي بدلوك لأنك لا يمكن أن تتبولي واقفة? (ص24)، ولكن بلغت الحماقة أقصى مداها، تقول أليس، حينما تجرأ إطار عسكري أن يسألها هي وزميلاتها عما إذا كن عذارى أم لا! مومس الكتيبة ونترك ليتيسيا تروي قصتها بنفسها: « في ذلك الحفل المشؤوم كان الكحول يسيل كالنهر والموسيقى صاخبة.. تناولت كأسين أو ثلاثة من الجعة وسرعان ما شعرت بأنني في حالة غير عادية.. وتبيّن بعد ذلك أن يدا مجرمة قد وضعت في كأسي ما يسمى عادة ب«قرص المغتصب» كما بينته التحاليل فيما بعد. لم أعد أذكر شيئا بعد تلك الكأس القاتلة سوى المعتدى عليّ وهو يقودني نحو دورة المياه.. واستيقظت في اليوم الموالي في حدود الساعة الثالثة زوالا وأنا ممتدة على فراشي عارية وفي رأسي آثر ضربة مؤلمة. وجاء أحد زملائي ليقول لي: أنت عاهرة.. سمعت أنك مارست الجنس مع مجموعة من المجندين». وانتشر الخبر بين الجميع ولكن لا أحد تجرأ على تبليغ القيادة. تقدمت ليتيسيا بشكوى إلى القيادة العسكرية ثم بشكوى ضد مجهول في محكمة مدنية ولم تنصفها لا الأولى ولا الثانية. وكعشرات مثلها أوقفت ليتيسيا بدعوى المرض ثم تم فصلها نهائيا من الخدمة تحت ذريعة عدم القدرة على العمل في صفوف الجيش. جحود فاعتراف بسبب تنديدهن لما يتعرضن له من اعتداءات، ينظر إليهن كخطر محدق بوحدة الجيش وككائنات يمكن أن تلطخ سمعة الجيش ونحن نعرف مدى تمسك الجيش بصورة الانضباط التي يريد أن يظهر عليها دائما. وبعيدا عن تلك الصورة المثالية في النظام والانضباط وبعيدا عن صورة تلك المرأة العسكرية البطلة التي ترسمها الصحافة، تقدم الكاتبتان صورة أخرى حينما ترويان مسار عسكريات يتألمن بسبب تجاهل معاناتهن وعدم اعتراف هذا الجيش «المنضبط» بهن كضحايا. ولكن صدور الكتاب أرغم المسؤولين على الاعتراف بظاهرة المضايقات والاعتداءات الجنسية ضد النساء وكشف اللثام عن المعاملة الإقصائية والتمييز الجنسي تجاه المجندات الرافضات لصمت المؤسسة العسكرية. وهكذا أرغم هذا الكتاب وزير الدفاع الفرنسي أن يعلن يوم 27 فبراير المنصرم عن فتح تحقيق داخلي حول الموضوع من أجل كشف العراقيل التي تقف أمام السير الطبيعي للشكاوى. وقد أكد الوزير بأن يكون القانون صارما مع المغتصبين والمتحرشين والمتواطئين. فهل تعيد العدالة الفرنسية إلى آمنة وفاني وخديجة وغيرهن كرامتهن المسلوبة؟ العنف جنسيا ضد مجندات في الجيش الفرنسي يثير جدلا أرغمت شهادات مجندات فرنسيات حول العنف الجنسي في صفوف الجيش، تحديدا تجاه النساء على ان يأمر وزير الدفاع الفرنسي جون ايف لو دريان بتحقيق داخلي في هذا الشأن، وذلك على إثر كتاب صدر يحمل شهادات حية اثارت جدلاً في المجتمع الفرنسي. الوقائع الصادمة، التي تضمنها كتاب «الحرب الخفية»، ويعد ثمرة تحقيق استمر عامين، دفعت وزير الدفاع الفرنسي إلى فتح تحقيق داخلي حول الموضوع. وتشكل النساء 15 % من تعداد الجيش الفرنسي،، حيث يبقى العنف، الذي تتعرض له أغلبهن بمثابة «التابو، الذي لا يتجرأ أحد على رفعه». وتتعرض الجنديات للتهديد من طرف رؤسائهن إن فكرن في رفع شكاوى، حيث يأمروهن بالاحتفاظ بالأمر في طي الكتمان، وإلا تعرضن للطرد من الخدمة. وعليه لا يبقى أمام هؤلاء المجندات، سوى الرضوخ، خصوصا أن عددهن لا يتجاوز 3 أو 4 نساء بين كل مائة جندي. وقال وزير الدفاع الفرنسي، في رسالة بعث بها إلى المفتشية العامة للجيش:«إن التحقيق يستهدف المتابعات المهنية، أو التأديبية، أو القانونية المتعلقة بالحالات المشار إليها داخل الكتاب، والاستماع إلى المعتدين والضحايا». ويلتزم رؤساء الأقسام المعنية بإرسال خلاصاتهم قبل نهاية الشهر الجاري. كما أنهم ملزمون بتقديم توصيات لوضع مخطط عملي سليم لمحاربة تلك الممارسات، ومتابعة المسؤولين عنها كما يجب، مع الاستفادة من تجارب الوزارات الأخرى.