التهامي نعمان رجل غير عادي في قصة المقاومة المغربية وجيش التحرير، حيث يرد اسمه مركزيا دوما ضمن قادة المقاومة، بشهادة كل رجالها الثقاة ممن قيض لي الجلوس إليهم ومحاورتهم في مناسبات عدة. يكفي هنا أن أذكر منهم فقط المرحوم الفقيه البصري والأستاذ عبد الرحمان اليوسفي. كان رجل ميدان بامتياز ورجل ثقة رفاقه في المهام التدبيرية التنسيقية بالشمال والدارالبيضاء والناظور. وبمناسبة عودة قضية الوطني الكبير والمقاوم عباس المسعدي إلى الواجهة بعد صدور الجزء الأول من مذكرات المحجوبي أحرضان وإشارته أن قاتل المسعدي حي بالدارالبيضاء، وأنه كان عضوا بالمقاومة، ولمعرفتي من خلال تقاطعات شهادات عدة أن علاقة هذا المقاوم والوطني الكبير، التهامي نعمان، القوية والشخصية والمباشرة بعباس المسعدي، اتصلت به لتوضيح حقيقة الأمر من وجهة نظره، كشهادة للتاريخ، فكان هذا اللقاء القيم، الغني بمعلومات تكشف لأول مرة. } سي التهامي نعمان، من موقعكم كواحد من قادة المقاومة وجيش التحرير، أود أن تطلعوا الرأي العام الوطني، كشهادة للتاريخ، عن حقيقة ما نشره المحجوبي أحرضان بخصوص أمرين مهمين: الأول حول حقيقة انتمائه للمقاومة وجيش التحرير، والثاني حول حقيقة ما جرى للمقاوم المغربي الكبير عباس المسعدي. ولنبدأ، إذا سمحت بالشق الأول: ما حقيقة علاقة أحرضان بالمقاومة، وهل انخرط فعليا فيها كما أعلن ذلك؟ لا علاقة لأحرضان لا بالمقاومة ولا بجيش التحرير. وكل الحكاية، أنه حين بدأنا نباشر تنفيذ القرار بإنشاء جيش التحرير المغربي، سنة 1954، قررت قيادة المقاومة وجيش التحرير، ضمن البحث عن مصادر السلاح، أن تربط الإتصال بالسلطات المصرية لدعمنا بالسلاح، فاقترحوا علينا أن يبعثوا إلينا ضباطا مصريين متخصصين في تنظيم وتدريب الجيش للمساعدة، لكننا اعتذرنا عن قبول ذلك المقترح، وأكدنا لهم أننا نتوفر على العنصر البشري الكافي والكفء، وأن حاجة ملحة للسلاح. استجابوا لطلبنا، فشرعنا من جهتنا نبحث عن عناصر مغربية لها تدريب عسكري في الجيش الفرنسي، فاقترح اسم المحجوبي أحرضان من بين أسماء أخرى، بسبب أنه أنهى مهامه العسكرية منذ سنوات وأنه لم يعد يتحمل أية مسؤولية إدارية كقائد بوالماس بعد تقديمه استقالته إثر نفي محمد الخامس. والعنصر الذي كلف بالإتصال به، هو المقاوم الوطني سعيد المانوزي (شقيق الحاج علي المانوزي الذي توفي منذ أسبوع). اتفق معه على لقاء مشترك بالدارالبيضاء مع عناصر القيادة المتواجدة بها، وانتظرنا يوم اللقاء ولم يحضر الرجل. بعد أسابيع جدد سعيد المنوزي الإتصال بأحرضان، فادعى أنه جاء فعلا إلى الدارالبيضاء، لكنه أحس أنه مراقب من البوليس الفرنسي، فعاد من حيث أتى. طلب منه اللقاء مجددا، لكنه تراجع وقرر مغادرة المغرب صوب فرنسا لوحده، فانقطعت أي صلة لنا به. هناك في فرنسا، سيظل محتجبا عن الأنظار، حتى لحظة وصول الملك الراحل محمد الخامس عائدا من منفاه بمدغشقر، فتقرب من الدكتور الخطيب، وعبره تقرب من الأمير مولاي الحسن (ولي العهد حينها)، فنجح في نسج علاقات معه، مكتنه من أن يعين عاملا على الرباط بعد الإستقلال. والقصة وما فيها، أن الدكتور الخطيب لم يكن يقيم بسبب عدم توفره على مسكن خاص حينها، سوى في بيت أحرضان العامل على العاصمة. بالتالي، فحين كانت عناصر جيش التحرير والمقاومة تأتي للقاء الخطيب، لم تكن تلتقيه سوى في مكان تواجده (وسكناه المؤقتة) وهي بيت أحرضان. فأصبح الرجل من حينها يدعي أنه في جيش التحرير والحال أنه لا علاقة به إطلاقا. بعد فشل المحاولتين الإنقلابيتين ضد الملك الراحل الحسن الثاني في بداية السبعينات من القرن الماضي، استدعانا الحسن الثاني رحمه الله، كأعضاء في المقاومة وجيش التحرير (كنا حوالي المئة، كلف الخطيب بتجميعنا عنده في القصر)، وقال لنا بالحرف: «أنتم في الحقيقة أخطأت في حقكم. ميزتكم أنكم لا تخونون، أو تغدرون، لكنكم تواجهون». وهو بذلك يلمح لتاريخ المواجهات بين جيش التحرير ورجال المقاومة والسلطة منذ نهاية الخمسينات، أي منذ اعتقال الفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي سنة 1959، ثم اعتقالنا نحن بعدهم بأسبوعين بتهمة محاولة اغتيال ولي العهد مولاي الحسن. ثم اعتقالات يوليوز 1963، ضد الحركة الإتحادية، ثم اعتقالات نهاية الستينات وبداية السبعينات. وقبل أن أفصل القول في حقيقة هذه المواجهات، فإنه ونحن أمام الملك في ذلك اللقاء، حتى دخل أحرضان للحضور معنا، فسرت همهمة بين الحضور، تطورت إلى إبلاغ الخطيب أننا نرفض حضور أحرضان معنا، لأنه لا علاقة له بجيش التحرير أو المقاومة. أحرج الدكتور الخطيب، لكنه بادر إلى التوجه صوب الملك وهمس له باحتجاجنا ورفضنا حضور أحرضان، فكان رد الحسن الثاني، أن أحرضان لن يحضر سوى لحظة الإفتتاح. وفعلا بعد حفل الإفتتاح طلب منه المغادرة وبقينا وحدنا مع الملك. } طيب، سي التهامي، ما قصة اتهامكم بالتخطيط لاغتيال ولي العهد مولاي الحسن (الملك الحسن الثاني بعد ذلك)، من قبل السلطات الأمنية في نهاية الخمسينات؟ وكم كان عددكم؟. أولا عليكم أنتم جيل اليوم، أن تفهموا سبب اعتقال اليوسفي والفقيه كمسؤولين عن جريدة «التحرير». لقد ابتدأت القصة، حين أسس رجال المقاومة وجيش التحرير، بمبادرة منهم لا علاقة للدولة بها، جمعية أطلق عليها «جمعية رجال المقاومة وجيش التحرير» وانتخب كرئيس لها المجاهد عبد الرحمان اليوسفي، وهو الذي كاتبني وكلفني بالإشراف ضمن تلك الجمعية كمندوب على جهة الدارالبيضاء والجنوب. فكان يحضر إلي في مكتب فتحناه بشارع الفداء بدرب السلطان، كل النازحون من جيش التحرير، ونقدم لهم المساعدة سواء الطبية أو المالية. وحدث أن تعاظمت تلك الحاجيات والمطالب، فكان أن اقترحت على أولئك المقاومين التوجه إلى القصر الملكي بالرباط، بعد أن وفرت لهم الحافلات، ليعرضوا قضيتهم المستعجلة على ملك البلاد وطلب المساعدة. فعلا توجهوا إلى باب القصر، فخرج إليهم أوفقير وطردهم بعنف، متهما إياهم أنهم جاؤوا مهاجمين. بل إنه كلف قوات تحت إمرته بمراقبتهم وإخراجهم من الرباط، وبقيت معهم تلك القوات حتى بوزنيقة. المهم عادوا حانقين جدا وغاضبين من ذلك السلوك الذي خصهم به أوفقير. المهم التقينا بهم في مقر للمقاومة إسمهم «الإقامة ? الريزيدونس» قرب جامع ولد الحمرا بالمدينة القديمة، فقمنا بتصوير تلك المجموعة واقفة. ونشرت تلك الصورة في جريدة «التحرير»، وتحتها تعليق يقول: «طردوا الإستعمار، فطردوا». فاقتنص ذلك التعليق مولاي أحمد العلوي، الذي كان ضمن فريق ولي العهد، تطوع لمتابعة شؤون الصحافة، ونقله إلى ولي العهد، فصدرت الأوامر بسرعة لاعتقال اليوسفي والفقيه البصري، ثم أسبوعين بعدها اعتقلت تلك المجموعة، وكنت ضمنهم. كنا 18 مقاوما، أذكر منهم محمد بنسعيد آيت يدر، والسكوري والهاشمي لكحل والذهبي وسعيد بونعيلات والمدني لعور.. إلخ. بعد اعتقالنا حملنا إلى الكوميسارية السابعة بدرب السلطان، ثم حملت لوحدي إلى إدارة الأمن المركزية للدارالبيضاء بالمعاريف حيث استنطقني الكوميسير الشهير بلقاسم الوجدي، وأطلق في وجهي لأول مرة تهمة محاولة اغتيال ولي العهد مولاي الحسن، فنفيت ذلك جملة وتفصيلا. كانوا قد هيأوا شاهد زور ضدنا، لكنهم لم يتقنوا العملية كما يجب. كان ذلك الشاهد مقاوما فعلا، من الحي المحمدي، وكان واحدا من المقاومين الذين يأتون إلي في شارع جمعية المقاومين بشارع الفداء، بالدار التي كانت تعرف ب «دار المختار السوسي». كانت شهادة ذلك المقاوم تفيد أننا اجتمعنا نحن الثمانية عشرة، بمنزل المقاوم الميلودي بحي الوازيس وقررنا اغتيال ولي العهد. أجبته ضاحكا أنه حين كنا نقرر تصفية مقدم خائن في عهد الإستعمار، كنا نحرص على كل أسباب السرية، ولم يكن العدد يتجاوز ثلاثة عناصر على أكبر تقدير، فكيف الحال مع اغتيال ولي العهد، هنا أسباب السرية مفروض أن تكون عالية جدا جدا، وليس في منزل بحضور ثمانية عشر عنصرا كلهم يعرفون بعضهم لبعض. ثم سألت ذلك الشاهد، طيب صف لي شكل البيت والغرفة التي اجتمعنا فيها بحضورك، وأين كان كل واحد منا يجلس، وما شكل أثاث الغرفة، وأين يقع بابها وهل لها نوافذ. فصمت. رغم ذلك تواصل اعتقالنا، وعذبنا ببشاعة. وأذكر أنني حملت ذات صباح إلى غرفة للتعذيب فوجدت مقاوما مربوطا إلى طاولة من كامل جسده وعليه آثار التعذيب، فقيل له: أعد ما قلته لنا عن كيفية تنفيذ عملية اغتيال ولي العهد؟. فأجاب متعبا أنهم قرروا تنفيذ العملية في ملعب الكرة وأن توضع القنبلة في علبة سردين. أجبته متسائلا: من سيهيئ تلك القنبلة الصغيرة، فنحن كنا نعرف جيدا شبكة تصنيع القنابل وأن الآلية كلها سرية وهذه المجموعة المكلفة بهذا الجزء لا تعرف شيئا عن المجموعة الأخرى المكلفة بالجزء الآخر من القنبلة وهكذا. ثم قلت لهم ضاحكا: شيئا من الجدية، هل تتصورون قنبلة في علبة سردين في ملعب لكرة القدم؟. بعدها نقلنا إلى سجن غبيلة (السجن المدني القديم بالدارالبيضاء)، وقدمنا أمام قاضي التحقيق، الذي حين قام بمواجهة كل واحد منا مع الشاهد المزور، اكتشف أن الرجل لا يعرف أغلب المعتقلين، بدليل أنه كان يطلق أربعة أو خمسة أسماء على نفس الشخص أملا منه أن يكون ذلك اسمه الحقيقي. فحمل القاضي الملف وأخبر رؤساءه أن الملف فارغ ومهزلة. رغم ذلك بقينا معتقلين أربعة أشهر حتى تدخل شيخ الإسلام بلعربي العلوي عند الملك محمد الخامس وأقنعه بضرورة إطلاق سراحنا. وكذلك كان. } طيب سي التهامي نعمان، ما قصة المقاوم المغربي الكبير عباس المسعدي، الذي أصبح الكثيرون يتاجرون باسمه، والتي أسالت الكثير من المداد. وأود أن أتوقف معكم عند آخر ما خرج به أحرضان من موقف وتصريحه أنه يعرف قاتل المسعدي الذي لا يزال يقيم بالدارالبيضاء. مثلما أن البعض الآخر قد حاول مرارا إلصاق تهمة القتل تلك بالشهيد المهدي بنبركة. ما قصة الرجل، الذي لم يكن قائدا عاديا ضمن جيش التحرير المغربي، كما سبق وأكد لي مرارا الراحل الفقيه البصري؟. ففي حدود علمي، أنت أكثر من يستطيع التكلم عنه لقربك منه ومعرفتك اللصيقة به. فما الذي يمكن أن تفيد به الرأي العام الوطني، وعائلة الرجل، وتنصف به الحقيقة التاريخية؟ قصة المسعدي طويلة ومثيرة. فعلا علاقتي به قوية، لسبب بسيط وهو أنني أنا واحد ممن عينوه في جيش التحرير بالشمال. وتعود معرفتي به إلى مدينة الدارالبيضاء، حين كان يعمل بشركة الشهيد إبراهيم الروداني، وهناك تعرفت عليه أول مرة، بعد أن غادر السجن لأسباب عائلية خاصة، قبل التحاقه بالمقاومة والعمل الوطني. شخصيته رحمه الله شخصية قوية، وميزته أنه جدي كثيرا، بسبب انحداره من منطقة تامكروت قرب زاكورة، فهو سليل الزاوية الناصرية، واسمه الحقيقي ليس «عباس المسعدي» (هذا اسمه الحركي)، أما اسمه الحقيقي فهو «محمد بن عبد الله الناصري». والتقيته في السجن بعد نفي محمد الخامس بعد أن اعتقلت في سياق واعتقل هو في سياق آخر، لكن يجمع بيننا جميعا العمل الوطني للمقاومة. أما قصة علاقته بالشهيد المهدي بنبركة، فهي قصة علاقة مناضلين كبيرين من أبناء المغرب الذين قاوموا ببسالة وإباء من أجل استقلال المغرب وحرية أبنائه وتقدمهم، ومن أجل بناء المغرب الكبير ونصرة الشعب الجزائري. ولقد وقع اختلاف بينهما، عادي، يحدث عادة بين أبناء الحركة النضالية الواحدة، حين التقيا معا في اجتماع ببيت الوطني المقاوم عبد الكبير الفاسي بالعاصمة الإسبانية مدريد، حيث قال له الشهيد المهدي: «أنتم رجال المقاومة ابتعدوا عن السياسة، لأنكم لا تدركون أحابيلها». وهو الجواب الذي لم يعجب عباس المسعدي، فخرج غاضبا. ذات يوم، كنا مجتمعين بمقر جمعيتنا التي أسسناها لرجال المقاومة وجيش التحرير، التي يترأسها اليوسفي، بشارع الفداء بالدارالبيضاء، وهو الإجتماع الذي حضره في ما أذكر كل من الفقيه البصري، الدكتور الخطيب، المهدي بنعبود، الدكتور عبد اللطيف بنجلون، العمراني (صاحب محطة البنزين) والمحجوب بن الصديق. كما مجتمعين، حتى دخل المرحوم المسعدي بذات اندفاعه، وطلب مني الخروج للحديث معه، فاستجبت لطلبه، فهمس لي أنه يود الجلوس معي أنا والفقيه البصري. فعلا ناديت على الفقيه رحمه الله، وجلسنا معه في غرفة مجاورة. شرح لنا وضعية جيش التحرير بالشمال، وما وصلت إليه الأمور هناك، مؤكدا لنا أنه قرر الإستقالة من مهامه هناك، وأنه يمنحنا فسحة زمنية بين 3 أشهر و6 أشهر لإيجاد من يستحق تحمل مسؤولية قيادة جيش التحرير هناك، وأنه سيجمع قادة المناطق، حينها، وسيخبرهم بقراره بعد أن نختار نحن من يعوضه، حتى يمتثلوا له. ورغم محاولاتنا إقناعه بضرورة التراجع عن قراره، بقي مصرا على موقفه، وعلى ضرورة توفير الدعم له للفترة التي طلبها حتى يصفي كل أمور مسؤولياته بالشمال. في النهاية اتفقنا معه على تحديد موعد للإجتماع بقادة المناطق في مدينة الناظور، وأن نعين فيه من سيحل محله. كنت عمليا أسافر كثيرا إلى الناظور ضمن مهامي في قيادة المقاومة وجيش التحرير، منذ اختيارنا في لقاء بتطوان لقادة جيش التحرير في الشمال قبل انطلاقه (كنت أنتقل إلى تطوان عبر طنجة بجواز سفر مزور باسم محمد بن عبد القادر العروسي). وهو الإجتماع الذي نظم بعد تكليف الدكتور الخطيب بتعويض الوطني أحمد زياد، المنسق السابق للمقاومة بتطوان، والذي توجه إلى القاهرة بطلب منا لمساعدة علال الفاسي. وهنا أفتح قوسا لأقول بأن قرار بعثه إلى القاهرة، لم يكن فقط بغاية مساعدة الزعيم علال الفاسي، بل لإبعاده من تطوان بسبب عدم تسهيله لمهامنا في الشمال، بل أكثر من ذلك، سيعتقل بالقاهرة، وبعد حصول المغرب على الإستقلال طلبنا من اليوسفي التدخل لإطلاق سراحه بمصر. المهم في ذلك الإجتماع، والتدريبات الأولية انطلقت بتطوان، طرح علينا أمر اختيار من سيقود جيش التحرير بالشمال، خاصة بعد بداية وصول المساعدات العسكرية من مصر، فاقترحت عليهم اسمين هما عباس المسعدي وعبد الله الصنهاجي، فتدخل الحسين برادة، وقال أنا أدعم هذا الإقتراح، فوقع الإجماع عليهما. فتقرر أن يكون عبد الله الصنهاجي بالناظور، وأن يتكفل عباس المسعدي بالمناطق حيث تتوزع عناصر جيش التحرير بكامل الشمال. أن واحد قائد مركزي منسق بالناظور والآخر قائد ميداني وأن يكون التنسيق كاملا بينهما. وسبب زياراتي المتكررة إلى الناظور بتكليف من الفقيه البصري هو تليين المواقف بين الرجل، بسبب جدية المسعدي وصلابته، وطبيعة شخصية الصنهاجي المختلفة، فكان ذلك يتسبب في بعض الخلافات بينهما، خاصة على مستوى أسلوب التدبير ورؤية كل واحد منهما للشكل الأنسب لذلك. وللحقيقة فقد كلفت مرة من قبل الفقيه بضرورة إحضار الصنهاجي إلى الدارالبيضاء بسبب بعض التجاوزات، وتوجهت رفقة فريق من 8 أشخاص (بعضهم لا يزال على قيد الحياة) لتنفيذ المهمة، فهم الصنهاجي طبيعة مهمتنا فتوجس، لكنه امتثل لقرار القيادة، حيث سمح لي بإصدار قرار إطلاق سراح عدد من المقاومين كان يعتقلهم بالناظور. إذن، ضمن مهامي تلك، كلفت بالسفر إلى الشمال وبالضبط إلى الناظور لتهييئ الأرضية لتنفيذ قرار عباس المسعدي كما اتفقنا عليه معه. وحدث أن كان في نفس الفترة الشهيد المهدي بنبركة بتطوان رفقة الفقيه البصري، فقررا التوجه من هناك إلى الناظور وزيارة وحدات جيش التحرير بالجبال. وحين وصلا إلى حيث يتواجد عباس المسعدي، فوجئ بمجيئهما، فقرر السماح للفقيه البصري بالدخول بينما رفض دخول المهدي بنبركة بسبب غضبه منه منذ لقاء مدريد. بقيت أنتظر رفقة 7 من قادة المناطق بالناظور وصول الفقيه لتنفيذ الإتفاق المسبق بين ثلاثتنا، لكن لا أحد منهما جاء، فقررت العودة إلى الدارالبيضاء. التقيت الفقيه رفقة بنسعيد آيت يدر واستغربت عدم حضوره كما اتفقنا، وعبرت عن عدم اتفاقي مع زيارته للمنطقة مع المهدي بسبب طبيعة الظروف السياسية حينها، لكنه أخبرني أنه كلف المقاوم حجاج بضرورة إحضار المسعدي إلى الدارالبيضاء لحل كل المشاكل العالقة. عدت بعد 3 أيام إلى الناظور فوصلتنا الأخبار أن حجاج قد قتل المسعدي. } إذن، قصة علاقة حجاج بقضية المسعدي حقيقية؟ نعم. لكن التأويلات التي أعطيت لها غير حقيقية. أولا اختيار حجاج لإقناع المسعدي بالحضور إلى الدارالبيضاء كان بسبب الثقة المطلقة بين الرجلين، وما جرى هو أنه حين وصل حجاج إلى فاس حيث بيت المسعدي رفقة ثلاثة مقاومين آخرين، نزل إليهم المسعدي وطلب منه حجاج الركوب معهم في السيارة، لكنه رفض. فتدخل اثنان من مرافقي حجاج وحاولا إرغامه على دخول السيارة، فالتفت عباس صوب حجاج وقال له: «ما هذا يا حجاج، هل تنوي الغدر بي؟»، فرد عليه حجاج، أنه لا ينوي به شرا أبدا، ويطلب منه تسهيل مأمورية نقله إلى الدارالبيضاء لحل كل المشاكل العالقة. لكن للأسف، واحد من تلك العناصر المساعدة لحجاج بسبب تهور غير مسؤول، كان يضع رأس مسدسه قرب رأس حجاج، وفي لحظة تجادب داخل السيارة انطلقت الرصاصة القاتلة، فقتل الرجل عبثا وبالخطأ. ارتبك حجاج ومن معه، فقرروا التخلص من الجثة بدفنها خارج فاس وعادوا إلى الدارالبيضاء. داع الخبر بسرعة، فانطلق مسلسل البحث عنهم واعتقالهم من قبل فرقة عسكرية عينها ولي العهد اختار ضمنها المقاوم ملال من جيش التحرير منحدر من منطقة فكيك. تمكنت تلك الفرقة من اعتقال حجاج ومن معه وتم نقلهم إلى حيث دفن عباس المسعدي، فتم إخراج الجثة ونقلت إلى فاس لإعادة دفنها هناك. فنزلت رفقة عناصر كثيرة من جيش التحرير من الشمال ومن الناظور لحضور جنازته تلك، وبعد الإنتهاء من مراسيم الدفن تلقينا أمرا بالتوجه إلى القصر الملكي بالرباط، حيث قرر الملك محمد الخامس إلحاق كل عناصر جيش التحرير بالجيش الملكي. كانت تلك بداية حل جيش التحرير بالشمال، حيث قررنا إرسال جزء من رجاله للإلتحاق بالثورة الجزائرية (حوالي 700 عنصرا)، وجزء التحق بالجيش الملكي وجزء ممن رفض الإلتحاق بالجيش الملكي، نزل إلى الجنوب للإلتحاق بجيش التحرير في الجنوب لتحرير الصحراء وموريتانيا عبر محاميد الغزلان يقوده القائد بنحمو المسفيوي (من منطقة مسفيوة بالأطلس الكبير قرب مراكش). بينما بيقت أنا في الناظور 3 أشهر، لتصفية تركة جيش التحرير هناك. } ما الذي جرى لحجاج بعد ذلك؟ بقي معتقلا رفقة رفاقه الآخرين وهم محمد العبدي، لغزالي، ومبارك مرزوق. وآخر من توفي منهم منذ سنة هو لغزالي. بالتالي فجميعهم توفوا إلى رحمة الله. ولقد صدر في حقهم عفو بعد شهور من اعتقالهم. } إذن سي التهامي نعمان، لا علاقة تجمع بين عباس المسعدي وأحرضان، مثلما لا علاقة للشهيد المهدي بنبركة بقتل المقاوم الكبير عباس المسعدي؟ لا علاقة للمهدي بالقضية كلها، لأنها قضية داخلية بين أعضاء جيش التحرير تطورت إلى قتل بالخطأ. أما أحرضان فلا يعرف عباس المسعدي أبدا، ولم يلتقه قط في حياته، عكس الدكتور الخطيب الذي التقاه في الشمال وفي تطوان. وحين حضر أحرضان إلى جنازته بفاس فقد حضر فقط بصفته عاملا على الرباط مرافقا للخطيب لا أقل ولا أكثر. أما ادعاؤه أن قاتل المسعدي لا يزال على قيد الحياة بالدارالبيضاء فهو كذب، لأن المجموعة كلها توفيت والتي تتكون من الأسماء التي ذكرت لك. وأذكر في هذا السياق، أن منصبه ذاك كعامل هو الذي فتح له الكثير من الأبواب لحضور لحظات تاريخية، مثل لحظة نقل رفات الشهيد علال بن عبد الله إلى الرباط بأمر من الملك محمد الخامس. لقد كلفت بالبحث في المكان الذي قيل لنا إنه دفن به بمنطقة زعير خارج الرباط، بأمر من السلطات الإستعمارية، حيث كلف قائد مغربي من تلك المنطقة بالتخلص من الجثة فلم يجد بدا غير أن يكلف فقيها بدفنه بمنطقة نفوذه بزعير. المهم حضرت إلى القبر المعني رفقة زوجته وابنه الذي كان لا يزال صغيرا جدا وجاره الإسكافي الذي اعتقل بتهمة تهييئ السكين التي استعملها رحمه الله في ضرب بن عرفة (الملك الدمية في يد الفرنسيين) وبعد الحفر ظهر جلبابه الذي تعرفت عليه زوجته، ثم ظهر حذاؤه الذي صاح جاره أنه هو من أصلحه له، فتأكدنا أنها فعلا جثة الشهيد علال بن عبد الله. بالتالي حين قررنا نقلها إلى الرباط لإعادة دفنها بمقبرة الشهداء، كان يرافقنا المقاوم بلميودي وكان يرفض حضور أحرضان بسيارته ضمن موكبنا وكان يزاحمه بسيارته، فتدخلت لأقنعه بضرورة فسح المجال له، لأنه عامل الرباط وممثل السلطة المحلية. فكان ذلك مرة أخرى مناسبة لبروزه ضمن تلك المحطة الوطنية، التي لا علاقة له بها ضمن سياق المقاومة وجيش التحرير. والصورة الشهيرة هي تلك التي يحمل فيها علال الفاسي والفقيه البصري النعش وجواره أنا والمهدي بنبركة والمرحوم عبد الفتاح سباطة من مجموعة الرباط.