اختار المبدع المسرحي مصطفى البعليش الاحتفاء بطريقته الخاصة بالعوالم الحميمية للشاعر الراحل كريم حوماري، من خلال إصدار نص مسرحي عميق، تحت عنوان «أصابع الحلم»، وذلك سنة 2013، في ما مجموعه 70 صفحة من الحجم المتوسط. ويمكن القول إن هذا العمل غير المسبوق والصادر ضمن منشورات جمعية الأصيل بأصيلا للثقافة والفنون، يشكل مؤشرا دالا على عمق الرؤى التي بدأت تستقرأ -من خلالها- نخب مدينة أصيلا أوجه العطاء الثقافي والإبداعي والفكري الذي راكمته المدينة في إطار تضافر العناصر الناظمة لهويتها الثقافية المركبة. لا يتعلق الأمر بتوثيق حدثي / خطي، ولا بتتبع كرونولوجي لتقلبات السير الذهنية الشخصية للرواد وللكتاب وللمبدعين، ولا هو-كذلك- باستحضار روتيني لمناقب هذا المبدع أو ذاك، بقدر ما أنه احتفاء إنساني يعيد تمثل مجمل رصيد القيم والأخلاق والمبادئ التي صنعت تجربة المبدع كريم حوماري، في حياته الخطية القصيرة، وفي انعكاساتها الإبداعية الرحبة والمشرعة على قلق السؤال. لم يركن مصطفى البعليش إلى استنساخ الأنماط السهلة لاستحضار ذكرى بعض ممن رحلوا، بل اختار إدماج عناصر السيرة الذهنية للشاعر كريم حوماري داخل نسق نص مسرحي احتفالي بالذات وبالوجود وبأسئلة الموت والحياة. لا شك أن اختيار مصطفى البعليش لقوالب الحوار / المحاكمة في إطار دراماتولوجي تخييلي، قد أعطاه كل فرص الخلق والتخييل، بهدف إعادة تركيب معالم تجربة كريم حوماري، ثم إعادة تمثل قيم الحياة والموت كما عاشها هذا الشاعر وكما عكستها نصوصه المتميزة التي احتواها ديوانه الذي أصدرته جمعية قدماء تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي سنة 1997، بعد رحيله المفاجئ، تحت عنوان «تقاسيم على آلة الجنون»، وهي النصوص التي نجح مصطفى البعليش في إدماجها في متنه بشكل انسيابي ساهم في إعطائها نفسا تحيينيا مباشرا وقيمة رمزية كبرى على مستوى التوثيق لمسار تجربة الشاعر كريم حوماري. وفي كل ذلك، حرص الكاتب على استلهام عبق التاريخ وانسيابية لغة السرد الحكواتي لكتاب «ألف ليلة وليلة»، من أجل إنجاز الإسقاطات الضرورية لتفكيك متاهات الواقع وأزماته المزمنة، حسب ما عكسه الواقع العام لفضاء مدينة أصيلا، ومن خلاله سيرة الشاعر كريم حوماري. ولعل هذا ما استطاعت اختزاله الكلمة التقديمية للأستاذ عبد الصمد مرون، والتي جاء فيها: «لا شك أن هناك صعوبة كبيرة في الكتابة عن تجربة أدبية أبطالها من محيط حياتنا القريب، فتحنا أعيننا على ابتساماتهم، واستمتعنا بالنظر إلى شغب شبابهم، ونحن نمارس لعبة كرة القدم، أو نبحث عن مختبئ هنا أو هناك في لعبة «الغميضة»، ويبقى التحدي الأصعب أن تستخلص من الذاكرة صورا لهذه الشخصيات، ونحاول في الوقت نفسه التركيز على تجربة أدبية تعالج حياة بطل من واقعنا، بطل ما زلنا نصر على أنه لم يمت بعد لا حقيقة ولا مجازا، بل يظل حيا في نبض قلوب رواد مدينة أصيلا، في ضمير من حمل عبء السؤال، واختار عن طوع الاتجاه عكس التيار إلى أعلى النبع لعله يضع بداية جديدة بلا ظلم ولا كبت، بداية أساسها ومنتهاها حرية الشاعر في مغازلة وردة الحياة ... » (ص. 10). هي -فعلا- مغازلة لوردة الحياة، ولكن قبل ذلك استنفار قوي للتراث الشعري للراحل كريم حوماري، قصد تشييد معالم بناء مسرحي يكتسب كل شروط التجسيد فوق فضاءات الركح. وإذا كان هذا الجانب بالذات يندرج في سياق توظيف المؤلف لعناصر الكتابة الدراماتولوجية المتميزة بأدواتها التقنية وبحسها الحركي وبروحها المادية المباشرة، فالمؤكد أن الأمر يشكل مساءلة مفتوحة لضمير المشترك ولوعينا الجمعي الذي أفرز كل مآسي الراهن وكل لوثات الفكر والقيم والأخلاق. إنها استلهام ذكي لتراث كريم حوماري من أجل محاكمة تناقضات الراهن وتفكيك عناصر السقوط التي أنتجت كل مآسينا ودفعت بنا إلى مهاوي الضياع والتيه والجنون. لقد نجحت مسرحية « أصابع الحلم « في مقاربة هذا البعد، مستنفرة جملة من أدوات العدة المسرحية لتبليغ أعلى درجات الغضب من بؤس المرحلة ومن تلوث الضمير ومن ظلام الأفق، ثم من انسداد المصير. لم يعبر كريم حوماري عن مصير فرد منعزل في زمانه وفي بيئته، بل كانت المأساة تعبيرا عن سقوط جماعي لم يرحم مثقفيه وانتظاراتهم، ولا شبابه وتطلعاتهم. لذلك، حملت مسرحية «أصابع الحلم» عناصر الصرخة المدوية ضد كل مهاوي السقوط، بأسلوب فني تخييلي راق يحمل معالم ميلاد كاتب مسرحي متميز، اسمه مصطفى البعليش. وللاقتراب من سقف التناغم بين الكتابة المسرحية المجددة للمؤلف ومظان المتون الشعرية لكريم حوماري، نقترح إنهاء هذا التقديم المقتضب ببعض مما ورد في نص «أصابع الحلم»، حيث نقرأ: «ممثل النيابة العامة: وجدنا سيدي في أوراق هذا المتهم كلاما يقول فيه: أحلم كثيرا بهذا الكرسي «وهو يشير إلى كرسي الجنرال»، أحلم بخرائط جديدة، لعالم قديم في ذهني ولا أنتعل حذاء هذا الجنرال حين أدوخ.. ها هم ينتظرون حياتي .. يهتفون، فلا أخرج وينصرفون.. يتيهون يضيعون، ولا أخرج. يقف الطفل ضاحكا فوق سطح المنزل في أقصى ركن من درب العمر يقول القصيدة وفي نغمات النشيد الوثني ينتحر... القاضي: « للشاعر» هل من رد ؟ الشاعر: لا جواب. القاضي: «لممثل النيابة العامة» أكمل. ممثل النيابة العامة : وهو يا سيدي بالإضافة إلى ذلك وقح في أجوبته. القاضي: كيف ذلك؟ ممثل النيابة العامة: اسمح لي أن أسأله أمامك. القاضي: تفضل واسأل. ممثل النيابة العامة: ما رأيك في الشعب والدين والحكم ... الشاعر: رأيت الشعب مشغولا بدفع العربة إلى الأمام، رأيت العربة مشغولة بدفع الشعب إلى الوراء، رأيت شعبا من العشاق، رأيت راهبا يحمل مقصلة، حاكما يحمل مشنقة، رأيت الجميع يحارب الجميع، وأنا لم أشارك في المهزلة ... « (ص: 53و 55 ). إنها «أصابع الحلم» ضد آفة الجحود، بحثا عن إنسانية الإنسان الذي كان، واستلهاما لسمو العطاء الثقافي الذي اندثر.