نقصد من استعمال مصطلح التشنجات convulsionsهنا وفي هذا المقام، ذاك المعنى أو المفهوم الذي يعطى عادة لهذا التوصيف في اللغة الطبية والصيدلية، حيث يرمز الى مجموع التفاعلات التي يمر منها الجسم البشري أو بعض مكوناته خلال فترات معينة ،قد يتماثل بعدها الى الشفاء أو قد تسوء حالته وتتدهور. إن النقاش الدائر بخصوص الموضوع الذي فجر غضب أبي النعيم ومن معه ، البارزين منهم والمتخفين ، السياسيين منهم والدعويين ،والمواقف المعلنة على جنبات الصراع الدائرة رحاه بضراوة حول ذلك الموضوع، يذكرنا بما عرفته مجتمعات قبلنا خلال مراحل تاريخية سابقة، من نقاشات كان قد تداخل في خضمها الديني بالسياسي ،والثقافي بالمجتمعي، والاقتصادي بالقانوني، والعقلي بالعاطفي ،وكل ذلك أثناء منعطفات مفصلية من مسارات او منعرجات تطور، هيمنت فيها بقوة تيمات أو قضايا، فتحولت بسرعة ،بحكم حمولتها ورمزيتها الى موضوعات محورية ، تستقطب الاهتمام العام ،وتختزل لوحدها حالة المجتمع وطبيعة الديناميات التي تحركه وترمز الى عمق التوترات الإيديولوجية التحتية التي تخترقه. من التاريخ الاوروبي القديم، يمكن أن نذكر كيف أنه ، ومع الإرهاصات الأولى لميلاد النظام الرأسمالي بعد عصر النهضة، برز ثم هيمن على الساحة الفكرية والسياسية نقاش واسع حول مدى مطابقة الفائدة البنكية على القروض ،التي فرضتها المعاملات الرأسمالية الوليدة، مع توازنات مجتمعية وروحية وأخلاقية كانت قد عاشت عليها المجتمعات الاوروبية مددا زمنية طويلة ، وتذكر معطيات التاريخ في هذا السياق كيف تمت ملاحقة فئة « الهوكنو hugnots في فرنسا لمجرد أنهم طالبوا بإعمال باب الاجتهاد في هذا الباب، وكيف وجدوا السماحة والترحيب في هولندا وبريطانيا وهما البلدان اللذان سبقا غيرهما وقتها ، في مجال التكييف التقدمي والعقلاني للنصوص بما يجعلها مساوقة لمقتضيات التطور ومؤشرات التجديد التي كانت تعلن عن قدومها بشكل مسموع مجلجل ومرئي بارز، كما لاحظ الان بير فيت في كتابه / الأطروحة حول مجتمعات الثقة . ومن التاريخ الاوروبي المعاصر والجديد نسبيا يمكن أن نذكر كيف انقسمت المجتمعات الاكثر لائكية خلال مرحلة السبعينيات مثلا في موضوع الاجهاض بخصوص مدى شرعية تقريره كحق من حقوق النساء، وكيف دخلت جميع مكونات المجتمع على الخط في مجال السجال والمناظرة والحوار ، من الحركات النسائية الى قادة الحركات الدينية الى ممثلي المنابر الأكاديمية والإعلامية الاكثر سمعة و حضورا وفاعلية، وهو سجال يستمر في الظهور من حين لآخر في بعض الأقطار الحديثة العهد بالالتحاق بالركب الاوروبي. وفي تاريخنا العربي الاسلامي ، تاريخ الأفكار على الاقل ، فإن ابن رشد حاول فيي زمانه أن يعطي للعقل شرعية معرفية للخوض التفصيلي في قضايا وموضوعات كان واضحا انها قضايا مقسمة ( بكسر السين وتشديدها) divisive issues ، بلغة السوسيولوجيين اليوم، اي قضايا لا يمكنها إلا أن تثير الخلاف العميق والاختلاف الكبير بين طوائف المتكلمين بحكم ارتباطها بنوعية القيم التي تحرك المشاعر والمسلكيات وتؤطر ردود أفعال الناس. أعود الى موضوع التشنجات : في الحالتين اللتين ذكرناهما عن السوابق الاوروبية ، جرت تشنجات استمرت عقودا من الزمن في الحالة الاولى القديمة أي في موضوع المشروعية الدينية والأخلاقية للفائدة البنكية، وسنوات أو شهورا في الحالة الثانية أي في قضية الاجهاض ، تشنجات أخذت شكل النقاش الساخن والسجال العالي النبرة بين المتكلمين . وبالطبع فإن الامر يتعلق بقضيتين ضمن عشرات القضايا التي طرحت على المجتمعات الاوروبية، وكان عليها مواجهتها ، ولكن الامور انتهت في الاخير وعند المصب نهايات إيجابية ، تصالحت فيها المجتمعات مع روح العقل وتصالح فيها النقل مع مقتضيات التطور الضاغطة . أما في الحالة الرشدية فإننا نعرف كيف ووجه المفكر العقلاني المتفتح وكيف انتهت التشنجات في وقته الى معاداة الإبداع والاجتهاد. والسؤال الذي نود طرحه هنا : لماذا انتهت التشنجات في تلك الحالات كلها الى نهايات إيجابية ولماذا تتعذر مثل هذه النهايات السعيدة عندنا وتتحول التشنجات الى نزيف دماغي أو ما يشبهه ؟ لن نسقط في الفخاخ التفسيرية للمستشرق جون لويس الذي يرى في الامر خاصية أنثروبولوجية للمجتمعات العربية الاسلامية كتابه» what went wrong «ولن نخضع لبريق التفسيرات السطحية التي تروج لها بعض علب التفكير الغربية ، وخاصة الامريكية والتي تستعيد في نسخ منقحة أفكار جون لويس وتضع بيننا وبين العقلانية جدارات سميكة وعالية لن نقوي على اقتحامها مهما حاولنا أو كابرنا، ولن نسلك في محاولة تلمس عناصر الاجابة عن هذا السؤال المسلك التاريخاني، كما لن نكون كانطيين متفائلين زيادة عن اللزوم فنقول مثلا إن دورنا آت بالضرورة في نعيم العالمية الفارضة لعقل كوني موحد، وأنه ما علينا إلا بعض الصبر وسعة الصدر. الأمر في تقديري أسهل من كل هذا وأكثر مباشرة من كل تلك التفسيرات وأود تقديمه كما يلي : هناك في حالات التشنجات التي انتهت نهايات إيجابية، تم التعامل مع موضوعات الاختلاف التي طرحت في الساحة تعاملا منهجيا أخرجها تدريجيا من منطق الصحيح المطلق المواجه للخطأ المطلق الى منطق آخر مختلف يقوم على النسبية وتسييد المصلحة العامة ،وقبل الجميع حقاً قاعدة العمل وفق ما تقتضيه هذه المصلحة من اجتهادات دورية ، وهذا ما صنع في المحصلة إمكانات التطور المدني والسياسي الذي يسير بالشأن الإنساني الى الامام ولا يفسد للود مع المعتقد الديني قضية . أما في الحالات الاخرى ، التي تتحول فيها التشنجات أو تنذر بالتحول الى نزيف، فإن منهجية الاختلاف عادة ما تزيغ عن المجرى المطلوب ، مجرى الصراع الهادئ ،بالمناظرة الفكرية والحوار المفتوح ، ويصبح الأمر مجرد حروب كلمات، ينصب فيها طرف نفسه ناطقا باسم الجميع ويعطي لنفسه بهذه الصفة مشروعية القراءة والتفسير للنصوص الدينية . وفي هذه الحالة فإنه لا مجال في ذهن الأصولي المتزمت ، إلا للمطلق يقارع الخارج عن الطريق، والمقدس يحارب المدنس ، والقواعد المرعية كما يفهمها هو تصارع اعوجاجات الخصوم المذهبيين ، وغيرها من العمليات الذهنية التي تفرز منطقا دائريا أجوف لا فكاك لصاحبه منه. وبالطبع ففي ظل منطق من هذا النوع فإن مصلحة المجتمعات، مقاسة بمقتضيات تطورها وضروراته الموضوعية ،لا تعود هي المتغير الاساسي الذي يجب أن تقود وتوجه الاجتهاد والقراءات ، بل مصالح المحافظين في البقاء لوحدهم أمناء على الحق والحقيقة!!! ماذا إذن بعد التشنجات الحالية ؟ هل تفضي في نهاية دورتها الى بلورة منهج جديد في التعامل مع قضايا مجتمعنا بما يفتح آفاقا جديدة أمام تطوره المدني والسياسي الذي لن يكون بالضرورة عائقا أمام توازنه الروحي كما يدعي الأصوليون ويتصورون ويصورون أم أننا سنعيد مرة أخرى اجترار دوامات سابقة لا تنكشف فيها التشنجات إلا على النزيف كلما تعلق الامر بقضايا تتموقع على التخوم بين الديني والمجتمعي والاقتصادي والقانوني؟ لنكن مع ذلك متفائلين بالمستقبل ولنقل إن الامر سيتوقف في نهاية المطاف على دينامية التقدميين، وحماسهم وتصميمهم وطول نفسهم.