يعتبر صندوق المقاصة من أبرز القضايا الشائكة التي تواجه المالية العمومية بالمغرب حاليا بالنظر لارتباطه بالتوازن الاجتماعي والاقتصادي حيث يتولى صندوق المقاصة توفير سياسة استهلاكية عادلة ومنصفة عن طريق المحافظة على أسعار المواد الأساسية في مستويات تتناسب مع القدرة الشرائية للمواطنين ، وقد تأسس صندوق المقاصة سنة 1941 من طرف السلطات الفرنسية من أجل تجاوز صعوبات التزود بالمواد الغذائية والمنتجات الأولية الصناعية ولتقنين الأسعار وتشجيع تنقيلها إلى بلدها وذلك في سياق تجاوز الانعكاسات السلبية للحرب العالمية الثانية على اقتصادها واقتصاد مستعمراتها ، ثم لتوفير المنتجات الأوروبية في المغرب بأسعار معقولة تحول إلى برنامج أوسع لدعم السلع الاستهلاكية والنفط والغاز ، وبعد الاستقلال استمرت الدولة المغربية في نفس السياسة خاصة في منتصف الستينات حتى صدور الظهير المؤسس لصندوق المقاصة كمؤسسة عمومية ذات استقلال مالي وشخصية معنوية في 10 أكتوبر 1977 ، وقد سطر هذا الظهير ثلاثة أهداف أساسية لهذا الصندوق وهي : تنظيم التزود بالمواد الاستهلاكية الأساسية ، تأمين المقاولات من تقلبات أسعار المواد الأولية ، حماية المستهلكين عبر التحكم في أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية ،ورغم وضوح الأهداف المسطرة لهذه المؤسسة من الناحية التشريعية فإن الملاحظ أنها لم تؤدي إلى توفير سياسة استهلاكية عادلة ومنصفة وبالتالي تحقيق حماية كافية للمستهلك وأنها تعاني حاليا من مجموعة من الاختلالات والصعوبات المركبة حيث أثبت الواقع أن نظام المقاصة يتسم بانعدام الفعالية والنجاعة ولا يحقق العدالة المطلوبة بما أن المستفيدين من الدعم هم الأغنياء والمقاولات التي تستعمل المواد المدعمة في منتوجاتها الأمر الذي يقتضي تشخيص لوضعية هذه المؤسسة قصد إعداد مخطط للإصلاح وإيجاد حل ملائم يساهم في تأمين التوازن الاجتماعي والاقتصادي وبالتالي تجاوز ثقل وعبء هذه المؤسسة على ميزانية الدولة وعلى ميزان الآداءات ، لكن ذلك يقتضي تحديد جوانب الخلل بكل مصداقية قصد إيجاد الحلول الناجعة لتجاوزها ، لذلك فإن تشخيص وضعية صندوق المقاصة يفرض طرح السؤال كالتالي : أين الخلل هل في القانون أم في التطبيق ؟ ومن يتحمل مسؤولية الوضع الذي انتهت إليه هذه المؤسسة ؟ وما هي الآليات الكفيلة بضمان نجاعة النظام وتوجيه الدعم للفئات المستهدفة وبالتالي الحفاظ على التوازنات الاجتماعية والمالية ؟ وهل يعتبر نظام الدعم المباشر بديلا ناجعا لنظام المقاصة في ظل عدم توفر الدولة على آليات ناجعة لتنزيله ؟ وهل يعتبر نظام المقايسة نظاما ناجعا لضمان التوازنات المالية والاجتماعية في غياب فلسفة تراعي واقع المجتمع الذي نعيشه ؟ من الناحية القانونية نجد أن هذه المؤسسة تم تنظيمها بمقتضى القانون رقم 1.74.403 بتاريخ 5 شوال 1397 ( 19 شتنبر 1977 ) الذي يتعلق بإعادة تنظيم صندوق المقاصة ، وبالرجوع إلى هذا القانون نجده يتضمن مجموعة من المقتضيات القانونية الكافية مبدئيا لضمان قيام هذه المؤسسة بالدور الذي أنيط بها ، حيث جاء في المادة 2 منه ما يلي : « يعهد إلى صندوق المقاصة بتنفيذ السياسة الحكومية لتثبيت الأثمان. ومن أجل هذه الغاية فإن الصندوق : يعتبر الهيئة المؤهلة وحدها للقيام بجميع العمليات المتعلقة باستقرار الأثمان ولاسيما القيام بتمويلها وإنجاز أو جمع الاقتطاعات المتعلقة بها ويجب إشراكه في الدراسات والمقررات الخاصة بالعمليات المتعلقة بهدفه « . ويسير صندوق المقاصة مجلس إداري يتألف من : الوزير الأول بصفة رئيس - وزير المالية - وزير الداخلية - وزير التجهيز والنقل - الوزير المكلف بالتجارة والصناعة - وزير الشغل والشؤون الاجتماعية - السلطة الحكومية المكلفة بالتخطيط والتنمية الجهوية - السلطة الحكومية المكلفة بالشؤون الاقتصادية . ومن خلال ذلك يبدو أن هذه المؤسسة تتكون على الأقل من الناحية النظرية من مجموعة من المكونات والفعاليات التي من المفروض أن تساهم في نجاحها والقيام بدورها وتحمل مسؤولياتها بل وتطبيقا لمقتضيات المادة 5 من القانون المشار إليه أعلاه يتوفر المجلس الإداري على جميع السلطات الضرورية لحسن سير الصندوق . ولهذه الغاية فإنه يسوي بمداولاته المسائل العامة التي تهم الصندوق ويقوم على الخصوص بما يلي : - تحديد العمليات التي يجب أن تستفيد من مساعدة الصندوق والعمليات التي يجب أن تكون موضوع اقتطاعات لفائدته ؛ - تحديد مبلغ الإعانات المالية الواجب منحها ومبلغ الاقتطاعات الواجب تطبيقها ؛ - حصر الميزانية والحسابات والبت في تخصيص النتائج وفقا للتعليمات الحكومية ؛ - إعداد النظام الأساسي للموظفين وعرضه للمصادقة عليه طبقا للشروط المنصوص عليها في التشريع المعمول به بالنسبة لموظفي المؤسسات العمومية . ويمكن للمجلس أن يفوض إلى رئيسه في جزء من سلطاته وإلى المدير في سلطات خصوصية قصد تسوية قضية معينة ، وبناء على ذلك يمكن القول بأن صندوق المقاصة يتوفر على سلطات واسعة لتنظيم السياسة الاستهلاكية وتأمين التوازنات الاجتماعية ، ولضمان تحقيق هذا الغرض فقد وضع المشرع مجموعة من الآليات القانونية الكفيلة بممارسة هذه المؤسسة لسلطاتها على أحسن وأكمل وجه ، حيث نص المشرع على إمكانية تحصيل ديون صندوق المقاصة وإجراء المتابعات من أجل هذا التحصيل وفقا للشروط المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر في 20 جمادى الأولى 1354 (21 غشت 1935) بسن نظام المتابعات في ميدان الضرائب المباشرة والأداءات المماثلة لها ومحصولات ومداخيل أملاك الدولة وغيرها من الديون التي يحصلها القباض ، بل إن المشرع ذهب أبعد من ذلك حينما جعل أن ديون صندوق المقاصة تؤدى في ظرف الثلاثين يوما الموالية لتاريخ تبليغها خلافا لمقتضيات الظهير الشريف المذكور المتعلق بإجراءات التحصيل . كما يمكن للعون المحاسب بصندوق المقاصة أو القابض العامل لحسابه أن يتخذ جميع التدابير التحفظية الكفيلة بضمان أداء هذه الديون بمجرد ما يتوصل بالرسم التنفيذي ، ثم إن جميع العمليات المتعلقة بالحجز لدى الغير أو التعرض على المبالغ الواجب أداؤها من طرف صندوق المقاصة و كل إشعار بالتخلي ونقل المبالغ المذكورة وكل إشعار يهدف إلى إيقاف أدائها يجب أن تباشر على يد العون المحاسب لصندوق المقاصة وإلا فإنها تعتبر باطلة ، ويتمتع الصندوق أيضا فيما يخص تحصيل ديونه وصوائر المتابعات الجارية في هذا الشأن على امتياز عام يمارس على جميع الأثاث والأشياء المنقولة والبضائع الجارية على ملك مدينيه أينما كانوا ، ويتعين على المستفيدين من المساعدات أو المبالغ المرجعة أو الإعلانات المالية الممنوحة من طرف صندوق المقاصة أن يدلوا بجميع وثائقهم الحسابية كلما طلب منهم ذلك الأعوان المؤهلون لهذا الغرض ، ويعتبر هذا التنظيم مظهرا من مظاهر العناية التي أولاها المشرع لهذه المؤسسة قصد أداء مهامها المالية والاجتماعية فالقانون يلزم جميع الشركات التي تدخل المواد المدعمة في عمليات إنتاجها بإرجاع أموال الدعم التي استفادت منها إلى خزينة الدولة ، غير أن هذه القاعدة القانونية لا تسري على جميع الشركات في المغرب إذ تتحكم في هذه العملية عوامل عديدة قد تدفع الدولة إلى إعفاء قطاعات معينة من إرجاع أموال الدعم ، ومن أهم هذه العوامل رغبة الدولة في دعم وتقوية تنافسية المقاولات المغربية التي تستحق بعض الدعم من الدولة ، غير أن غياب آليات للمراقبة وعدم وجود ميكانيزمات لتحديد المقاولات التي تستحق فعلا الاستفادة من نظام الدعم من عدمها أدى إلى نوع من العشوائية في التعامل وبالتالي إلى وصول هذا النظام إلى مرحلة صعبة كان لها بالغ الأثر على المالية العمومية . وإذا كان المشرع قد وضع مجموعة من التدابير الزجرية التي تهدف إلى الحد من المحاولات الرامية إلى الاستفادة من دعم الصندوق في غياب المعايير والمبررات القانونية حيث يعاقب بغرامة تتراوح بين 50 و 100.000 درهم وبالسجن لمدة تتراوح بين 15 يوما وستة أشهر أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط كل من أقدم على اقتراف بعض المخالفات لمقتضيات القانون المنظم لهذه المؤسسة خصوصا إذا كانت تهدف إلى التملص من الالتزامات المفروضة أو إلى تحريف تطبيقها - ويتعرض الشركاء لنفس العقوبات المطبقة على الفاعلين الأصليين ويمكن مضاعفة الغرامة في حالة العود لارتكاب المخالفات وتكتسي العقوبات دائما صبغة تعويضات مدنية - فإن الملاحظ أن هذه التدابير تبقى محدودة وغير كافية والمطلوب من المشرع أن يتدخل بسن تدابير وعقوبات قاسية تفاديا لمختلف التلاعبات التي قد تمس بالمقتضيات القانونية الجارية . وبصفة عامة وانطلاقا من المقتضيات القانونية المشار اليها اعلاه يمكن القول على الأقل من الناحية المبدئية بأن صندوق المقاصة كان منذ تأسيسه آلية لحماية المستهلك عن طريق تنظيم التزود بالمواد الاستهلاكية الأساسية ، لكن الملاحظ أن تطور هذه المؤسسة لم يؤدي إلى تحقيق تلك الأهداف التي وجد من أجلها على مستوى الواقع الاجتماعي الملموس ، فأين الخلل إذا ؟ وما السبيل لتجاوزه ؟ لقد أصبح من المستعجل القيام بتشخيص لهذه المؤسسة التي عرفت إفلاسا وعجزا على مستوى تمويل ودعم سوق الاستهلاك وأصبحت تشكل عبئا وثقلا على الميزانية العامة حيث ضخت الدولة خلال الخمس سنوات الماضية 150 مليار درهم في هذا الصندوق دون أن يتحقق الهدف المنشود وهو دعم الفئات المستضعفة ، وأن 20 في المائة من الفئات المعوزة لم تستفد سوى من 1 في المائة من هذا المبلغ ، في حين استفردت الفئات الغنية بنحو 75 في المائة من المبالغ التي رصدت لهذا الصندوق ، كما أن دعم الصندوق تستفيد منه بالدرجة الأولى الكثير من المقاولات التي ضاعفت إنتاجيتها ومردوديتها وضمنها شركة أجنبية كبرى ، فجوانب الخلل ترتبط أساسا بمشكل المسؤولية والمحاسبة وغياب الحكامة في التسيير وفي مشكل التبعية المفرطة للسوق الدولية فيما يخص المواد الأولية وغياب آليات للرقابة بإمكانها تتبع جميع أشكال الدعم التي وجهت إلى جهات غير معنية به ، فقد كشفت الدراسة التي استعرض تفاصيلها يوم الاثنين 4 يونيو 2012 بالرباط مجلس المنافسة بحضور رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران عن مفارقات كبيرة في ما يخص أنظمة دعم المواد الأساسية من قبل صندوق المقاصة يمكن إبرازها من خلال الجوانب التالية : - 83.6 في المائة من الدعم العمومي المخصص للمواد الأساسية يذهب أساسا لدعم المواد البترولية . - دعم مادة السكر سنة 2011 كلف ميزانية الدولة 5 مليار درهم. - دعم القمح اللين بلغ 3.4 مليار درهم برسم سنة 2011. - لم يستفد الفقراء سوى من 3.9 بالمائة من حجم الدعم . - لم يستفد الفقراء إلا من 1.9 من حجم الاستهلاك من المحروقات المدعمة بينما ذهب 94.8 بالمائة من حجم الدعم لسيارات وجيوب الفئات الميسورة . -96.1 من حجم دعم صندوق المقاصة تستفيد منه الفئات غير الفقيرة بينما يستفيد الفقراء من 4.9 بالمائة من استهلاك السكر المدعم فقط . - الفقير في المغرب يستفيد سنويا من 45.7 درهم في إطار دعم الدولة للدقيق ، بينما يستفيد غير الفقير من 112.4 درهم سنويا من نظام دعم الدقيق ، وبالنسبة للسكر يذهب إلى جيب غير الفقير 156 درهما بينما يستفيد الفقير من 87 درهما فقط سنويا ، فيما يتعلق بنظام الدعم يستفيد الفقير من 229 درهم سنويا في مقابل ذهاب 408 درهما إلى جيب غير الفقير . وكخلاصة لهذه الإحصائيات يمكن القول بأن نظام المقاصة لم يتمكن من الحفاظ على استقرار أسعار الاستهلاك بصورة تتلاءم مع القدرة الشرائية للمواطنين وأن هناك خلل في توجيه الدعم وارتباك في الاشتغال قد ينعكس سلبا على المالية العمومية وعلى السلم الاجتماعي ، ولتفادي هذه الاختلالات فقد اقترح مجلس المنافسة مجموعة من الحلول في شكل سيناريوهين لإصلاح صندوق المقاصة بالمغرب : يتمثل السيناريو الأول وفق الدراسة التي كشف عنها مجلس المنافسة في هذا الصدد في التحرير الكامل لأسعار المواد التي يشملها نظام الدعم ، وتفيد الدراسة ذاتها بأن هذا الإجراء سيؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد المدعمة في الأسواق المحلية ، غير أن اعتماد هذا السيناريو حسب ما كشفت عنه الدراسة سيرفع سعر القمح اللين من درهمين إلى 3.93 دراهم للكيلوغرام ، وهو ما يعادل ارتفاعا بنسبة تناهز 96 في المائة كما أنه سيفرز زيادة في سعر مادة السكر بنسبة تزيد عن 28 في المائة، حيث سينتقل من 5.008 دراهم إلى 9.11 دراهم للكيلوغرام ، أما السيناريو الثاني فيقضي باعتماد نهج التحرير التدريجي لأسعار المواد المدعمة مع اتخاذ إجراءات وتدابير ذات طبيعة جبائية بالأساس لمواكبة هذا التحرير من أجل التخفيف من تداعياته على القدرة الشرائية للأسر ، غير أن هذا السيناريو يمكن أن يكبد خزينة الدولة مداخيل تصل إلى 5 ملايير درهم نتيجة انخفاض عائدات الضريبة المفروضة على المواد المدعمة في الأسواق الوطنية ، ففي هذه الحالة يتوقع أن ينتقل سعر قنينة غاز البوتان من فئة 12 كيلوغراما من 40 إلى 94.54 درهما ، في الوقت الذي سينحصر سعر كيلوغرام من السكر في 7.14 دراهم بدل 9.11 المتوقعة في حالة تطبيق السيناريو الأول ، بالإضافة إلى ارتفاع سعر كيلوغرام من الدقيق من درهمين إلى 3.93 دراه . أما على المستوى الحكومي فيبدو أن الحكومة تشتغل حاليا على دراسة الخيارات الممكن اعتمادها لإصلاح صندوق المقاصة ، وقد أوضح السيد نجيب بوليف وزير الحكامة والشؤون العامة الذي استضافته قناة « ميدي 1 تي في « بتاريخ 24/02/2013 ضمن برنامج « ملف للنقاش « الذي خصص لموضوع « السيناريوهات المحتملة لإصلاح صندوق المقاصة « ، أنه تم التركيز على بناء « نموذج مغربي صرف « يعتمد على معطيات وأطر مغربية ? دون تأثير أي منظمة دولية أو خارجية ، وأضاف أنه تم - بناء على النقاش العام الذي شمل العديد من القطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية والفاعلين والمهنيين في العديد من القطاعات الانتاجية - الوقوف على « دراسة أثر « الإصلاح على الأسر والاقتصاد والاستهلاك العام وعلى الأسعار ومستويات التضخم وأثرها على المقاولة المغربية وغيرها ? مشيرا إلى أن هناك حاليا العديد من المؤشرات التي حددت أرقاما تقييمية لأثر الإصلاح ? فضلا على كيفية تنزيله إذا تم التوافق بشأنه . وبخصوص السيناريوهات المحتملة لهذا الإصلاح ? استبعد بوليف سيناريو التحرير الكامل للأسعار لما له من أثر سلبي على دخل الأسر وعلى الادخار والاستهلاك ? مؤكدا أن من بين السناريوهات الأخرى التحرير الجزئي للأسعار والتدريجي لمادة معينة على مدى ثلاث أو أربع سنوات ، وخلص بوليف إلى القول إن اختيار أي حل من الحلول هو « قرار سياسي أكثر منه تقني « ? لكونه يتضمن أبعادا اقتصادية واجتماعية وأمنية ? مشددا على ضرورة مواكبة إصلاح صندوق المقاصة بإصلاحات موازية تشمل القطاع الضريبي والصحي والاجتماعي وغيرها ، كما أشار في هذا السياق إلى أنه تم إعداد ثلاث دراسات في هذا الموضوع ، أولها حول دراسة الأثر والسيناريوهات المحتملة لتحرير أسعار المواد المدعمة على الأسر والقطاعات الميزانية ، وأخرى حول الاستهداف وتوزيع الدعم المالي المباشر، فيما الثالثة هدفها دراسة إصلاح سلاسل القيم للقطاعات المدعمة . وفي ذات السياق طرح السيد نزار البركة وزير الاقتصاد والمالية ثلاثة سيناريوهات للإصلاح ، يهم الأول الحفاظ على النظام الحالي كما هو ، ويهم الثاني حذف الصندوق ، ويهم الثالث الإبقاء على الصندوق مع العمل على التحكم في غلافه المالي ، استهداف المعوزين وتقديم الدعم المشروط ، موضحا أن السيناريوهين الأولين يتعارضان مع منطق الإصلاح ، باعتبار أن الأول يؤدي إلى استمرار الاختلالات التي تم تشخيصها ، كما أن الثاني سيلحق أضرار بليغة بالفئات المعوزة وأيضا بالفئات المتوسطة ، حيث إن حذف الدعم سيؤدي حتما إلى رفع أسعار المواد المدعمة ، فعلى سبيل المثال سيرتفع سعر قنينة غاز البوطان من حجم 12 كلغ إلى حوالي 100 درهم عوض حوالي 40 درهما ، أي ما يعادل زيادة بنسبة 150 في المائة ، وفي الآونة الأخيرة قامت الحكومة بطرح نظام المقايسة كصيغة للإصلاح ، لكن يبدو أن نظام المقايسة ليس نظاما ملائما وسيحمل تبعات سلبية للاقتصاد الوطني لعدم تلاؤمه مع الواقع المغربي ، لذلك أكدت المنذوبية السامية للتخطيط مؤخرا ارتفاع الأسعار مباشرة بعد تطبيق نظام المقايسة . في ضوء هذا الاتجاه وهذا النقاش نعتقد أن جوهر الإصلاح ينبغي أن يتجه إلى التحكم في كلفة المقاصة عن طريق حصر الغلاف الإجمالي للصندوق في مبلغ معين لا يشكل عبئا ثقيلا على ميزانية الدولة ويوفر إمكانيات إضافية لدعم الاستثمار ، ويساهم في تأمين الاستهداف الأمثل للفقراء بالموازاة مع الحفاظ على القدرة التنافسية للمقاولات المغربية ، مع وضع آليات لاسترجاع الدعم من الفئات الميسورة ، وتنظيم القطاعات المدعمة وتهييئها للتحرير والتنافسية ، مع اعتماد سياسة تحرير تدريجية للأسعار، وذلك ضمانا للانسجام مع باقي القطاعات الاجتماعية الأخرى ، وأن نعمل على ترشيد النفقات ومحاربة الامتيازات ، ودعم المساعدة عبر الأسعار بالموازاة مع إدخال إصلاحات جريئة على جهاز القضاء وإصلاح الإدارة وتبني أسلوب الحكامة بربط المسؤولية بالمحاسبة تفاديا لأية ممارسات قد تؤدي بمؤسسة صندوق المقاصة إلى الخروج عن المقاصد المحددة لها . وترتيبا على ذلك يجب أن يرتكز الإصلاح على دعامتين أساسيتين الأولى تهم ترشيد نفقات المقاصة عن طريق حصر الغلاف المالي في نسبة معينة من الناتج الداخلي الإجمالي الوطني ، و تحسين نجاعة آليات الموازنة بمراجعة تركيبة أسعار المواد المدعمة و تحسين حكامة صندوق المقاصة وتفعيل أداء أجهزة المراقبة ، وتهم الدعامة الثانية تحسين استهداف الدعم ، عبر اعتماد خريطة جديدة للتوزيع الجغرافي للدقيق المدعم لإنصاف المناطق الفقيرة والمهمشة ، و تثبيت الأسعار على أكياس وعلب المواد المدعمة ، بالإضافة إلى العمل على استفادة الطبقات الفقيرة والمعوزة من دعم مادي مباشر شرط الالتزام بتمدرس الأطفال والانخراط في البرامج المتعلقة بصحة الأم والأطفال ومحاربة الهدر المدرسي الذي قدر أنه يهم حوالي 300 ألف تلميذ سنويا ، ولذلك فإن إصلاح صندوق المقاصة يتطلب التحلي بإرادة سياسية قوية لمعالجة الملف ، ووضع حد للوضعيات الريعية والشاذة الناتجة عن النظام الحالي لأسلوب الدعم والتصدي للوبيات المستفيدة منه ، ومع توفر الشجاعة السياسية يمكن مباشرة الإصلاحات المأمولة وفق تصور شمولي ومقاربة تدريجية ، بصيغة أخرى يجب رسم الأهداف والغايات المتوخاة ، وتحديد الفئات المستهدفة والمجالات والجهات المعنية بالدعم ومن ثمة الشروع في تنزيل ذلك بصفة تدريجية ، وبالإضافة إلى ذلك فإن نجاح الإصلاح يفرض بإلحاح إلزامية التفكير في إقرار آليات لاسترجاع أموال الدعم الموجه مبدئيا لدعم القدرة الشرائية للفئات الأقل يسرا أي إقرار آليات قانونية وإجرائية تجبر الأغنياء على إرجاع أموال المقاصة التي يستفيدون منها إلى خزينة الدولة على غرار ما هو معمول به في القضايا المتعلقة بالتهرب الضريبي حيث يخول القانون للإدارة مجموعة من الآليات والمساطر لمباشرة مسطرة المراقبة الجبائية وبالتالي تحصيل ما لم يتم التصريح به من طرف الملزمين والمقاولات وبالتالي استرجاع كافة المستحقات غير المصرح بها لفائدة الخزينة وهو ما سيمكن من النجاح في تخفيف الضغط على الميزانية العُمومية ومن المساهمة في الحفاظ على التوازن في المؤشرات الماكرو اقتصادية للدولة وإعادة هيكلتها بالشكل الذي سَيمَكنها من توفير الاعتمادات اللازمة للاستثمار عوض صرفها في دعم فئات الميسورين والشركات الكبرى . * أستاذ باحث في قانون الأعمال والمقاولات