على هامش الدورة الخامسة للقمة العالمية للتحديث في التعليم (وايز) التي ستنعقد بالعاصمة القطرية ما بين 29 و 31 أكتوبر الجاري، نشرت صحيفة «لوموند» الفرنسية ملحقا حول النظم التعليمية في العالم. ففي مقال تقديمي تم الحديث عن التطور الذي عرفته مكانة الأستاذ عبر التاريخ، و حول دوره المتغير عبر الزمن. كما تحدث مقال آخر عن تجربة رقمنة الدروس و اختراع «المدرسة الرخيصة» من أجل تعليم أوسع, بينما تحدث المقال الثالث عن الأستاذ كركن ركين في الأنظمة الناجحة عالميا سواء في فنلندا أو في سنغافورة. و تضمن الملحق حوارا مع الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي «إدغار موران» ننشر ترجمته كاملة نظرا لأهميته. كيف سيصبح أستاذ الغد؟ كيف سيتحول هذا الذي كان مربيا لتلميذ أو تلميذين قبل أن يصبح مواجها لمجموعة من التلاميذ تسمى قسما؟ كان الاعتقاد السائد هو أن هذه التجميعات العمرية، التي اخترعها الآباء اليسوعيون في القرن السادس عشر، و التي تسمى أقساما ستظل إلى الأبد على هذا الشكل، إلا أن تلامذة الشمال فروا من هذه الأقسام نحو معارف و طرق جديدة في الوقت الذي لا يجد فيه أطفال الجنوب مقاعد لهم في أقسام غير موجودة. في هذا السياق، ظهر التعليم الرقمي و فتح آفاقا جديدة. و مع ذلك ليطمئن الأستاذ، فالآلة لا تستطيع الحلول محله تماما، بل تجعله ضروريا أكثر من أي وقت مضى. فحينما أدخل الباحث الهندي «سوغاتا ميترا» الحواسيب رهن إشارة التلاميذ في قُرى بلده، جعلهم يعودون إلى المدرسة و إلى المواضبة. بيد أن مهمة الأستاذ ستتغير، فحسب»مارك برنسكي» الأمريكي الذي تحدث سنة 2001 عن «المواليد الرقميين»، فإن الأستاذ الجديد «لن تكون مهمته هي تدريس المواد للتلاميذ، بل تأطيرهم و تعليمهم الطرق التي تقودهم للحصول على المعارف من الأنترنت». أما في التعليم الجامعي فإن الدروس المفتوحة على الأنترنت هي التي ستغزو العالم غير معترفة بالمسافات. و هكذا فإن الأستاذ الجديد سيتم توظيفه بناء على كفاءاته الإنسانية و التواصلية و ليس فقط على مهاراته المعرفية، و هذا أمر لا يمكن للحاسوب أن يستعيره من الأستاذ، و بذلك فإن أي حاسوب لا يمكنه أن يعلم الاحترام و التعاطف الضروريين لبناء الإنسان النزيه للقرن الحادي و العشرين. الدرس في الآلة: و برقمنة المعارف، أصبح من الممكن جدا تقديمها بكلفة زهيدة، في بلدان الجنوب كما في بلدان الشمال. إذ أصبح بالإمكان تقديم درس واحد لعدة مدرجات في مختلف مناطق العالم في وقت واحد و من طرف محاضر واحد. و هذا المبدأ هو ما يسمى «بالتعليم الرخيص» و هو ما سمح مثلا لخمسين ألف تلميذ في كينيا للتعلم: فالجميع يقوم بنفس الشيء و في نفس الوقت انطلاقا من حواسيبهم، فالدرس في الآلة، فيما يقتصر دور الأستاذ على المساعدة على تلقي المعرفة و ليس تقديمها. ولدت فكرة هذه المدارس انطلاقا من حديث بين ثلاثة مناضلين أمريكيين من أجل التعليم للجميع و هم «دجي كيميلمان» و «شانون ماي» و «فيل فري». و لتحقيق هذا المشروع بدأوا إنجازه في كينيا. و لأن التكلفة تصل إلى 5 دولارات في الشهر عن كل تلميذ، فإن الهدف أي تخفيض كلفة التعليم قد تحقق. و قد تم اختيار كينيا لتطبيق هذه التجربة الرائدة، لأنها توجد على رأس قائمة الدول التي تعرف نقصا في التمدرس في العالم. غير أن هذه «المدرسة الرخيصة» ليست موجهة فقط للبلدان الفقيرة بل إن الاتجاه العام هو نشرها في جميع أرجاء العالم. و بالموازاة مع هذه التجربة هناك تجربة أخرى هي التي قام بها «سلمان خان» الرياضي الأمريكي الذي قدم حوالي 3 ملايير مشكل رياضي مع حلولها و بثها في الأنترنت مما أفاد الملايين من الطلبة عبر العالم. الأستاذ الركن الركين في النظام التعليمي: سواء في سنغفورة أو في فنلندا، و هما البلدان المعترف لهما بريادتهما و بجودة أنظمتهما التعليمية، فإن الاهتمام بالأستاذ و تكوينه هما الأولوية و الركن الركين في نظاميهما. فالنظام الفنلندي و هو الأول في العالم يعتمد أساسا على العنصر البشري المتمثل في الأستاذ، فهذا الأخير يتم توظيفه من ضمن الحاصلين على الماستر من أجل تكوين لمدة خمس سنوات على الأقل، و هو مسار لا يبلغه إلا واحد من كل عشرة من المرشحين لهذا المنصب. و في سنغافورة التي حصلت على استقلالها سنة 1965 و التي يعد نظامها التعليمي من بين الأفضل عالميا ، يتم الاعتماد أيضا على الأستاذ الذي يبدأ العمل من السابعة صباحا حتى الخامسة زوالا. و هو يخضع لتكوين مستمر يصل سنويا إلى مائة ساعة، و في المقابل يحظى الأستاذ بمكانة اجتماعية عالية و بمرتب شهري من أعلى المرتبات. كما أن المديرين في المدارس الفنلندية و السنغافورية لا تقتصر مهامهم على الإدارة بل إن دورهم شبيه بدور المدرب في الفرق الرياضية ، تكوينهم و حثهم على الامتياز. و بعيدا عن الركون إلى هذه النتائج و الاكتفاء بها، فإن الأنظمة التعليمية الناجحة عالميا تتعاون مع بعضها و تستلهم تجارب بعضها البعض و تتبادل الأساتذة من أجل تعليم أفضل و أفضل. السوسيولوجي الفرنسي إدغار موران: « كل تحديث تغييري كان أولا انحرافا عن المألوف « يُدافع الفيلسوف و عالم الاجتماع الفرنسي، مدير الأبحاث بالمركز الوطني للبحوث العلمية، «إدغار موران» في هذا الحوار الذي أجرته معه صحيفة لوموند الفرنسية، على ضرورة اتخاذ موقف من التعقيدات التي يعرفها التعليم. { ما هي مُهمة مُدرسي القرن الحادي و العشرين؟ إن المهمة الأساسية للتعليم هي إعدادنا للحياة، بيد أن ما ينقص النظام التعليمي، من الابتدائي حتى الجامعي، هو تزويد المتعلم بالمعلومات الحيوية. و هكذا، لا نُعَلم ما هو الكائن البشري: فالمعارف مشتتة و مُجزأة في العلوم الإنسانية و العلوم البيولوجية. فنحن مثلا ندرس الدماغ في البيولوجيا و النفس في السيكولوجيا، في حين أنهما أمر واحد. { أنتم تدعون إلى تزويد تلامذة الابتدائي بمعلومات عن الإبستيمولوجيا: ما هي المعرفة؟ إننا نقدم معارف دون تعليم ما هي المعرفة. فكل معرفة هي ترجمة لإعادة بناء دماغية، تتعرض للخطأ و للتوهم. و مع ذلك، فإننا نستهين بالخطأ في حيواتنا الخاصة و المواطنة. أي خطأ؟ ينبغي تعليم أن كل معرفة تتضمن حصة من الخطأ و التوهم. و هذا له معنى منذ المدرسة الابتدائية، حيث يمكننا القيام بذلك انطلاقا من أخطاء التلميذ. و على كل حال، فإني أعتبر أن المعلم في الابتدائي من خلال تعدد المعارف التي يُعلمها هو أكثر تقبلا لتداخل المعارف من أستاذ الثانوي أو الاستاذ الجامعي، الغَيور على سيادته التعليمية. لا نُعلم أيضا فهم الآخر و فهم الذات، و هو أمر حيوي أيضا. بإمكاني مواصلة ما ينبغي تدريسه مثل تعارض التوهمات أو العولمة... { إ نكم تصدرون أحكاما قاسية على التعليم الراهن... لا. فهو لا يقدم القدرة على معالجة مشاكلنا الأساسية و الشاملة، في حين أنه بإمكاننا الإستفادة من مكتسبات التخصصات و المعارف الضرورية. فالتخصصات ضرورية لكن انغلاقها ضار. فالفصل بين المعارف يخلق جهلا جديدا. و معرفة الربط بينها يتطلب معرفة تستجيب لتحديات تعقيدات عالمنا الاجتماعي و الكوني. { ما هي الوسيلة لتحفيز التلاميذ الواعين بهذه التعقيدات؟ لا يمكن للتلاميذ إلا أن يكونوا مهتمين بما يُدخلهم عالم الفيزياء و البيولوجيا، و بما يدفعهم لاكتشاف التعقيدات البشرية. وهكذا فالأدب لا يضم فقط الفن، لكن أيضا يضم معارف عن حيواتنا الذاتية و الملموسة. فالرواية لها سُمو على العلوم الإنسانية، التي تُلامس الواقع الإنساني بشكل مُجزأ و موضوعي خارج عن ذواتنا. الرواية هروب نحو المتخيل، و وسيلة كذلك لمعرفة الذاتية الإنسانية. فكما قال الكاتب الأرجنتيني الكبير إرنستو ساباتو : «الرواية اليوم هي المرصد الوحيد الذي بالإمكان مراقبة التجربة الإنسانية في مجملها من خلاله». { و كيف يمكن إطلاق مثل هذه الثورة؟ ينبغي الاستناد دوما على طليعة فاعلة. لا وجود أبدا لأي توافق يسبق التجديد. فنحن لا نتقدم من خلال رأي متوسط، بل نتقدم انطلاقا من شَغَف مُبدع. فكل تحديث تغييري كان أولا انحرافا عن المألوف. فالبوذية و المسيحية و الإسلام و العلوم العصرية و الاشتراكية، كلها بدأت كذلك، ثم شرعت في الانتشار و تحولت إلى تيار قبل أن تصبح قوة تاريخية. فنحن بحاجة إلى ثورة بيداغوجية مساويةلثورة الجامعة العصرية، التي رأت النور في برلين مع بداية القرن التاسع عشر. فهذه الجامعة المُعولمة اليوم، هي ما تحتاج إلى التثوير، بالحفاظ على مكاسبها و إدخال المعارف المعقدة لمشاكلنا الأساسية.