يروي مدير ثانوية فرنسية ما شاهده من تطورات عرفها النظام التربوي الفنلندي خلال رحلته إلى هناك، ويسجل انبهاره ويحاول الكشف عن أسرار نجاح المدرسة الفنلندية في القضاء على الفشل الدراسي بشكل مثير للإعجاب. بدأ التشوق لزيارة هذا البلد يقول السيد المدير، منذ أن اطلعت على نتائج الروائز الدولية (تقويم PISA 2000 و 2003 ) حيث احتلت فنلندة مراتب متفوقة عالميا وظل سر نجاح هذا البلد يراودني ولم استطع أن أجد جوابا لا من خلال القراءات المتعددة أو من خلال الحوارات مع المختصين. كانت هذه الرحلة سنة 2006، حيث شملت 18 مسؤولا تربويا قادمين من 14 دولة من النرويج إلى تركيا وكانوا كلهم يجمعهم الشوق لمعرفة الأسباب السحرية لنجاح تلاميذ هذا البلد وتفوقهم عالميا . برنامج الزيارة الذي أعده السيد “راتي”، مكننا من زيارة مؤسسات من مختلف المستويات كرياض الأطفال، مؤسسات ابتدائية،إعداديتان، ثانويتان تأهيليتان، ثانوية تقنية، الجامعة ومركز للتكوين المستمر، كما أتاحت لنا الفرصة لقاء مسؤولين محليين عن التربية أمثال السيدة “جانة بومالين” مديرة الشؤون الدولية في”بلدية جوئنسو” السيدة “تولة فيهونن” وغيرهم من المسؤولين، كما أتاحت لنا الفرصة لقاء مجموعة من الأساتذة والتلاميذ ورؤساء المؤسسات، ومع اكتشافنا العميق لخصوصية النظام التعليمي لفنلندا تكون لدينا إعجاب عميق بهذا النظام الساحر مما خلق لدينا الرغبة في نقل بعض أسرار هذا البلد إلى أوطاننا من خلال هذا التقرير . 1. فنلندة ونظام التقويم الدولي PISA/program for international student assessment خلفت نتائج التقويم الدولي سنة 2000 ارتياحا كبيرا في فنلندة، لأن هذا البلد الذي كان قد دشن إصلاحات منذ 30 سنة لم تتح له الفرصة للتعرف على النتائج الايجابية التي حققها في إطار مقارنة دولية واسعة مثل تقويمPISA، لقد حققت فنلندة المرتبة الأولى عالميا ضمن تصنيف 43 دولة مشاركة في”اختبارات القراءة” كما صنفت في المرتبة الثالثة في الرياضيات وفي المرتبة الثالثة في العلوم، وقد زاد هذا التحسن عندما شاركت في تقويمات سنة 2003 ونشرت الدولة تقريرا بعد ذلك كشفت فيه تحقيق تكافؤ الفرص بين الذكور والإناث، فاتضح للجميع أن الفوارق الاجتماعية هي الأقل تأثيرا مقارنة مع باقي الدول المتقدمة، بحيث أن ربع تلاميذ الطبقة الاجتماعية الأقل نموا اقتصاديا حصلت على نتائج أفضل من متوسط دول منظمة تنمية التعاون OCDE. وخلاصة القول كشفت الدراسات لتلك النتائج أن الفوارق الاجتماعية كما أشرت سابقا هي الأقل تأثيرا في التربية حيث تتيح هذه الأخيرة تصحيح تلك الفوارق بحكم تكافؤ الفرص الذي تحققه على ارض الواقع سواء على المستوى سوسيو- اقتصادي أو الجنسي. من هذا المنطلق يحق لنا أن نتساءل، كيف استطاع هذا البلد أن يقدم أجوبة لإشكالات أرهقت المسؤولين لعقود في كثير من الدول ومن ضمنهم فرنسا التي لم تتمكن من معالجة مثل هذه القضايا من خلال مشروع “الإعدادية الموحدة “collège unique حتى بعد مرور 30 سنة من انطلاق التجربة . 2. مفاتيح النجاح أولا : كل تلميذ يعتبر مهما عند إصلاح النظام التعليمي الفرنسي من خلال إصدار قانون التوجيه 1989 كان السؤال المحرج الذي يؤرق المسؤولين عند صياغة الإصلاح هو :”الأولوية لمن؟ التلميذ أم المعارف ؟ ” لقد تبنت فنلندا بدون تردد الاختيار الأول، بل أكثر من ذلك أدرك النظام التربوي أن الكشف والتعرف على الحاجات الحقيقية لكل تلميذ هو مفتاح نجاح التعليم، كما شكلت فكرة “إنماء تلميذ سعيد، حر، ينشأ حسب إيقاعه الفردي”، مبدءا أساسيا في توجيه العمل التربوي، كما جعلت فنلندا من احترام الفرد مبدءا موجها وراسخا في صنع القرار التربوي على جميع المستويات : الدولة، الجماعات المحلية، رؤساء المؤسسات، الأساتذة، ولقد تبنى كثير من رؤساء المؤسسات شعارا مفاده “أن كل تلميذ يعتبر مهما ” بيئة دافئة ومرحبة تعمل المدرسة الفنلندية على جعل المناخ داخل المؤسسة شبيها بالوسط المنزلي بحيث أن المدرسة تعتبر فضاء للحياة قبل كل شيء، فضاء متسعا (65 متر مربع) بالنسبة لقسم في الإعدادية، كما تشمل المدرسة أماكن متعددة ومختلفة للاستراحة، مع العلم انه يلاحظ انعدام أية مظاهر للتكسير أو التخريب مع الإشارة إلى المستوى الجيد للنظافة في مختلف المرافق. من جهة أخرى وجب التذكير أن عدد تلاميذ المؤسسة لا يتعدى 400 تلميذ على المستوى الإعدادي و500 بالنسبة للثانوية التأهيلية مما يخلق جو القرب ويمكن المدير من معرفة جميع التلاميذ فردا، فردا. بالنسبة لعلاقة الأساتذة مع التلاميذ فيطبعها الاحترام المتبادل واستعداد الأساتذة للتعاون والاستماع لتلامذتهم ومساعدتهم باستمرار، مما يكشف عن حب عميق يكنه الأساتذة لمؤسستهم، في هذا السياق ومن ضمن المؤشرات التي تعتمدها المؤسسة في تقويم أدائها هو جودة شعور التلاميذ بوجودهم داخل المؤسسة، ويشمل هذا الشعور الإحساس بالاطمئنان، لذلك نجد التلاميذ يضعون دراجاتهم النارية بدون إقفالها كما يضع التلاميذ ملابسهم الواقية من البرد في الممرات دون تخوف من السرقة؟ ولتوضيح مدى العناية بالطفل في المدرسة الفنلندية يكفي النظر إلى رياض الأطفال حيث لا يتعدى عددهم في كل قسم 12طفلا تسهر عليهم ثلاث مربيات ومساعدة واحدة. تكييف إيقاعات التعلمات مع الأطفال : لا يبدأ الأطفال تعلم القراءة إلا عند سن السابعة، قبل ذلك يتم التركيز فقط على تطوير الاستعداد والفضول والمهارات، يخصص كل يوم لمادة معينة :الموسيقى، الرياضة، أنشطة يدوية أو فنية، اللغة الأم، الرياضيات) وتتم عملية التحسيس صباحا، أما بعد الظهيرة فيخصص للعب. وباختصار شديد فان تنظيم التعلمات يتم بدون عنف، بدون ضغط نفسي، وبدون إكراه مبالغ فيه، مع العمل على إثارة الرغبة والتحفيز والاستماع الدائم لحاجات المتعلمين وبتنسيق دائم مع الآباء . من جهة أخرى يمنع القانون التكرار ويمكن السماح به بشكل استثنائي بعد موافقة التلميذ والأسرة، في نفس الوقت يتميز النظام التعليمي بتوفره على نظام اليقظة الذي يمكن التلاميذ الذين يظهرون صعوبات في مادة دراسية ما من حصص للدعم مع تعيين إطار مساعد بالقسم لمساعدة هذه الفئة من التلاميذ. إن المدرسة الفنلندية تحترم كثيرا الإيقاع البيولوجي للطفل بهدف تفادي أي إرهاق حتى حدود السن الإلزامي أي 16 سنة، بحيث إن حصة الدرس لا تتعدى 45 دقيقة مع تخصيص 15 دقيقة للاستراحة بين كل حصة وأخرى تمنح فيها حرية تامة للتلاميذ لاسترجاع أنفاسهم (استعمال الحاسوب، الجلوس بقاعة مخصصة للراحة، الحضور إلى الممرات، مناقشة حرة الخ) اكتشاف مبكر لاضطرابات التعلم والمساعدات الضرورية بهدف التكيف مع الحاجات الحقيقية للتلاميذ وضع النظام التربوي الفنلندي آليات للكشف عن الصعوبات التي يمكن أن تعترض المتعلمين، هكذا منذ رياض الأطفال يتم تمرير سلسلة من الروائز، وإذا ما تم كشف تلاميذ يعرفون صعوبات خاصة، فإنهم يوضعون في أقسام لا تتعدى خمسة أطفال ويشرف عليها أساتذة متخصصون، كما أن هذه الأقسام يتم دمجها في المدارس العادية ليتسنى لهذه الفئة من التلاميذ تعلم الاندماج. نسبة تأطير مرتفعة لا يتعدى عدد التلاميذ في القسم 25 تلميذا، وخلال الأشغال التطبيقية يمكن إحداث تفويج من 6 إلى 7 تلميذ، هذا بالإضافة إلى وجود مساعدين داخل الفصل يلجأ إليهم التلاميذ عند الحاجة، من جهة أخري تتوفر كل مؤسسة على موجه يتكفل ب200 تلميذ فقط حيث يتمكن من تقديم الإرشاد المستمر لهم كما يتعين على كل تلميذ الاتصال بالموجه مرتين في السنة، في هذا السياق تساءل احد المديرين الفرنسيين عن سر هذا التأطير الجيد الذي تفتقر إليه فرنسا فوجد الجواب في تقدم اللامركزية وعدم توفر جهاز التفتيش وتقليص حجم الإدارة المركزية وغير ذلك من الإجراءات التي مكنت من دعم المؤسسة التعليمية في وسائلها المادية والبشرية . تلاميذ نشطاء ومنخرطون خلال كل زياراتي التي قمت بها لمختلف المؤسسات، لم أشاهد ولو درسا واحدا يقوم على الإلقاء، لقد رأيت دائما تلاميذ يمارسون أنشطة فردية أو جماعية، رأيت أساتذة يعملون على تحفيز تلامذتهم أو ينتظرون مساعداتهم وبالتالي يعتبر الأستاذ كمورد من ضمن الموارد الأخرى، أما جدران الأقسام فكلها رفوف من كتب ومراجع ولا نجد قسما واحدا يخلو من التجهيزات : مسلاط، حاسوب، مسلاط الحاسوب، تلفاز، دفد. كل الوسائل التعليمية موضوعة رهن إشارة التلميذ “لكن دون إكراه بل يتحتم إعطاء فرص متعددة للتعلم واكتساب الكفايات” هكذا صرح لنا السيد “هانو نيومان” مدير “إعدادية بيلجوكي” وباختصار يتميز الفصل بروح تعاون عالية وكل واحد يساهم في بناء المعرفة بشكل جماعي . بعض الأمثلة : درس في اللغة الفنلندية (20 تلميذا في القسم، السن 14 سنة، دراسة نص أدبي من كتاب من القرن السابع عشر، الإخوة الثلاث) يذكر الأستاذ بفضل مسلاط تصميم الدرس بعد ذلك يطلب من التلاميذ قراءة فقرة من الكتاب ليقوم كل واحد منهم بعرضه على زملائه : يقوم التلاميذ ليأخذوا الكتاب من الرفوف ويبدؤون في العمل بهدوء قبل أن يتفضلوا بتقديم العرض بالتناوب أمام زملائهم . درس في الانجليزية : يقوم تلميذ بتقديم عرض حول موضوع “سكييت “skate ويستعين بلوحة التزلج التي قام بإحضارها لهذا الغرض، بعد ذلك يعرض شريطا بالفيديو يظهر كثيرا من الحركات البهلوانية، عند نهاية العرض يصفق التلاميذ تشجيعا لزميلهم وتبدأ المناقشة حول الموضوع. درس في التاريخ :عشرون تلميذا جالسون في قاعة للرياضة يتابعون عرضا مجسدا لحادثة تاريخية خلال الحرب العالمية بين الصرب والكروات، بعد ذلك يقدم الأستاذ توجيهات ليطلب من التلاميذ انجاز أعمال في مجموعات،هكذا يعلق السيد المدير الفرنسي على هذا الواقع:”فعلا، إننا نعرف منذ مدة الطرق التربوية النشيطة في فرنسا لكن لا يمكن التأكيد أنه تم تعميمها بالكامل. في الواقع كم هي عدد الدروس التي تقدم في شكل محاضرات تقليدية من طرف الأستاذ. إن منطق التعليم في فنلندة يقوم بالأساس على مبدأ مساعدة التلميذ على التعلم، ودور الأستاذ هو التنظيم والمساعدة، في هذا السياق يمكن أن نقرأ في دليل كلية علوم التربية في فصل معنون : ماذا يقوم به الأستاذ الجيد “إذا كان المطلوب من الأستاذ التمكن من المضمون الدراسي، فما هو منتظر منه، هو خلق وضعيات تعلمية متنوعة ومحفزة في مناخ يطبعه التسامح والاحترام بعيدا عن ممارسة السلطة ” تأطير حرية الاختيار من ضمن مبادئ النظام التربوي الفنلندي الهامش الواسع من الحرية الذي يمنح للتلاميذ وتتطور هذه الحرية حسب درجة نضجهم كما يتميز المنهاج الدراسي بكثير من المواد الاختيارية ويتنوع حسب السلك، ويمكن هذا الاختيار، على التربية على المسؤولية، حيث يصل الحد بالنظام إلى تمكين التلاميذ من بناء المنهاج الذي يناسب كل واحد حسب اختياراته وتوجيهه وعلى سبيل المثال، من ضمن 75 وحدة دراسية التي تشكل مقرر السلك الثانوي، 45 منها، هي ملزمة والباقي اختياري، من جهة أخرى يمكن لكل ثانوية أن تطور توجها خاصا بها إلى جانب النواة الصلبة من المنهاج الوطني، هكذا نجد مؤسسات تطور تدريس العلوم أو الموسيقى أكثر من أخرى، كما يمكن لبعض المؤسسات اقتراح دروس في خلق المقاولات قد تتيح فرص حقيقية للإنجاز في بعض الحالات مما لا يستثني فرص الربح المادي أحيانا، هكذا يمكن اعتبار الاستقلالية الواسعة التي يتمتع بها التلاميذ في فنلندا من عوامل النجاح والتأهيل لضمان استمرارية الدراسة في التعليم العالي خلافا لما هو عليه الأمر في فرنسا حيث نسب الفشل في السنة الأولى الجامعية جد مرتفعة . تقويم يقوم على أساس التحفيز كيف يتم تنقيط التلاميذ ؟ وكيف يتم تقويمهم ؟ إلى حدود سن التاسعة لا يتم تنقيط التلاميذ إطلاقا، وابتداء من تلك السن يتم تقويمهم دون وضع النقط إلى حدود السن الحادية عشر، ليتسنى اكتساب المعارف بدون الإجهاد المرتبط بالمراقبة، هكذا يمكن لكل طفل أن يتقدم حسب إمكانياته الفردية بدون تراكم الضغط الذي يفرضه المعيار الجهوي مما قد يخلق عواطف وأحاسيس بالنقص قد تؤثر عليه في مساره الجامعي. لقد اختارت فنلندا الثقة في الفضول والعطش في التعلم عند التلاميذ، في هذا السياق يتم إخبار الأسرة بالتقدم المستمر لأطفالهم. عند بلوغ سن الثالثة عشرة ينقط التلاميذ من 4 إلى 10 خلافا لما هو عليه الأمر في فرنسا، كما يمنع منح الصفر للتلميذ، وباختصار فان التقويم في النظام الفنلندي يقوم على أساس تثمين المكتسبات عند المتعلم بدل إبراز نقائصه وكما لخص ذلك احد المديرين فان المهم هو إبراز الإحساس لدى المتعلم انه جيد في مجال ما وبذلك يكون التقويم قد فقد طابع التنافس والإكراه بل حول إلى عامل تحفيز في وضعية مرنة ومتكيفة مع خصوصيات كل متعلم مع إتاحة مكانة للتقويم الذاتي . ثانيا :أساتذة خبراء مهنة ذات قيمة تحتل مهنة التدريس في فنلندا مكانة مرموقة ليس بارتباطها بالأجر المخصص للمهنة الذي هو في واقع الأمر لا يزيد عن متوسط الدول الأوروبية بقدر ما يحظى بالأهمية التي يوليها البلد والمجتمع للشأن التربوي، نظرا لحب المهنة الذي يتميز به المدرسون في هذا البلد وهو ما تكشف عليه الدراسات الاستكشافية انتقاء يقوم على أساس شروط دقيقة لا يعتمد التوظيف في مهنة التدريس على القدرات المتعلقة بالمعرفة الخاصة بالمادة بقدر ما يتعلق الأمر بفكرة المرشح على المهنة ومعرفته بالطفل،ولا يسمح بالترشح لهذا العمل إلا بعد قضاء ثلاث سنوات كمساعد (ة) تربوي للدخول إلى كلية علوم التربية بعد الخضوع لمقابلات و روائز تدوم يومان، فعلى سبيل المثال،من ضمن 1200 مرشح يتم انتقاء 300 أستاذ (ة) سيتم انتقاء80 منهم. من جهة أخرى لا تعرف فنلندا حركة وطنية للمدرسين أو جهوية أو إقليمية، بل الأمر مخصص للبلديات التي تمتلك حق التوظيف بالتقاسم مع مديري المؤسسات التعليمية الذين يشاركون في لجنة انتقاء الموظفين وفي النهاية فان المدرسين يتقاضون الأجرة من طرف المؤسسات التعليمية التي تتلقى الميزانية من طرف البلديات وهو ما يكشف عن مستوى جد متقدم في استقلالية المؤسسات في اتخاذ قراراتها بمختلف ألوانها. تكوين أساسي معمق جميع الأساتذة يمتلكون شهادة الماستر، هكذا فجامعة جونسو مثلا تحتضن مدرسة وإعدادية وثانوية تمكن من انجاز تداريب تتراوح مدتها بين شهرين إلى ستة اشهر وقت العمل معتدل براتب شهري من “الفين اورو” يقوم المدرس بانجاز عشرين حصة من 45 دقيقة مع إضافة أعمال تكميلية كحراسة الأطفال في الاستراحة، المشاركة في أعمال مشتركة كما يمكن للأساتذة القيام بزيارات للتلاميذ عند محل سكناهم . وسائل مادية متوفرة بكفاية في الثانوية التطبيقية لجامعة جونسو تكشف الزيارة عن توفير جميع الأجهزة الحديثة التي يمكن للمدرس أن يحتاج إليها كما أن كل جناح يشمل مكتبة متخصصة وكل أستاذ يمتلك مكتبا خاصا به . حرية بيداغوجية كاملة جميع الأساتذة الذين تم الالتقاء بهم عبروا عن درجة عالية من الرضا عن عملهم، لم أجد أساتذة متذمرين من عملهم، بل أناس يغمرهم الفرح بانتمائهم إلى قطاع التعليم، “إنني أحب مهنتي لأنني أنجز الأشياء كما أريد وعلى طريقتي الخاصة” هكذا صرح احد الأساتذة الذين يعملون في “مدرسة كننفالا” كما صرحت مديرة مدرسة جوانسو “إننا نثق في أساتذتنا لأنهم أساتذة أكفاء” بالإضافة إلى أن المنظومة في غنى عن التفتيش التربوي بسبب التطور الذي وصل إليه النظام التربوي . ارتباط دائم مع الجامعة بعد تخرج الأساتذة من الجامعة يستمرون في علاقة وطيدة بها، كما يساهمون في تكوين زملائهم الجدد ويمكنهم تقديم دروس بالجامعة كما يتم استشارتهم باستمرار بشان البرامج الدراسية التي يمكن،محليا، أن يدخلوا عليها التعديلات التي يرونها ملائمة لها بتوافق مع رئيس المؤسسة والمسؤولين المحليين عن التربية . تكوين مستمر هادف يشارك الأساتذة في دورات منتظمة للتكوين المستمر ويمكن لرؤساء المؤسسات تحسيس الأساتذة بأهمية مواضيع معينة لكن في جميع الحالات لا يتم التكوين من باب الإلزام بل في سياق التفاوض والحوار . ثالثا : التقويم كرافعة للتغيير: منظومة في تطور مستمر كيف وصل الفنلننديون إلى ما وصلوا إليه ؟ هل هذا الوضع نتيجة لتطور مستمر ام نتيجة إصلاح شامل؟ ما هو مؤكد أن الوضع لم يكن كما هو عليه اليوم . “منذ 30 سنة كان الوضع قاسيا ولم يكن التلاميذ في مستوى الانضباط أو التحفيز الحاليين، لقد تغيرنا بالتدريج وعلى مراحل، واليوم يهمنا كثيرا أن يتعلم أبناؤنا المسؤولية” هكذا تصرح “السيدة سركي بي” أستاذة اللغة الانجليزية انه جدير بالاهتمام أن يلاحظ كيف تطور النظام التعليمي في فنلندا بنجاح وبتدرج حكيم بدون رجوع إلى الوراء بتتبع خط تطور منسجم وتشاور دائم بعيدا عن التغيرات السياسية التي قد تنتج من فترة إلى أخرى. بدأت مرحلة الإصلاح الأولى منذ السبعينات، قبل ذلك كان الوضع يتميز بالانتقاء بعد نهاية السلك الابتدائي حيث وجود ثلاثة شعب :الشعبة التقليدية، التكنلوجية وما قبل المهنية وهذا الوضع شبيه بالوضع الفرنسي آن ذاك ولقد تزامن قرار توحيد الشعب بالنسبة للتعليم الأساسي الإجباري مع مشروع خلق الإعدادية الموحدة collège unique، في تلك المرحلة قررت فنلندا إحداث لامركزية موسعة بمنح البلديات صلاحيات واسعة في مجال التربية مع ترك البرامج ضمن صلاحية الدولة. منذ سنة 1985 بدأ يتم حذف المجموعات ذات المستوى الواحد لصالح الاختلاط المطلق هكذا تم ضمان متابعة الدراسة بعد التعليم الأساسي للجميع، في هذه المرحلة سيتم تطوير اللامركزية بمنح البلديات صلاحيات جديدة لإعطاء توجهات جديدة لتكمل التوجهات المركزية (البرنامج الوطني)، بعد عشر سنوات سيزيد تعميق صلاحيات البلديات والمؤسسات التعليمية، هكذا ستبدأ البلديات في توزيع الميزانية على المؤسسات التعليمية كما أصبح الأساتذة مرتبطون بالبلديات فيما يتعلق بتوظيفهم وأداء رواتبهم، وفي سنة 1998 سيتم تبني قانون جديد يضع مبادئ وقواعد التعليم الأساسي ولا زال هذا النص يطبق إلى يومنا هذا . التقويم ضرورة ملزمة بالقانون ويحتم القانون المذكور المؤسسات التعليمية على انجاز تقويمات منتظمة تهم السير العام ونتائج المؤسسة والتي يتعين نشرها للعموم كما تقوم البلديات بإجراء تقويمات خارجية، وتخضع الثانويات لنفس الالتزامات كما عليها تبني نظام للتقويم الذي يعرض على السلطة المحلية، هكذا يضع رهن إشارة التلاميذ استمارة عبر شبكة الانترنت التي يقوم التلاميذ بملئها بكل حرية، إن هذه الممارسة تقوم على أساس أن التلاميذ والآباء هم المستهلكون للشأن التربوي وبالتالي لابد من مراعاة مواقفهم . خلاصة :الدرس الفنلنندي أو هل يمكن تصدير النموذج الفنلنندي ؟ أمام نجاح هذا النموذج التربوي يحق لنا جميعا أن نتساءل عن إمكانية تصديره إلى بلدان أخرى ؟ انه من باب الإنصاف أن نعترف أن هذا النظام يعطي قيمة كبرى للفرد في بلد قليل السكان وشاسع الأطراف حيث تشتت الساكنة يلزم كل واحد أن يتعلم كيف يبني حياته والتكيف مع الظروف الصعبة اللغة الفنلندية هي بدورها في غاية التعقيد كما يتميز هذا النظام بحرصه الشديد على القيم الأخلاقية والدينية بجانب درجة عالية من التسامح، كل هذا من اجل عدم اختناق الفرد بل لمساعدته على تطوير نفسه حرص النظام على زرع أخلاقيات الحياة الاجتماعية كالنزاهة والجدية والثقة إن نجاح التربية في فنلندا يعود بالأساس إلى جعل تنمية الفرد من المكونات الأساسية لجميع المشاريع، ويضيف السيد المدير قائلا: يبدو لي انه من الأفيد أن نعيد النظر في نظام التقويم في فرنسا وأن نزيل عنه طابع الإجهاد والإكراه وانه لمن الخطأ أن نستمر في الاعتقاد أن الطفل يتعلم من اجل النقط فقط. إدخال مزيد من الليونة في برامجنا واختيارات عديدة لتلامذتنا مع منح التلاميذ مزيدا من الحرية في بناء برامجهم الدراسية خلق مناخ أكثر حرارة يتميز بعلاقات الثقة والتعاون وهذا لن يفقد الأساتذة سلطتهم تركيز النفقات على ما يعود على التلاميذ بالنفع بالدرجة الأولى نسبة تأطير جد مرتفعة الاستغناء على بعض المناصب مثل التفتيش والحياة المدرسية إثبات منافع اللامركزية بالنسبة للبلديات والمؤسسات التعليمية إن قراءة تجربة الإصلاح التربوي في فنلندا توحي بكثير من المبادئ التي كثيرا ما تحدثنا عنها في الميثاق الوطني للتربية والتكوين والبرنامج الاستعجالي لكن في تقديري الشخصي بالنسبة لتجربتنا، يمكن القول إننا تكلمنا كثيرا وطبقنا القليل، بل أكثر من ذلك، كان تصورنا للإصلاح مطبوعا بكثير من الحوادث بسبب عدم ضبط قواعد العمل وعدم قناعة كثير من المتدخلين بأدوارهم بحكم ضبابية التعاقد وضعف الالتزام مما جعلنا نقف حيث نحن اليوم واقفون لنعلن من جديد إننا في حاجة إلى إصلاح جديد مما يكشف عن ضعف التراكم، من هنا يمكن الوصول إلى بعض الخلاصات التي تستحق إعادة طرح التساؤلات بشأن تجربتنا الإصلاحية وتهم كثيرا من المجالات والأسئلة التي تحتاج متابعة البحث والتدقيق: 1. أي قيمة ومكانة للمتعلم في مدرستنا العمومية ؟ 2. كيف يمكن تطوير هامش المناورة واتخاذ القرار على المستوى المحلي (اللامركزية) ؟ 3. المنهاج الافتراضي والواقعي وعلاقته بقدرات المتعلم 4. المواد الإلزامية والاختيارية، التعديل الممكن 5. مكانة الفشل الدراسي في تصورنا العام للتربية 6. دور التقويم في النظام التربوي 7. توظيف الموارد بالنسبة للتلميذ 8. كيفية توظيف المدرسين ومعايير الانتقاء 9. التكوين المستمر بين الإكراه والاختيار 10. أدوار الإدارة التربوية 11. كيف يمكن مراجعة العلاقة التربوية في المنظومة التربوية 12. درجة الرضا عن العمل عند المدرسين 13. العلاقة بين الجامعة والمدرسين 14. فلسفة الإصلاح القائمة على الاستمرارية والتطور المستمر بغض النظر عن التغيير السياسي 15. حجم الإدارة المركزية والجهوية /الإدارة المحلية إن التمعن في تجربة فنلندا يمكننا من الوعي بالمسافة التي تفصلنا عن قدرتنا على تطبيق المبادئ العامة للتربية الحديثة على أرض الواقع، و التي تجعل من الإنسان الرأسمال الحقيقي والفاعل الأساسي في بناء التقدم الحضاري للأمة ومن ثم يبقى مشروع الرقي بالبناء الديمقراطي مدخلا أساسيا للوصول إلى تحقيق الحكامة التربوية التي ننشدها جميعا وذلك بتطوير اللامركزية واستثمار مكتسبات الدستور الجديد لوضع مشروع استراتيجي إصلاحي يكون نتاج عمل جماعي وتعاقد اجتماعي على أساس مبادئ الحق والواجب لتدارك الوقت الضائع. بقلم :بول روبرت ترجمة بتصرف/ أ. عبد اللطيف امحمد خطابي * مشاركة * * Tweet * التربية في فنلندا