لم يكن عمره يتجاوز 16 سنة وأشهر معدودة، حين حمل حقيبته وتوجه إلى أحد مكاتب تسجيل المتطوعين للمشاركة في المسيرة الخضراء نحو الأقاليم الصحراوية. قاوم بوشعيب الوازني موقف أسرته وخاصة والدته الرافض لقرار اتخذه عن قناعة كما يقول، حبا في بلده ووطنه، وجد نفسه أمام موظف مكلف بالتسجيل.. وكانت الحكاية، حكاية رحلة ليست كباقي الرحلات والأسفار.. مرت 38 سنة على حدث المسيرة، هل تتذكر بعض التفاصيل وبعض الصور؟ طبعا، ما تزال ذاكرتي تختزل كل تلك الصور الرائعة ونحن نتوجه بعزيمة قوية نحو المجهول، نعم الصحراء كانت بالنسبة لنا عالما مجهولا لم نكن نعرف عنه أي شيء، المهم كان عندنا هو تلبية نداء الوطن والملك، اقتناعنا أن ذلك العالم المجهول الذي لا نعرف عنه شيء هو جزء من تراب مغتصب وحان وقت استرجاعه. كنت سعيدا جدا وأنا ألج مكتب التسجيل، كنت أشعر أنني ذاهب رفقة جنود أوفياء لوطنهم لنصرة قضية البلاد، لكن صدمتي كانت كبيرة وموظف التسجيل يسألني عن بطاقتي الشخصية للتأكد من سني، بعد أن لاحظ أنني صغير السن. وقتها، لم أعرف كيف تدبرت أمري واختلقت عذر عدم توفري على البطاقة التعريفية وبأن سني يقارب العشرين .. وكانت المفاجأة الترخيص لي بالانضمام للائحة المرشحين للمشاركة في المسيرة. في أية مدينة قمت بتسجيل اسمك في لائحة المشاركين؟ وكيف كان رد أسرتك ووالديك؟ سجلت اسمي في مدينة بنسليمان حيث كنت أقطن رفقة أسرتي، والحقيقة أنني عدت ذلك اليوم وأنا منتش وفرح، فمنذ الإعلان عن تنظيم مسيرة لاسترجاع جزء من تراب بلدي، وأنا أحلم بالمشاركة فيها وتدوين اسمي كواحد من جنود المغرب الذين لم يكن يقلقهم أو يؤثر فيهم كل الإشاعات التي نشرتها إسبانيا حول مخاطر يمكن أن تعترض القافلة المتجهة نحو الجنوب. لم أكن وقتها أدرك كيف تملكتني الشجاعة والعزيمة ولم أشعر أبدا بأي خوف من ركوب سفينة المغامرة. في المنزل، صارحت أسرتي بنيتي في الذهاب إلى الصحراء، وأكدت لهم أنني قمت بالفعل بالتسجيل في قوائم المشاركين في المسيرة، طبعا رفضت الوالدة رفضا قاطعا لخوفها من أن أتعرض لأي مكروه خاصة أنها كانت ترى في ابنها صغير السن الذي لا يزال غير مدرك لعواقب الأمور. لكني نجحت في إقناع كل الأسرة، أو ربما هم تنازلوا عن موقفهم وتراجعوا عن قرار رفضهم بعدما أدركوا قوة عزيمتي وإصراري على الذهاب إلى الصحراء. كنت ماتزال تتابع حينها الدراسة أو كنت تشتغل؟ كنت قد غادرت أقسام الدراسة قبل ذلك بفترة طويلة، وولجت عالم الشغل عبر التجارة في الخضر والفواكه. في موعد الانطلاقة من بنسليمان نحو الصحراء، كيف كانت الأجواء؟ وأية وسيلة نقل اعتمدتوها؟ أذكر أنه كان يوما تاريخيا ليس بالنسبة لي فقط أو للمشاركين في المسيرة، بل بالنسبة لكل سكان المدينة.. فقد تجمهر الناس بأعداد كبيرة وكأنه مهرجان أو مظاهرة ونحن نستقل الحافلات.. كانت لحظات مؤثرة جدا أقاربنا وأسرنا والجيران والأصدقاء وحتى أناس لم نكن نعرفهم أو تجمعنا علاقة بهم، الجميع حضر لتوديعنا.. زغاريد وهتافات ودموع أيضا. قطعنا المسافة بين بنسليمان وطرفاية بالجنوب في خمسة أيام، فقد أصيبت الشاحنة التي كنا نستقلها بعطب في الطريق بين سطات ومراكش، واستدعى إصلاحها يومين بالتمام والكمال. واجهنا في الواقع بعض الصعوبات في الطريق، لكن تضامننا وتكافلنا كان يهون علينا كل المصاعب، خاصة بالنسبة لي كأصغر المسافرين حيث كنت أحظى برعاية خاصة من لدن الجميع. تغذيتنا كانت تقتصر على الخبز وعلب السردين وبعض التمر والماء، وبعض الفواكه من حين لآخر. وصلتم إلى مدينة طرفاية، كيف كانت الأجواء وكم لبثتم فيها؟ حولنا طرفاية كمخيم كبير، وكانت كل الوفود ملتئمة ومجتمعة وانخرط معنا سكان طرفاية وأصبحنا كلحمة واحدة.. خلقنا صداقات وعلاقات كثيرة، بل أصبحنا كأسرة واحد لا فرق بين العروبي والأمازيغي والفاسي والريفي والوجدي.. كنا كلنا مغاربة أداروا ظهورهم لكل شيء وصوبوا وجهاتهم نحو هدف واحد هو الوصول إلى الصحراء واسترجاعها وتحريرها. مكثنا في طرفاية قرابة شهر من الأيام قبل أن تأتي التعليمات بالانطلاق مجددا. لا أخفيكم أن التفرة التي قضيناها في طرفاية كانت استثنائية، كانت جميلة بأحداثها وسهراتها الليلية، ورائعة بأجواء الاستعدادات والتحضيرات والمواقف والمشاهد.. كم من الحكايات رأت النور هناك، وكم من علاقات إنسانية خلقت بين الوفود المجتمعة، كنت الأصغر سنا، وكنت أتابع ما يحدث وكأني في حجرة للدراسة، أتعلم كل يوم معنى الوطنية، أكتشف كل يوم عادات وتقاليد هذه الجهة من المغرب أو أخرى عبر ممثليهم في المخيم.. ولما حانت ساعة الانطلاقة، شعرت بإحساس فريد ماتزال دمائي وعروقي تتذكره، لقد كنا على موعد مع التاريخ، إما تحرير البلاد، وإما الاستشهاد. كنت فخورا أتسابق وأهرول كي أكون في المقدمة.. هي لحظات لن تنس ولن تمح من الذاكرة ونحن نطأ بأقدامنا أرض منطقة الطاح .. كان الانتصار لعزيمتنا وقوة إرادتنا. عدتم من المسيرة، كيف كان الاستقبال؟ أجل عدنا، ولكن بدموع الفراق والابتعاد عن بعضننا البعض نحن رفاق الرحلة والمسيرة.. عدنا ونحن نشعر بالفخر ولما لا فقد ساهمنا في استقلال جزء من وطننا. كانت الاحتفالية في مدينتي بنسليمان، تلقيت التهاني من الجميع من أسرتي من أعيان المدينة، من الأصدقاء والمعارف، عدت بطلا في بلدتي. وبعد؟ عدت لأجواء العمل، كونت أسرة وأصبح لدي أربعة أبناء.. ونادرا ما ألتقي شخصا شاركني ملحمة المسيرة، وحتى السلطات لم تعد تتذكرنا.. العديد من الأشخاص يتحدثون عن حدث المسيرة، وقليل منهم يستحضر شبابا انطلقوا في مغامرة بسلاح واحد هو حب الوطن. اخترت العيش حاليا في كندا؟ في كندا، أعيش لكنني سأعود للمغرب للعودة للاستقرار فيه نهائيا. وفي كندا، يحب أصدقائي الكنديين الاستماع إلي وأنا أحكي لهم عن المسيرة الخضراء.. في كندا يلقبونني ببطل الصحراء. هل ندمت على تطوعك للمشاركة في المسيرة الخضراء؟ أبدا أنا أؤكد لك أنني أفتخر بمشاركتي فيها، وأشعر بالتقدير وأنا أعيد حكايتي لأبنائي، وألاحظ أنهم يشعرون بدورهم بالافتخار تجاه والدهم. وبكل صدق، لو فتح الباب مرة أخرى للذهاب لصحرائنا في مسيرة أخرى، سأكون أول المتطوعين.