ما الذي يمكن أن نهديه للمهدي بن بركة وهو في الغياب؟ أكبر من الحقيقة لا يوجد شيء يمكن إهداؤه إياه.. غير الوطن. وهو قد أهداه إلينا من قبل، بعد نضال مرير، حرا وسيدا منيعا وقويا.. كما تقول عادة كلمات العزاء. لكن أقل من الحقيقة في وفاته يمكن أن نهديه حقائق، لا شك أنه يراها من مكانه في الأبد: السياسة الوحيدة الحقيقية لازالت هي سياسة الحقيقة، ومن المقرف أن الذين لا يشعرون بذلك، يتحكمون أحيانا في قوت الناس، وقوت الشعوب. ويبدأون حكومتهم بالوعود وينهونها بالنحيب. لأنهم ذات يوم عندما قرأوك اعتبروك عدوا يجب أن يموت ثلاث مرات. أفكار الديموقراطية لم تعد تخيف أحدا، أيها المهدي. أصبحت قتال في كل معرض وفي كل خطابات الناس. وحتى في حفل العقيقة أو الزفاف. لم تعد مستوردة، فقد اكتشفوا أنها، بالذات، أصبحت جزءا من النعنعاع البلدي، وجزءا من حفلة الشاي، وخطا في الطربوش الوطني. وكانوا من قبل يرتعبون منها كمس من الشيطان الرجيم. أتذكر الحداثة أيها الشهيد؟ لقد أصبح الشيوخ يرددونها أكثر من البسملة، وأصبح الرجعيون يعتبرونها الزوجة الرابعة التي أحلها لهم الشرع القديم بعد الزوجة الأولى، والزوجة الثانية، وبعد زواج سريع من أجل مراسم التنصيب! الذين كانوا يخافون من الكونية، يقلمون بعض أظافرها قبل أن يصبغوها بآخر ألوان العصر. لم يعد شيء يخيفهم من الأشياء التي كانت تخيفهم فيك. شكرا لك. رغم مكر التاريخ وسعة صدر الحداثة. الذين قتلوك يتقزمون في التاريخ، وآخر أسلحتهم أنهم سارعوا إلى توظيف موظفين متقاعدين لعلهم يستطيعون النيل منك. كانوا ينتظرون أن تختفي، فاختفوا، هكذا، لا يمكن للجلادين أن يكونوا في قامة الشهداء. لا ظلال للقاتل، ولا اسم بعد أن يعود القتيل. «الرجعية» أصبحت تتحدث برطانة عصرية، نعم، لكنها مازالت لا تستطيع الصمود عندما تسلط عليها أضواؤك: ودمك، الذي أرادوه موزعا بين العواصم والقتلة والأجهزة المقيتة، مازال هو دم المغاربة.. والذي صار موزعا بين العواصم والدول، هو تراثك.. يصعب عليهم أن يصمدوا الآن للحقيقة، لهذا يطلقون عليها قطعان الذئاب البرية والبحرية والجوية وأحيانا كثيرة يصدقون الأعداء .. على أن يصدقوننا فيك.. أجيال كثيرة سقطت، لأن المهدي سقط في ليل العربدة الإجرامية الكبرى: اليوم يتحول يومه إلى يومهم جميعا. لعل أفضل الهدايا الآن أن يكون يومه ال 48 هو يوم الجميع والوفاء للجميع، وأكثر من ذلك، يوم لاستعادة التاريخ بكليته، تاريخ الدم المشترك في مسيرة طويلة، كأننا بدأناها من عهد الإنسان الأول... اسخر قليلا أيها الشهيد: اسخر من الفقمة التي اكتشفت أن لها كلمة في التاريخ، والموظف الذي عاش أفقيا، منذ ولدته أمه إلى أن مات سادته الكثر، فاكتشف أنه يمكن أن ينزل من الشجرة ويمشي على قدميه، إذا ما هو سَبَّكَ. اسخر قليلا، أيضا، من كل المحاولات لتغييب موتك بميتات أخرى متوهمة. إنهم يكذبون في القتل لكي لا تفضحهم حقيقة القتلى.. مازالت القوى الحية..لولا تشرذم يصيب القلب بعطب في النداء عليها. مازالت القوة العاملة، لولا صعوبة في التنفس في هواء فاسد له أسبابه.. مازالت قوى الشبيبة .. لولا عجز مؤقت في الواقع.. بدون هذه الهدايا لايمكن أن يكون الوفاء لك وفاء كبيرا، ولا الشهادة شهادة. إنهم ضروريون أيها البطل لكي نقيس المسافة بين الإنسان وبين .. لصوص اسمه! هذه المسيرة الطويلة، نعم ، لم تمنحنا هدايا، كما يقال،لكن الذي يمنحنا معنى لكل ما قدمناه هو أنك مازالت هدية الإنسية المغربية الكبرى لنا. وانظر إلى حيث تشير عيناي. وأكبر الهدايا هو أن يكون اسمك قرينا بالبلاد وبالفقراء وبالنخب المتنورة وباسم ما وصلنا إليه. لحد الساعة لك قبر في الأعالى، وغدا، لابد من غد في الشهادة وقبل كل قبر، سيكون قبر لك في الأرض، في جوارنا نحن البسطاء الأوفياء..