«يسعدني أن أرحب بكم في هذه الندوة الوطنية وأن أشكركم جزيل الشكر على تلبيتكم لدعوتنا، وعلى مساهمتكم معنا في هذه الجلسة الحوارية حول مستقبل التعليم في بلادنا. نلتقي اليوم مع أساتذة أجلاء وفاعلين تربويين ونشطاء نقابيين وجمعويين، من أجل إعادة فتح ملف التربية والتكوين ببلادنا، والتناظر الهادئ والهادف حول معيقات إصلاح منظومتنا التربوية وآفاق تطورها وتحديثها. ولعلنا نستحضر جميعا أننا نعقد ندوتنا هذه في سياق ظرفية سياسية متأزمة وأوضاع اقتصادية واجتماعية متفجرة، وأننا نلتقي اليوم من أجل تقاسم الأفكار والاجتهادات حول سبل إنقاذ منظومتنا التربوية، وأصداء الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الستين لثورة الملك والشعب لا زالت تتردد في أذهاننا، ولازالت تنبهنا الى أن أوضاعنا التعليمية أصبحت لا تطاق، وأنها أصبحت تستدعي تقويما عاجلا وعميقا لتحديد مكامن الضعف والاختلالات ، والتزاما نزيها باستثمار التراكمات الايجابية، وبالترفع عن التسييس الضيق للقضايا التربوية. أود أن أذكركم بهذه المناسبة, حضرات السيدات والسادة, أننا عندما أكدنا في مؤتمرنا الوطني التاسع على ضرورة إصلاح التعليم انطلاقا من أسئلة جديدة تراعي مقتضيات العصر، وانطلاقا من رؤية مندمجة تستجيب لحاجات التنمية الاقتصادية، وتعزز قيم المواطنة والعقل والحرية، وتستشرف ولوج مجتمع الحداثة والمعرفة، فإننا في نفس الوقت دعونا إلى تأسيس تعاقد جديد بين المنظومة التربوية والمجتمع المغربي، تعاقد يتأسس على ضمان تكافؤ الفرص، وعلى حماية الحق في تعليم جيد، وعلى إعادة تدقيق وظيفة المدرسة المغربية وتحديد مسؤوليات كافة شركائها. كما اعتبرنا أن تفعيل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي الذي أقره دستور 2011 باعتباره هيئة دستورية عليا، هو المؤهل لاحتضان حوار وطني حول إصلاح منظومة التربية والتكوين، وهو المؤهل دستوريا لبلورة المشاريع الاصلاحية وتقديم الآراء الاستشارية. ونحن إذ نستعد للمساهمة الايجابية والفعالة في هذا الحوار الذي سيدعو إليه المجلس الأعلى، فإننا في نفس الوقت نعتقد أن أفضل سبيل لضمان استمرارية المسارات الإصلاحية التي نبهنا إليها جلالة الملك، ولتأمين استقرار المشاريع التربوية البعيدة المدى، هو الخروج من منطق التوافق إلى سلطة التشريع. والحال أننا لا يمكن أن نستمر في تدبير الاستراتيجيات الإصلاحية لشأننا التربوي بمرجعيات توافقية عامة لا تلزم بالضرورة الفاعلين السياسيين، ولا تترتب عن خرقها أية مساءلة ذات صبغة قانونية أو مؤسساتية. نعم للحوار الوطني وللاستشارة الواسعة، نعم للتوافق حول التوجهات الإصلاحية الكبرى ، لكن لابد من ترجمة هذا التوافق إلى مقتضيات قانونية لتحصين المكتسبات، ولتوثيق التعاقدات، ولحماية الحقوق. نحن لا نحبذ أن تبقى إشكالية التربية والتكوين في بلادنا موضوع مجادلات ايديولوجية لاتنتهي ، وأن تظل القضايا التربوية عالقة ومجمدة بذريعة أن التوافق بشأنها لم يكتمل بعد، لأننا بذلك كفاعلين سياسيين سنرهن أجيالنا المستقبلية لعقود أخرى في انتظار حصول توافقات هشة غير ملزمة. ثم لا ننسى أن الدستور الجديد قد حسم في العديد من القضايا الشائكة كالهوية الوطنية واللغات والحقوق الواجبات، لذلك فقد آن الأوان في اعتقادنا لكي تتمتع منظومتنا الوطنية للتربية والتكوين بقانون إطار أو بمدونة قانونية تحدد التوجهات الكبرى والخيارات الاستراتيجية التي من شأنها تأطير السياسات التعليمية وتحديد وظيفة المدرسة ومكانة الجامعة، ودورهما في تعزيز التماسك الاجتماعي وتحقيق التنمية الاقتصادية. وفي ذلك يتعين أن نستلهم بكل شجاعة تجربة مدونة الأسرة التي رعى جلالة الملك توافق الأمة بشأنها، قبل أن يعرضها على المؤسسة التشريعية التي وضعت لها نصوصا قانونية في شكل مدونة شاملة ما أحوجنا اليوم الى مثلها في منظومتنا التربوية. في هذا السياق لابد أيضا أن نتذكر باعتزاز أن المنظومة التربوية والتعليمية ببلادنا حققت بعض المنجزات والمكتسبات خلال مسار الإصلاح التعليمي بالمغرب، وخاصة بعد صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي حظي بتوافق وطني، حيث تم إطلاق ورش بيداغوجي جديد، وتعزيز البنيات التحتية ووضع الهياكل المؤسسية والقانونية اللازمة لتدبير منظومتنا التربوية. كما لا يمكن إغفال المجهودات التي تم بذلها في إطار تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين خلال تدبير حزبنا لقطاع التعليم رغم محدودية الميزانية المخصصة لتحقيق أهداف الإصلاح، بالإضافة إلى الصعوبات التي اعترضت الإصلاح ميدانيا في بعض المواقع. ولعلكم جميعا تذكرون أن وزراء الاتحاد الاشتراكي كانوا سباقين إلى إطلاق ورش أجرأة الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وأن أخانا الحبيب المالكي بحكمته وبصيرته اتخذ قرارا شجاعا بإدماج تدريس الأمازيغية في المنظومة التربوية حتى قبل أن تصير لغة رسمية بحكم الدستور، وذلك عندما وقع اتفاقية الشراكة والتعاون مع السيد عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في 26 يونيو 2003، هذا فضلا عن منتديات الإصلاح التي جعل منها تمرينا سياسيا وبيداغوجيا رائعا في مجال الحوار والتشاور وتفعيل المقاربة التشاركية للنهوض بالمدرسة المغربية. لكننا ها نحن اليوم مع الأسف, نرى كيف أن منظومتنا التربويّة بعد كل هذه الجهود، تعاني من اختلالات بنيوية، تبرز خاصّة في الانقطاع المدرسي الذي يهدّد بالارتداد إلى الأميّة ، وكذلك في تدنّي جودة التعليم تحصيلا وتدريسا، وفي فشل المنظومة التربويّة على مستوى التنشئة الاجتماعيّة والتربية على القيم، وعجزها الحالي عن معالجة معضلة الهوّة التي تفصل مكوّناتها المختلفة عن سوق الشغل وواقع البلاد الاقتصادي والاجتماعي، ممّا يستوجب إصلاحا عميقا يستوعب ما تراكم من جهود الإصلاح والتحديث، ويجعل من التربيّة قاطرة التقدم وسبيل النهوض الحضاري على قاعدة مبدآ تكافؤ الفرص وديمقراطية التعليم . إننا نود أن نعلن اليوم من خلال هذه الندوة عن إرادة الاتحاد الاشتراكي واستعداده التام للانخراط في هذا الورش الوطني الهام الذي يخص تأهيل مدارسنا وجامعاتنا، ويخص مسار تنميتنا و مصير أجيالنا المستقبلية ، والذي لابد أن يفتح اليوم على مصراعيه بعد الخطاب الملكي لعشرين غشت، وبعد أن حاولت الحكومة الحالية بعناد مثير أن تدفع المدرسة المغربية الى حافة الانهيار، ولعلها في ذلك كانت تشعر أن وصول الإصلاح التربوي إلى مبتغاه التحديثي لن يخدم في الأمد البعيد المشروع الارتدادي لحزبها الأغلبي. لقد سعت هذه الحكومة إلى أن تجهض في ظرف وجيز ما تبقى من أمل الإصلاح، واستطاعت أن تزرع في جسم المنظومة التربوية كثيرا من الألغام و الأوهام ،و أن تقحم في هذا القطاع حالة وسواسية لاعلاقة لها بروح التربية والتعليم، واستطاعت أن تزج به في نمط غريب من التدبير الأخرق المتسلط ، العابث بالمكتسبات، والمستهتر بأبسط ضوابط الحكامة الجيدة في كل سياسة عمومية. ونحن عندما نتحمل مسؤوليتنا كاملة في ورش إنقاذ المدرسة المغربية، فإننا نتوخى أن يتجه هذا الورش نحو إعادة بناء حقيقية لمنظومتنا التربوية ، بما يجعلها مستجيبة لمتطلباتنا التنموية والحضارية، ومتلائمة مع التطورات التي تجري في مجتمعنا وفي العالم من حولنا، وبما يجعلها منظومة ذات جودة وجدوى، منظومة تؤسس لمدرسة مغربية في مستوى تطلعات الشعب المغربي، مدرسة منفتحة على محيطها ومعتزة بانتمائها الوطني. إننا من هذا المنطلق نرفض رفضا باتا أن يتم اختزال الشأن التعليمي ببلادنا الى مجرد تدبير وزاري لقطاع حكومي، أو تصريف حزبي لرهان سياسي. إننا نؤمن صادقين أن المدرسة المغربية هي شأن جميع المغاربة، وأن الشأن التربوي يخص الأمة المغربية بكل مكوناتها كل من موقعه وحدود مسؤولياته، وان الشعب المغربي يستحق مدرسة أفضل بكثير من هذه المدرسة التي توجد اليوم رهينة بين يدي رئيس الحكومة ووزيره المستعار المكلف بالتدبير المفوض. إننا واثقون أن هذه النخبة المتنورة التي تشرفنا اليوم بحضورها ومشاركتها، ستكون متوفقة في إغناء النقاش حول كافة المحاور والقضايا المطروحة في هذه الندوة. ونحن من جهتنا سنسهر على تدوين آرائكم ومقترحاتكم، حريصين في ذلك على استلهامها في اغناء تصور الاتحاد الاشتراكي بخصوص إصلاح منظومة التربية والتكوين ببلادنا.»