هناك حقيقة حول حرب العراق قلّما يعرفها الناس، يمكن أن تقول لنا الكثير عن إيجابيات وسلبيات التعاطي الدبلوماسي مع أسلحة سوريا الكيماوية؛ ذلك أن عمليات التفتيش التي أشرفت عليها الأممالمتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية، كانت أبعد ما تكون عن المهمة الفاشلة وغير المجدية التي سعت إدارة بوش للتقليل من أهميتها، بل حققت المهمة الدولية نجاحاً باهراً قلّ نظيره. فالقصة التي يتذكرها معظم الأمريكيين عن حرب العراق, أن صدّام لم يكن يمتلك أسلحة الدمار الشامل كما ادعى البيت الأبيض، والحال أن بغداد كانت بالفعل تملك تلك الأسلحة قبل أن يتدخل مفتشو الأممالمتحدة للعثور على مخابئها وتفكيك الجزء الأكبر منها قبل اندلاع الحرب. فعلى مدى سنوات طويلة امتدت من 1991 إلى 1998 اكتشفت اللجنة الأممية الخاصة، ومعها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مخابئ الأسلحة العراقية وقامت بتفكيك معظمها، إن لم يكن كلها، واستطاعت أيضاً الوصول إلى مرافق الإنتاج والتصنيع والتعامل معها، بل حتى برنامج الأسلحة البيولوجية الذي انطوى على قدر أكبر من السرية، تمكّن فريق المفتشين من العثور عليه بعد جهود مضنية. وامتد النجاح ليشمل جميع التعاقدات التي أجراها النظام في بغداد مع أكثر من 500 شركة موزعة على أزيد من 50 دولة، حيث تم كشفها واحدة تلو الأخرى. هذا بالإضافة إلى وضع آليات لاستيراد مواد تدخل في تصنيع الأسلحة غير التقليدية. وقبيل غزو العراق في عام 2003، وبينما كانت أجهزة الاستخبارات الأميركية ترتكب خطأها الكبير حول أسلحة الدمار الشامل، كان المفتشون الأمميون يعرفون جيداً أن أغلب تلك الأسلحة لم يبقَ لها وجود. وخلافاً لما يعتقده البعض، لم تكن عمليات التفتيش مجرد بحث عن إبرة في كومة قش، بل شملت إجراء مقابلات مطولة وبناء علاقات مع أشخاص مهمين، وتتبع الخيوط من شخص لآخر، ثم إجراء تحليلات تقنية، والتنقيب في السجلات، بالإضافة إلى مراقبة عمليات التصدير والاستيراد وفرض العقوبات... حيث ساهم كل ذلك في إنجاح مهمة التفتيش. ذلك النجاح يمكن تكراره أيضاً في الحالة السورية، إذا ما تعلّمنا من دروس العراق وتفادينا الأخطاء. ولعل أول ما يجب الانتباه له هو الحاجة إلى بناء توافق سياسي منذ البداية. فمع أن فريق المفتشين الذي أرسل للعراق كان يعاني من ضعف التمويل، لاسيما في السنوات الأولى، وعانى من اختراق جواسيس النظام العراقي، كما تعرض للإعاقة والعرقلة في الميدان، إلا أن نقطة الضعف الأكبر كانت في نيويورك، حيث نجح صدّام في ضرب القوى الكبرى بعضها ببعض، إلى أن أدى ذلك في نهاية المطاف إلى وقف مهمة التفتيش في عام 1998... وهو ما سيسعى نظام الأسد إلى القيام به في الحالة السورية، ما يحتم تشكيل جبهة موحدة في الأممالمتحدة تحول دون إغراق مهمة المفتشين بالتفاصيل وصرف الانتباه عن الهدف الأكبر. كما يتحتم أن يدرك الجميع بأن التوافق السياسي هو أهم من التكنولوجيا والمعدات التي تنشر على الأرض. هذا الهدف الذي يقول إن مهمة التفتيش الأممية تروم البحث عن الأسلحة الكيماوية في أفق تفكيكها وليس حل معضلة الحرب الأهلية الدائرة رحاها في سوريا. وفي إطار الأخطار والدروس، لابد أيضاً من تسهيل التواصل المتبادل بين فريق المفتشين وأجهزة الاستخبارات الدولية، بحيث يتعين حماية المعلومات المتحصل عليها ومنع إساءة استخدامها من قبل الحكومات وإبقاء قدر من التنسيق بشأن ما يتم التوصل إليه. ما زلنا نتذكر خطاب وزير الخارجية الأميركي، كولن باول، في مجلس الأمن الدولي عشية غزو العراق، وهو يشير إلى صور يقول إنها تظهر شاحنات تتعلق بأسلحة الدمار الشامل، بينما كان يصر المفتشون الذين زاروا المواقع العراقية أنها شاحنات لنقل المياه، ما يعني أن المحللين الأميركيين لم يطلعوا على كل ما جاء في تقارير المفتشين. تضاف إلى ذلك أيضاً مسألة التمويل، حيث يتعين تفادي النقص الكبير في التمويل، والذي عانت منه مهمة المفتشين في العراق. فعلى مدى السنوات السبع لعمل الفريق، تراوحت الميزانية بين 25 و30 مليون دولار، بينما الأموال التي أنفقها فريق التفتيش الأميركي خلال الشهور ال15 الأولى من الغزو الأميركي، تجاوزت 900 مليون دولار دون أن يجدوا شيئاً. ويبقى الخطأ الأكبر الذي يمكن الاستفادة منه هو عدم الاعتراف بنجاح مهمة فريق المفتشين الأممي والمضي قدماً في استحداث جهاز أممي خاص ودائم يقوم بعمليات التفتيش، ما يعني أنه في كل مرة يتعين البدء من الصفر بدل اللجوء إلى منظمة قائمة بذاتها تتمتع بالخبرة والكفاءة لإجراء عمليات التفتيش. ولا ننسَ أن جزءاً لا يستهان به من أسباب تردد الأميركيين في تأييد التدخل العسكري في سوريا، هو ذلك التباين بين ما يقوله أوباما عن خطورة الأسلحة السورية على الصعيد الدولي، وبين انخراط أميركا الأحادي في العملية. فلأن أسلحة الدمار الشمال تمس الأمن العالمي وتهم الدول جميعاً، لن تنجح مهمة التفتيش إذا ظل يُنظر إلى الأمر على أنه قضية أميركية. لذا تأتي الأزمة السورية اليوم لتمثل فرصة كبيرة. فلو نزع المجتمع الدولي أسلحة سوريا الكيماوية، ثم اعترف بالنجاح خلافا لما كان في العراق، ستتجاوز النتائج الإيجابية لذلك سوريا إلى عموم الشرق الأوسط. ومع أن عمل المفتشين في سوريا سيكون شاقاً وطويلا، وقد لا يتعاون نظام الأسد بسهولة كما لم يتعاون من قبله نظام صدّام، لكن طالما رُدع عن استخدام السلاح الكيماوي مرة أخرى مع استمرار جهود التفتيش، فلا داعي للعجلة، إذ الهدف ليس الحصول على نتائج مثالية، وهي في جميع الأحوال متعذرة حتى مع الضربة العسكرية، بل في طرح السؤال التالي: هل سيكون العالم أكثر أماناً لو فككت 90 في المئة من الترسانة السورية؟ بالطبع سيكون. جيسكا ماتيوس رئيسة معهد كارنيجي للسلام الدولي ينشر بترتيب خاص مع خدمة »واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس«