تأسيس المكتب المحلي للأطر المساعدة بمدينة سلا    ثلاث نقابات بوزارة التجهيز ترفض "تجميد" النظام الأساسي بدعوى الأولويات    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    ارتفاع الأثمان عند الإنتاج ب0,3% لقطاع الصناعات التحويلية    المعاملات الآسيوية تقلص خسائر الفضة    السعودية تؤكد أن أمنها الوطني خط أحمر وسط مطالب للقوات الإماراتية بمغادرة اليمن    كيوسك الثلاثاء | المغرب ضمن أفضل 20 دولة عالميا في مؤشر الحرية المالية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    تقرير رسمي: ربع سكان المغرب سيكونون من المسنين بحلول عام 2050    لجنة العدل تشرع في مناقشة مشروع قانون المسطرة المدنية    توقعات أحوال الطقس لليوم الثلاثاء    ثلاثة قتلى.. حصيلة فيضانات جنوب إسبانيا    "أجواء أكادير" تفرح الكرة المصرية    رسالة تهنئة من السفيرة الصينية يو جينسونغ إلى المغاربة بمناسبة عام 2026    مدرب منتخب تونس سامي الطرابلسي تحت الضغط في مواجهة تنزانيا بعد الخسارة أمام نيجيريا    حقيقة تعرض سجينة للتعذيب والاعتداء بسجن عين السبع 1    المغنية الأمريكية بيونسي على قائمة المليارديرات    احتجاجات التجار تقلق النظام في إيران    دفاع مستشار عمدة طنجة يطلب مهلة    ثلاثية مغربية في المرمى الزامبي.. "الأسود" يؤكدون جاهزيتهم للأدوار الإقصائية    الكعبي أفضل لاعب في لقاء زامبيا    صرف منحة استثنائية لفائدة أرامل ومتقاعدي الأمن الوطني    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الانخفاض    كان المغرب.. جنوب إفريقيا تفوز على زيمبابوي (3-2) وتتأهل إلى دور الثمن    إحداث أزيد من 35 ألف مقاولة بشكل رقمي    إذاعة فرنسا الدولية: المغرب وجهة مفضلة للمشجعين والسياح    أبو عبيدة.. رحيل ملثم أرّق إسرائيل طوال عقدين    اكتظاظ السجون يفجّر سجالاً حاداً بين وهبي والمعارضة داخل البرلمان    فتح الترشيح للجائزة الوطنية للقراءة    إنفانتينو: الفيفا تلقى 150 مليون طلب لشراء تذاكر كأس العالم في أسبوعين    السنغال تتطلع لضمان البقاء في طنجة    كأس إفريقيا.. الطرابلسي: "نسور قرطاج" تجاوزوا هزيمتهم أمام نيجيريا ويطمحون للفوز على تنزانيا    اللوائح الانتخابية الخاصة بالغرف المهنية الأجل المحدد لتقديم طلبات التسجيل سينتهي يوم 31 دجنبر    مونية لمكيمل وسامية العنطري تقودان الموسم الجديد من "جماعتنا زينة"    سعد لمجرد يلتقي جماهيره بالدار البيضاء    أمطار متفرقة وثلوج بالمرتفعات .. تفاصيل طقس الأيام المقبلة في المملكة    هبوط الذهب من مستويات قياسية والفضة تتراجع بعد تجاوزها أكثر من 80 دولارا    مرصد حماية المستهلك يندد باستغلال المقاهي لكأس إفريقيا لرفع الأسعار    ترامب يعلن إحراز "تقدم كبير" في سبيل إنهاء الحرب بأوكرانيا    القوات الروسية تعلن السيطرة الكاملة على بلدة ديبروفا في دونيتسك واسقاط صواريخ وطائرات مسيرة    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تعقد جمعها السنوي العادي    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    الصين تطلق مناورات عسكرية وتايوان ترد بالمثل    وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو عن 91 عاما    أمريكا تتعهد بتمويل مساعدات أممية    اتباتو يتتبع "تمرحل الفيلم الأمازيغي"        المهدي النائر.. ريشة تحيي الجدران وتحول الأسطح إلى لوحات تنبض بالجمال    روسيا ‬وجمهورية ‬الوهم ‬‮:‬علامة ‬تشوير جيوسياسي‮ ‬للقارة‮!‬    علماء روس يبتكرون مادة مسامية لتسريع شفاء العظام    علماء يبتكرون جهازا يكشف السرطان بدقة عالية    روسيا تبدأ أولى التجارب السريرية للقاح واعد ضد السرطان    الحق في المعلومة حق في القدسية!    وفق دراسة جديدة.. اضطراب الساعة البيولوجية قد يسرّع تطور مرض الزهايمر    جائزة الملك فيصل بالتعاون مع الرابطة المحمدية للعلماء تنظمان محاضرة علمية بعنوان: "أعلام الفقه المالكي والذاكرة المكانية من خلال علم الأطالس"    رهبة الكون تسحق غرور البشر    بلاغ بحمّى الكلام    فجيج في عيون وثائقها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الخاتمة على المقدمة22
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 04 - 09 - 2013

من الصعب تحديد المفكر المغربي محمد عابد الجابري في درج واحد من مكتبة ضخمة، ومن الصعب، كذلك، أن نقول إن مفكرنا يهتم بهذا المجال دون غيره، فهو بالجملة مفكر متعدد المجالات، لا نستطيع تحديد واحد منها دون الإشارة إلى الأخرى. لقد كتب في التراث، والفكر، والإبستيمولوجيا، والتربية، والسياسة، وغيرها.
إن هذا التعدُّد في الاهتمام ينبني على تصوّر إشكالي حدّده منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي؛ بمعنى أننا أمام رجل إشكالي يمحور فكره على إشكالية واحدة، هي إشكالية النهضة العربية وتجاوز تأخرها التاريخي. إن هذا الناظم الإشكالي الذي حدده في أكثر من مقالة وكتاب يؤسّس أفقا إشكاليا هو مناط القراءة التي سنقوم بها في هذا البحث. إن اهتمام الجابري متعدد، لكن الإشكالية التي يشتغل بها وعليها واحدة. وبين تعدد الاهتمام ووحدة الإشكالية تظهر لنا جدةّ مفكرنا وفرادته ، ليس فقط في القضايا التي يطرقها بمعول نقدي ثاقب، ولا بالسجال الذي تتضمنه كتبه، والمضاعفات التي يخلفها، وليس في معالم العقلانية التي يبتغيها ويسير عليها، وليس في الروح النقدية والصّدامية التي تصيب قرّاءه والمشتغلين في مجال الفكر العربي، بل في المشروع الذي يضعه في المقدمات. ذلك المشروع الذي ينبني على أهداف محددة، تتوخى النهضة، والتقدم، وما إلى ذلك من المفاهيم المجاورة لهما، بمعنى أن مشروع الجابري هو مشروع إيديولوجي يفترض تجاوز الخيبات، والانكسارات، والتعثرات، التي وقعت الأمة العربية فيها، ولن يتأتى ذلك إلا بإعادة القراءة النقدية للتراث العربي الإسلامي، وبالضبط الاشتغال على مفهوم العقل الذي ينتج هذا الفكر.
ونحن نقترب من نهاية بحثنا، نجد الجابري أمام مجموعة من المرايا. كل قارئ يحمل مرآة، لإعادة تشكيله من جديد، وإن كنا نعتبر أنه واضح في كثير من القضايا التي يطرحها. إنه ليس بمفكر نزق، يتهرب منك كلما رغبت القبض عليه، بقدر ما أنه يأخذك - بطريقة أو أخرى- ركوب مخاطرة أسئلته .
إن الجابري - كما يعتبر بعض الباحثين- ليس له مشروع واحد، بل يحمل مشاريع متعددة. وقارئ تجربته الخاصة، والعارف بأحواله يتيقن بذلك. ليس لكونه مؤسسا للدرس الفلسفي في المغرب، وليس لتجربته المريرة في التحصيل والدراسة كقادم من الهامش المغربي، ومسافر إلى دمشق لإتمام دراسته. وبالجملة كعصامي بنى نفسه بنفسه. بل لأنه البناء ذو التأطير الرياضي، والراغب في إتمام دراسته في الرياضيات. هذا النزوع نحو هذا العلم، من حيث القوة الحدسية التي يتمتع بها المشتغل بالرياضيات،وكذلك المتمرس على كيفية القضايا الرياضية،هي ما تجعلنا نربط بين وضوحه الفكري وهذه المرجعية الرياضية التي هيأته لذلك.
إن هذا ما يفسر لنا قولته "إن كتابة تاريخ العقل السياسي في الحضارة العربية الإسلامية يتطلب عقلا كتب تاريخه أولا،أو على الأقل عقلا يعني أن من الضروري البدء بنقد السلاح قبل الشروع في استخدام سلاح النقد". واضحة إذا الكيفية التي ينظم بها أفكاره، بضبط السطحي والعميق، الصريح والمضمر في النصوص التي يدرسها. إن المسألة ليست راجعة إلى معرفة السلاح الذي يريد الدخول به إلى معركة التأويل، بل في نقد هذا السلاح، أي في معرفته الدقيقة والواضحة.
لا غرابة إذا في أن يكون الوضوح هو الأرضية التي يقف عليها، سواء على المستوى المنهجي، أو على المستوى التطبيقي. إنه لا يترك الفراغات، والبياضات في كتابته، بل حتى لا يقدم كتابه إلا من هذا الوضوح الذي يؤسس نظره ويؤطر جمله وفقراته. ليس الأمر مبنيا على استمتاع قارئ ولهان بالمأثورات التراثية. بل وإنه لا يقرأ من منطلق المتعة فحسب، بل إن سؤال الحاضر العربي المأزوم والمتأخر تاريخيا هو القاعدة التي رمته إلى المكتبة التراثية، لتفكيك السطحي والعميق منها. إن ذلك ناتج على المبتغى الإيديولوجي الذي رفعه منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي،والمتمثل في تجاوز تأخرنا التاريخي،أو بالأحرى القطع مع المتخشب في تجربتنا التاريخية كعرب. إن هذا لا يستقيم إلا بفضح القراءة البوليسية واللصوصية للتراث العربي الإسلامي ، إنه يدشن أفقا جديدا للقراءة. أفقا يتمحور حول تمثل عميق للأدوات المعرفية الغربية والعربية معا، وهذا ما يمكن ملاحظته، ليس في كيفية تبيئة المفاهيم الغربية في المجال الثقافي العربي- كما أسلفنا الذكر- بل في كيفية إيجاد تماثل بين لحظات تاريخ الوعي الهيجلي في " فينومولوجيا الروح" 'مرحلة الوعي الذاتي- مرحلة الوعي الموضوعي ومرحلة الوعي المطلق) بتطور العقل السياسي العربي، أي في جعل المرحلة النبوية تشير إلى الوعي الذاتي. أما المرحلة الثانية فتظهر في تجربة أبي بكر والخلفاء الراشدين ، والتي تجد صورتها في الوعي "الوعي الموضوعي" الهيكلي. بينما تتخذ الخطابات السياسية الإمامية الشيعية،وإيديولوجيا الجبر الأموية وإيديولوجيا الأحكام السلطانية) تماثلا مع المرحلة الأخيرة من مراحل الوعي الهيجلي. ربما إن هذه المماثلة هي التي تفترض تدقيقا أكبر. لكن مفكرنا لا يقوم بذلك إلا في سبيل الاستعارة. أي "إذا جاز لنا القول" وهذه الفكرة تضمر أكثر مما تعلن. فهي من جهة تروم فعلا بنيويا، ذا معمار قوي، ومن جهة أخرى وضع طبقات للعقل السياسي، كل طبقة تتنمذج في نظام بنيوي خاص بها. إنه الوضوح الذي يهندس به مفكرنا تاريخ الممارسة السياسية العربية.
إن التوقف عند الآليات المتحكمة في التراث السياسي العربي،عبر البحث عن المضيء فيها وفضح ما يعرقلها ويعوقها،هو الهاجس الذي عاشه مفكرنا منذ زمان. لذا سيعتبر التجربة النبوية تجربة مضيئة،وجب إعادة بنائها وتأصيل معالمها.
لم يكن نظام الحكم في الإسلام الأول نموذجا يتم إغناؤه وترسيخه. صحيح أن نبي الإسلام قد حدد المعالم الأولى للحكم،وإن كان يرفض لقب الملك أو الرئيس بل كان يعتبر نفسه رسولا ونبيا. إنه حدد معالم الحكم في الشورى، وفي تصور منفتح تؤسسه الظروف، أي الشكل الذي عبر عنه في حديث النخلة الذي يفيد "أنتم أدرى بشؤون دنياكم" و "أمرهم شورى بينهم"،وكذلك في حديث "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"،لكن موته سيخلق أزمة حكم في خلافته؛حيث سيتم التوافق حول أبي بكر الذي شكلت مرحلته إعادة بناء الدولة. إن ما يريد الحديث عنه الجابري في خلاصته أنه لا وجود لنظام حكم مؤسس في القرآن والسنة،ولأن الأمر كذلك فالأزمات التي عاشها العرب مع الخلفاء الراشدين هو نوع من الاجتهاد في الحكم، كما أن هذا هو الأساس خلف تتابع السلطة والخلافة على مجموعة من القضايا المرتبطة بالحكم، والتي لم تحدد بشكل يفيد نظامه كاختصاصات الخليفة (الأمير: قائد الجيش)،ومدة الحكم وما إلى ذلك.
إن المأزق الذي خلقه "النموذج" في الحكم،هو الإطار العام الذي شتت الاجتهادات السياسية والفكرية لنظام الحكم في الإسلام. لذا سيظل فعل النموذج أحد المفعولات الرئيسة في التفكيرالسياسي العربي بالأمس واليوم.
ولهذا فهندسة كتاب "العقل السياسي العربي" تعيدنا إلى طرح سؤال وضعناه سابقا وهو: " هل يمكن قراءة هذا الكتاب من خاتمته؟ ذلك أنه يعلن في سبيل تنبيه القارئ إلى ذلك بصيغة "خاتمة/ فاتحة" كأن خاتمة الكتاب هي فتح ممكن لأسئلة سياسية وفكرية لا زال الفكر العربي المعاصر يطرحها من زوايا نظر مختلفة، بمعنى أن هذا الكتاب هو تدشين لأسئلة سيطرحها باحثون آخرون.وبين مقدمة الكتاب وخاتمته مسافة التحليل والتركيب والبناء بشكل خطي دقيق.سيستخلص منه أطروحة رئيسة وهي: "إن نقد العقل السياسي العربي يجب أن يبدأ من هنا، من نقد الميثولوجيا (السياسية) ورفض الأمر الواقع".
إذا كانت هذه الخلاصة مشرعة على مستوى سؤال الحاضر الذي يعيشه العرب هنا والآن،فإن تفكيك الآليات المتحكمة في هذا العقل قد تم تحديدها وضبطها. وبالمحصلة فإن الطريقة البنيوية التي يشتغل بها الجابري تفيد هذه النتيجة، لكن كيف يمكن نقد الميثولوجيا والأمر الواقع في السياسة؟.
ليس الأمر متعلقا بنقد معرفي فحسب،بل يتعداه إلى بناء مشروع جديد للدولة والمجتمع معا. لذا نعتبر،مثلما يعتبر غالبية دارسيه، أن مطلبه الإيديولوجي هو الناظم لمشروعه ككل.
صحيح أن مفكرنا يتأرجح تحليله بين المعرفي والإيديولوجي،وإن كانت قراءته للتراث، كما أشار إلى ذلك عبد الإله بلقزيز ? قراءة توفيقية تتخذ موقفا مع هذا الفيلسوف ضدا على الآخر؛ أي "يطلب كل قارئ في التراث من هذا التراث أن يساهم في ترجيح رأيه، داخل حلبة المنافسة الإيديولوجية،أو في تعزيز موقفه السياسي،أو في إسباغ الشرعية على مشروعه.أما التراث، فيتحول - في هذه العلاقة- إلى مخزن جاهز لإمداد طالبه بما شاء وارتضى ! على أن ذلك لا يتم بدون مشاكل، بل هو يقود معه إلى "حوادث سير معرفية" وإيديولوجية فادحة العواقب والخسارات على وعينا الحاضر،وعلى التراث ذاته !"1.إلا أن تحزبية مفكرنا تتسم بوضوح الرؤية،وبالمهام المطلوبة منه كمفكر عقلاني يبتغي النهضة والديمقراطية،مثلما ينتقد بوعي نقدي القراءات التحزبية التي تفيد إقصاء وإلغاء التصورات التي لا تخدم موقفها الإيديولوجي. إن بيان حوادث السير التي تحدثها المضاربات الإيديولوجية بالتراث،هو ما يضعنا أمام الرغبة في امتلاكه وامتلاك السلطة من خلاله. إن الصراع حول امتلاكه لازال محتدما في مؤسستنا الجامعية والثقافية والإعلامية،إلا أن مفكرنا لا ينزع نحو امتلاكه الإيديولوجي، بل يسعى إلى تحريره من بورصة القيم التي وضع فيها، وبالتالي تحريره من التقليد الأورتوذوكسي الذي مازال متسلطا في الحديث عنه.
هكذا يبين الجابري سؤال السياسة في التراث العربي الإسلامي وفق تفكيك الأنظمة التي تؤطره،لكن هل يشتغل الجابري على نقد العقل فعلا،أم على المجال السياسي العربي؟. إن الجابري أكثر وعيا ودقة في تحديد المفاهيم التي يشتغل بها. لقد ميز بينهما في مقدمة كتابه. بمعنى أنه يعرف جيدا أن العقل السياسي هو المنتج للآليات المعرفية التي مكنت العرب من رؤية موضوعات العالم، بينما المجال السياسي هو الذي تتحدد فيه السياسات وإرادة القوة والمصالح وما إلى ذلك،وبالتالي فالممارسة السياسية ليست تركيبة العقل وإنتاجه وحده،بل تتعداه إلى المخيال الاجتماعي وتضاعيفه المتعددة. ليس فقط في خلق الرموز وأسطرتها،ولا في الشرعية السياسية والمرجعية التي تتأسس عليها؛ولا حتى بربط ما قبل الإسلام بما بعده، بل في الجوانب التي تغذي المجال السياسي من قريب أو بعيد وترتب متغيراته.
صحيح أن الجابري طرح في مقدمته مجموعة من المفاتيح التي تروم قول هذه الأطروحة،كمفهوم اللاشعور السياسي،ونظام القرابة،ونظام السلطة،والمخيال الاجتماعي... وكلها مفاهيم تصب في تحديد وتكوين المجال السياسي العربي. والجابري يعتبر أن بنية العقل السياسي العربي تتكون من ثلاث بنيات: القبلية، الغنيمة، العقيدة، وإن كان يحيلها إلى ما اعتبره كانط مقولات ذهنية، فإننا نتلمس مفارقة واضحة بين الجابري وكانط. وإذا كان الجابري يقوم بهذا التشبيه مع كانط على سبيل التوضيح، فإننا مع ذلك نتوقف عند هذه الفقرة: "وبعبارة فلسفية يمكن القول مع شيء من التجاوز أننا نستعمل هذه الألفاظ (قبيلة، غنيمة، عقيدة) بالمعنى الترنسندنتالي،وهو قريب من ذلك الذي يعنيه الفيلسوف الألماني كانط بالمقولات، أي بوصفها مفاهيم أو قوالب - لا نقول قبلية وسابقة على التجربة كما يقول كانط بالنسبة لمقولات الفهم- بل نقول سابقة للفعل السياسي، تؤسسه وتمده بالطاقة الضرورية له كفعل تضحية،وكفعل تحريض. وبعبارة أخرى إنها أشبه بالدوافع اللاشعورية التي تؤسس السلوك في نظر علماء التحليل النفسي،ولكن مع الفارق يتبين أن الأمر لا يتعلق بمعطيات سيكولوجية بل ببنية رمزية "مكانها" ليس في الفهم ولا في الشعور،بل هو في "المخيال الاجتماعي" . إنها عبارة عن "لا شعور سياسي" يحرك هذا المخيال الذي يحرك بدوره الفعل السياسي لدى الجماعات والأفراد.2
هكذا تظهر المفارقة بينهما،وهي التي حاول الجابري إقناعنا بها بالتشبيه والتجويز وما إلى ذلك،كنوع من عدم سقوطه في " اللصوصية" في علاقته بالفلسفة الكانطية،بتلك المفارقة التي تبدو في إشكالية كل واحد منهما. فإذا كان كانط kant يؤسس مشروعة الفلسفي على ثلاث أنظمة، وهي:
- ما الذي يمكنني أن أعرفه؟
- ما الذي ينبغي لي أن أعمله؟
- ما الذي أستطيع أن آمله؟
فإن إشكالية الجابري في هذا الكتاب هي: كيف يمارس العربي السياسة؟لكن وإن كانت إشكالية كل واحد قد فرضتها التجربة التاريخية وغيرها،فإنه مع ذلك يبقى مشروع مفكرنا يتضمن ضمنا السؤال الكانطي في تحديد الحدود بين مجالات (المعرفة- الأخلاق- الدين)؛ بمعنى أن مشروعه، مشروع كانطي بامتياز،وإن كانت هناك فروقات كبيرة بينهما: بين العقل الكوني الذي ينظر له كانط ،والعقل العربي الذي يحاول الجابري إعادة بنائه ضمن ما يسميه بخصوصيته التاريخية.
إن الجابري، في قوله السابق، يتأرجح بين المعلن والمضمر؛بين تشبيهه لبنية العقل السياسي العربي بالمعنى التراسندانتالي الكانطي،وفي نفس الوقت يضمره بحجب تلك العلاقة بعبارة "إذا جازلنا القول..." وكأنه لا يريد الخضوع لمرجع فلسفي بعينه ولا لفلسفة بعينها، بل في خلط كيميائي همه الوحيد تبيئة المفهوم بالشكل الذي يفيد حياته في اللغة العربية.
وبالمحصلة يستنتج الجابري في خلاصته ثلاث قضايا مترابطة :
الأولى: تأصيل الأصول الأولى في الدعوة المحمدية من خلال "وأمرهم شورى بينهم" " وأنتم أدرى بشؤون دنياكم" و"كلكم راع،وكلكم مسؤول عن رعيته" .
أما الثانية: فهي الاشتغال على القضايا المسكوت عنها في الخلافة، وهي تنظيم اختيار الأمير، واختصاصاته والمدة الزمنية لإمارته.
أما القضية الثالثة فهي عدم الاكتراث بالاجتهادات التي أسست الأحكام السلطانية كالماوردي، لاعتبار بسيط هو أن اجتهاده أملته الظرفية التاريخية.ومن هنا سؤال الجابري: إعادة تأصيل الأصول في الفقه السياسي الإسلامي ضرورة ملحة، ولكن هل يكفي وحده لتجديد العقل السياسي العربي؟
1 عبد الإله بلقزيز: " أسئلة الفكر العربي المعاصر" ، المعرفة للجميع، البيضاء أكتوبر 2001 ص: 102.
2 محمد عابد الجابري: "العقل السياسي العربي" ، ص: 50.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.