في ظرف دولي جد معقد وأمام أزمة سورية استعصت على الحلول الدبلوماسية وعلى كثير من الوساطات الدولية لإنهائها، تأتي زيارة رئيسة مكتب الأممالمتحدة لشؤون نزع السلاح أنغيلا كاين لتفتح المشهد على عدة تساؤلات مهمة أبرزها هل تكون الزيارة الأخيرة قبل الضربة العسكرية التي يسوق لها إعلاميا في انتظار تأكيدها بالحجة والبرهان. ويعلم المتتبعون لتطورات المعضلة السورية أن زيارة كاين مع المحقق السويدي إيك سيلستروم كانت استجابة لضغوطات الغرب ولنداءات المعارضة التي اتهمت نظام الرئيس بشار الأسد بشن هجوم بأسلحة كيماوية أدى إلى مقتل أكثر من 1300 شخص قرب دمشق ونشرت صورا عدة وأشرطة فيديو لضحايا مدنيين بثت على الانترنت. الأمر الذي نفته دمشق ووصفته ب"المفبرك" ، كما نفى الجيش السوري استخدام أسلحة كيماوية في الهجوم على ريف دمشق واعتبرها أكاذيب إعلامية. الخبيرة الأمريكية تدرك حجم المهمة التي ستقوم بها وما ينتظره العالم من نتائج تحقيقاتها، فتأكيدها أن النظام السوري استعمل السلاح النووي ضد شعبه يعني بالضرورة السيناريو العراقي. لذلك فإن أنغيلا كاين سيكون موقفها مهما في توجيه القرار الدولي إما تجنيب منطقة الشرق الأوسط حربا أخرى أو المساهمة في إشعالها من جديد. ولدورها المهم في هذه المرحلة التاريخية ولما تمر به الأزمة السورية من تجاذبات وتطورات متسارعة عدنا للتعرف على أكثر تفاصيل عن كاين والمهمة الموكولة إليها. تثير زيارة أنغيلا كاين قلق البعض حول شخصيتها ومدى قدرتها على التمسك بمواقفها ودفاعها عنها وتبريرها بما لديها من قدرات في الحوار والاقناع لذلك حاولنا أن نتتبع تدرجها في المهام في الأممالمتحدة والأدوار التي لعبتها، فمن تكون كاين؟ أنغيلا كين من مواليد 1948 تحمل الجنسية الألمانية وهي الممثلة السامية للأمم المتحدة لشؤون نزع السلاح. وقد خدمت كاين في العديد من المواقع خلال مسيرتها في الأممالمتحدة، حصلت على المنصب الجديد في الاممالمتحدة الممثلة السامية لشؤون نزع السلاح في 8 مارس 2012، لتحل محل سيرجيو دي كيروز. بين مايو 2008 وعام 2012، قامت بعدة أدوار وتقلدت بعض المناصب فقد كانت وكيل الأمين العام للشؤون الإدارية، وقبل ذلك كانت الأمين العام المساعد للشؤون السياسية، مع التركيز على منع الصراعات وحلها. وبهذه الصفة، كانت مهتمة ببعض النزاعات الإقليمية، وإنهاء الاستعمار، وقضية فلسطين، ودعمت العديد من البعثات السياسية الخاصة في العراق ونيبال والشرق الأوسط. وعملت أيضا في منصب الأمين العام لشؤون الجمعية العامة للأمم المتحدة والمؤتمرات، حيث ركزت على تنفيذ مبادرات الإصلاح، وتطوير الإدارة لتصبح عالمية و متكاملة، واستخدام أدوات تكنولوجيا المعلومات وإعادة تنظيم الإدارة كمقدمة لخدمة استباقية وفعالة. كما تقلدت مهمة مديرة في إدارة الأممالمتحدة للشؤون السياسية، ومن عام 1995 إلى عام 1999، تحصلت كاين على منصب إداري في وزارة الإعلام، حيث كانت مسؤولة عن منشورات الأممالمتحدة. في هذه الفترة، وضعت جميع وثائق الأممالمتحدة على شبكة الانترنت وجعلت موقع الأممالمتحدة متوفرا بجميع اللغات. كما شغلت أيضا عددا من المناصب الأخرى في الأممالمتحدة، بما في ذلك الموظفة الرئيسية للشؤون السياسية في مكتب الأمين العام السابق بطرس بطرس غالي، ومساعدة للممثل الشخصي للأمين العام لعملية السلام في أميركا الوسطى مع التفاوض لإنهاء الصراع في السلفادور. بالإضافة إلى ذلك، عملت في عدة بعثات الأممالمتحدة بما في ذلك بعثة الأممالمتحدة في إثيوبيا وإريتريا و جاكرتا وإندونيسيا وبانكوك وتايلاند. وقبل أن تنضم إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة، عملت في البنك الدولي في واشنطن، كما عملت في القطاع الخاص في أوروبا، وهي حاصلة على درجات علمية من كلية برين ماور ومدرسة جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة. تملك كاين إذن من الخبرة ما يكفي لتنجز مهمتها في سوريا وتقدم النتائج التي ينتظرها العالم ويترقبها المتابعون للملف السوري. دواعي الزيارة تختلف وجهات النظر حول دواعي الزيارة التي تقوم بها أنغيلا كاين ممثلة الأممالمتحدة العليا لنزع الأسلحة في هذا الوقت بالذات فقد سبق أن اتهمت المعارضة النظام السوري باستعمال السلاح الكيمياوي دون أن يحرك المجتمع الدولي ساكنا. لكن يذهب العديد من المراقبين أن المشهد قد تطور الآن بعد أن قامت المعارضة بتوثيق المجزرة التي ارتكبها النظام ومطالبتها الأممالمتحدة بالتحرك العاجل لإنقاذ المدنيين. فقد ذكر المرصد السوري عبر البريد الالكتروني أن عدد الشهداء الذين تمكن المرصد من توثيقهم في المجزرة التي ارتكبها النظام السوري في بلدات الغوطة الشرقية والغربية بريف دمشق في الحادي والعشرين من أغسطس الحالي بلغ 322 بينهم 54 طفلا و82 إمرأة وعشرات المقاتلين من الكتائب المقاتلة بالاضافة إلى 16 شهيدا مجهولي الهوية. وأوضح أن هذا التوثيق الجديد للشهداء يأتي بعد أن تمكن نشطاء من المرصد السوري لحقوق الانسان في البلدات التي تعرضت للقصف، من الالتقاء بأطباء وسكان كانوا متواجدين، أثناء المجزرة. ذلك ما جعل المرصد يوجه نداء إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، للتدخل فورا واستخدام موقعه للضغط على النظام السوري لوقف هذه الأعمال، وللضغط بكافة الوسائل، من أجل إحالة مرتكبي الجرائم بحق الشعب السوري، إلى المحاكم الدولية لينالوا عقابهم. كما حمل المجتمع الدولي المسؤولية عن هذه الجرائم، بسبب التزامه الصمت وعدم التحرك لوقف المجازر التي ترتكب يوميا في سورية. ووجه التلفزيون الرسمي السوري الاتهام إلى مقاتلي المعارضة السورية باستخدام السلاح الكيميائي في المعارك المستمرة في حي جوبر عند أطراف دمشق. إلا أن المعارضة السورية نفت استخدام مقاتليها للأسلحة الكيميائية، معتبرة أن اتهام النظام السوري لها في هذا الصدد يهدف إلى التغطية على جرائمه. كما نفى الائتلاف الوطني السوري المعارض في بيان الأنباء الكاذبة التي يروج لها نظام الأسد جملة وتفصيلا، ويعتبرها محاولات فاشلة ويائسة للتمويه والتغطية على جرائمه المتكررة والممنهجة بحق المدنيين السوريين. وسط هذه الخلافات والاتهامات المتبادلة كانت زيارة كاين لتحدد المسؤول الفعلي عن تلك الجرائم ولتضع نتائج تحقيقاتها أمام أنظار المجتمع الدولي. دواعي الزيارة باتت بالنسبة للرأي العام الدولي واضحة الأهداف وتنشد حقيقة واحدة وهي نزع الغطاء عن المتسبب الفعلي في قتل الأبرياء بالسلاح الكيمياوي المحرم دوليا. وقد تعترض محققة الأممالمتحدة الكثير من الصعاب نظرا لأهمية قرارها وتداعياته على المسرح الدولي وعلى مستقبل تحركات الدول وموقفها من النظام السوري الذي يجد المساند والدعم من إيرانوروسيا طوال مراحل الأزمة والضغوطات التي تعرض لها. الصعوبات قد تتمثل في عدم توفير الجهات المسؤولة التسهيلات اللازمة للتنقل والمعاينة والتأكد من حقيقة الوضع على الميدان. ويذهب كثير من المراقبين إلى القول أن كاين قد تتعامل مع تلك الصعوبات والعراقيل بكل حرفية نظرا للتجربة التي اكتسبتها خلال عملها في الأممالمتحدة واعتبارا لدقة المهمة وحساسيتها في هذا الظرف العالمي بالذات. ظرف متسم بأمزجة دولية مختلفة بين ساع إلى إسقاط النظام السوري وآخر يعمل على بقائه. مما يجعل البعض يرى فيها القدرة على القيام بالدور الموكول إليها بكل يسر والاجابة عن الاشكالات التي تحير المتتبعين للمعضلة السورية. فالمعضلة السورية حسب المراقبين قد طالت ويجب الخروج منها بأقل الاضرار ، وامتدادها يعود إلى تعقدها والخلافات حول طرق حلها نظرا لتباين المصالح وتباعد المقترحات المقدمة لتجاوز الأزمة. ويذهب البعض أن ما عقد المشهد السوري هو أن روسيا تعلمت الكثير من الدرس العراقي والدرس الليبي ولن تسمح بأن يتكرر ذلك في سوريا. لكن تطورات الأمور في ما يخص الملف السوري قد تجيب عن أسئلة مهمة قد يجهلها الجميع ولا يستطيعون تصورها. مهمة في ظل خلافات دولية برغم الصفات التي تتمتع بها أنغيلا كاين والخبرة التي اكتسبتها خلال عملها في الأممالمتحدة إلا أنه لا أحد ينكر صعوبة المهمة وخطورة الدور المنوط بعهدتها، دور يتطلب أن تتوفر الشروط الموضوعية لنجاحه مع محاولة الحكومة السورية توفيره تحت ضغط دولي متتالي. فإجراء تحقيق بخصوص اتهامات المعارضة السورية للنظام باستخدام أسلحة كيميائية والطلب من الحكومة السورية أن تسمح لخبراء الأممالمتحدة الموجودين في سوريا بالتحقيق في منطقة ريف دمشق في صحة هذه الاتهامات يتطلب الكثير من التنسيق والمجهودات و تجميع عدة معطيات لن يكون الحصول عليها سهلا. وتحت حركة اتصالات دولية ضاغطة حول خيارات الرد على هذا الهجوم من بينها الخيار العسكري، أعلنت السلطات السورية أنها توصلت إلى اتفاق مع الأممالمتحدة للسماح لخبرائها بالتحقيق في الاتهامات الموجهة إلى النظام باستخدام أسلحة كيميائية في ريف دمشق. إضافة إلى ذلك فهناك مواقف دولية وخلافات وتباين حول استعمال النظام السوري للسلاح الكيمياوي مما يفرض العديد من الضغوط على عمل كاين ويجعلها تحسب العديد من الحسابات مما قد ينعكس على عملها الميداني والنتائج التي سيتضمنها تقريرها، فقد أعلنت إيران في اتهام واضح للمعارضة، أن هناك "أدلة" على استخدام مسلحي المعارضة السورية أسلحة كيميائية، محذرة من أي تدخل عسكري في سورية. وقال المتحدث باسم خارجيتها عباس عراقجي: نحن قلقون جدا إزاء المعلومات حول استخدام أسلحة كيميائية في سورية وندين بشدة استخدام مثل هذه الأسلحة. هناك أدلة على أن المجموعات المعارضة قامت بهذا العمل. أما وزيرالخارجية الفرنسي لوران فابيوس فقد صرح أن كل المعلومات تدل على أن النظام السوري ارتكب "مجزرة كيميائية" في ريف دمشق، وقال فابيوس: كل المعلومات التي لدينا تتقاطع لتؤكد حصول مجزرة كيميائية قرب دمشق ولتدل على أن نظام بشار الأسد يقف وراء هذا الأمر. وأضاف: نطلب أن يتمكن فريق الأممالمتحدة في المكان من التوجه بسرعة إلى الموقع والقيام بعمليات التحقيق الضرورية. مضيفا أنه :إن لم يكن للنظام ما يخفيه، فلتجر عمليات التحقيق على الفور. كما أن الولاياتالمتحدة الأميركية سارعت إلى التشكيك في الموقف السوري. وقال مسؤول أمريكي كبير: لو لم يكن للحكومة السورية ما تخفيه وأرادت أن تثبت للعالم أنها لم تستخدم أسلحة كيميائية في هذا الحادث، لكانت أوقفت هجماتها على المنطقة ومنحت الأممالمتحدة وصولا فوريا إليها ، معتبرا أن الموافقة جاءت متأخرة إلى درجة لا يمكن تصديقها. وتحدث الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند عن "مجموعة من الأدلة" تفيد أن الهجوم الذي وقع في 21 غشت في ريف دمشق كان "ذا طبيعة كيميائية" وأن "كل شيء يقود إلى الاعتقاد" بأن النظام السوري "مسؤول" عنه. وعاد هولاند ليؤكد بعد اتصاله بنظيره الأمريكي أن كل المعلومات تتقاطع للتأكيد بأن نظام دمشق قام بشن هجوم كيميائي في 21 غشت. وقال مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية إن كيري أبلغ المعلم أنه لو لم يكن لدى النظام السوري شيء يخفيه كما يزعم لكان عليه أن يسمح بوصول فوري وبلا عراقيل إلى موقع الهجوم الكيميائي المفترض لمحققي الأممالمتحدة. كما أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون تباحثا هاتفيا في "الردود المحتملة" على الاستخدام المفترض من جانب النظام السوري للسلاح الكيميائي. وقالت رئاسة الوزراء البريطانية إن "استخداما كبيرا للأسلحة الكيميائية يستحق ردا جادا من المجتمع الدولي". لكن المتحدث باسم وزارة الخارجية الروسية الكسندر لوكاشيفيتش حذر من يتحدثون عن إمكان شن عملية عسكرية في سوريا عبر محاولتهم مسبقا فرض نتائج التحقيق على خبراء الأممالمتحدة، إلى التحلي بالعقلانية وعدم ارتكاب خطأ مأسوي كما حذرت روسيا من تكرار "مغامرة العراق". ودعت موسكو من جهة ثانية المعارضة السورية إلى السماح لمفتشي الأممالمتحدة بالتحقيق في المزاعم حول استخدام أسلحة كيميائية في ريف دمشق "في شكل آمن تماما" وعدم ممارسة "استفزازات مسلحة ضدها على غرار ما حصل مع بعثة مراقبي الأممالمتحدة في الصيف الفائت". أما جامعة الدول العربية فقد دعت إلى عقد "اجتماع عاجل" على مستوى المندوبين لمجلس الجامعة في القاهرة بهدف البحث في "ما تداولته وسائل الإعلام حول الجريمة المروعة التي وقعت في منطقة الغوطة الشرقية بدمشق وأودت بحياة مئات الضحايا الأبرياء جراء استخدام السلاح الكيماوي". ودعا الأردن الى معاقبة من يثبت تورطه باستخدام اسلحة كيميائية في سوريا وذلك قبيل استضافته اجتماعا دوليا لرؤساء اركان جيوش عدد من الدول بينها الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا لبحث تداعيات النزاع السوري. كل هذه المواقف وردود الأفعال الدولية المتباينة ستكون مرتسمة في ذهن أنغيلا كاين وهي تقوم بمهمتها في سوريا. ويذهب بعض المحللين أن ذلك قد يمثل ضغطا خارجيا على النتائج التي ستصل إليها المحققة الأممية قد يساهم في إرباك أدائها وتوجيهه الوجهة الخاطئة. ويتجه آخرون إلى القول أن المهمة التي ستقوم بها كاين هي مهمة على غاية من الخطورة، نظرا لأنها في اعتقادهم ستقوم بتأكيد استعمال النظام السوري للسلاح الكيمياوي وهو ما سيعطي دعاة الخيار العسكري المبرر الأخلاقي لعملهم. وهناك من يرى أيضا وفي نفس السياق أن المحققة الأممية أنغيلا كاين قد جيء بها لتلعب نفس الدور الذي لعبه هانس بليكس في العراق و الذي ساهمت تقاريره في التوجه الدولي للخيار العسكري ضد العراق. لكن ما فات أولئك أن الملف العراقي يختلف عن الملف السوري إذ أن المعارضة العراقية السورية قد وثقت المجزرة التي اتهمت فيها النظام بارتكابها ولها العديد من الحقائق على الأرض. وهو ما يجعل النظام السوري في موقف حرج ويجد نفسه مدفوعا إلى إقناع المجتمع الدولي بالحجج أنه لم يستعمل السلاح الكيمياوي ضد شعبه ولم يقم بقتل الأطفال. المهمة التي تقلدتها أنغيلا كاين صعبة لكن المجتمع الدولي بتجاذباته يحتم عليها أن تعطي النتائج المرجوة، فهل تقدر كاين أن تتجاوز كل الضغوط وتنجح في كشف الحقيقة كما هي؟