من الصعب تحديد المفكر المغربي محمد عابد الجابري في درج واحد من مكتبة ضخمة، ومن الصعب، كذلك، أن نقول إن مفكرنا يهتم بهذا المجال دون غيره، فهو بالجملة مفكر متعدد المجالات، لا نستطيع تحديد واحد منها دون الإشارة إلى الأخرى. لقد كتب في التراث، والفكر، والإبستيمولوجيا، والتربية، والسياسة، وغيرها. إن هذا التعدُّد في الاهتمام ينبني على تصوّر إشكالي حدّده منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي؛ بمعنى أننا أمام رجل إشكالي يمحور فكره على إشكالية واحدة، هي إشكالية النهضة العربية وتجاوز تأخرها التاريخي. إن هذا الناظم الإشكالي الذي حدده في أكثر من مقالة وكتاب يؤسّس أفقا إشكاليا هو مناط القراءة التي سنقوم بها في هذا البحث. إن اهتمام الجابري متعدد، لكن الإشكالية التي يشتغل بها وعليها واحدة. وبين تعدد الاهتمام ووحدة الإشكالية تظهر لنا جدةّ مفكرنا وفرادته ، ليس فقط في القضايا التي يطرقها بمعول نقدي ثاقب، ولا بالسجال الذي تتضمنه كتبه، والمضاعفات التي يخلفها، وليس في معالم العقلانية التي يبتغيها ويسير عليها، وليس في الروح النقدية والصّدامية التي تصيب قرّاءه والمشتغلين في مجال الفكر العربي، بل في المشروع الذي يضعه في المقدمات. ذلك المشروع الذي ينبني على أهداف محددة، تتوخى النهضة، والتقدم، وما إلى ذلك من المفاهيم المجاورة لهما، بمعنى أن مشروع الجابري هو مشروع إيديولوجي يفترض تجاوز الخيبات، والانكسارات، والتعثرات، التي وقعت الأمة العربية فيها، ولن يتأتى ذلك إلا بإعادة القراءة النقدية للتراث العربي الإسلامي، وبالضبط الاشتغال على مفهوم العقل الذي ينتج هذا الفكر. إن قراءتنا لكتاب العقل السياسي العربي تروم إعادة النظر في تاريخنا السياسي العربي عبر استضافة مفكرين آخرين نظروا إلى هذه الموضوعة. ولأن المسألة منهجية، فإن متابعة مفكرنا من مجال السياسي العربي تدفعنا إلى النظر في بيان قراءته، من حيث هي استراتيجية عمل تنبني على هندسة معمارية، تفيد المتابعة الخطية من الأدنى إلى الأعلى: من المرحلة النبوية إلى المرحلة السلطانية. وهي طريقة يفرضها علينا مفكرنا. لذا فنحن نستجيب بطواعية لطريقته، كما لو كنا نعيد كتابته بطريقة تمكننا من استضافة باحثين آخرين تناولوا موضوعة «الدولة في الإسلام» من زوايا نظر مغايرة. لقد قلنا سابقا أن بنية: القبيلة والغنيمة والعقيدة تشكل نظاما عاما للعقل السياسي العربي. إنها القاعدة التي أسس بها مشروعه الفكري، في جانبه السياسي. ولأن الأمر كذلك، فإن مرجع التاريخ هو المرجع الذي يستند إليه في النظر إلى هذه العوامل الثلاثة لمرحلة من مراحل تطور الدولة في الإسلام. من هذه الزاوية سيؤسس معاوية بن أبي سفيان نظام حكمه بشكل جديد، ينبني على رؤية جديدة/ قديمة. وهذا يبين من خلال الآليات التنظيمية والسياسية التي دشنها منذ هيمنته على السلطة السياسية من قبيل إيجاد تصور ديني عام يكون مسوغًا لنظام الحكم، بل يكون جامعًا للجموع تحت رايته. و»شعرة» معاوية التي تحيل إلى ربط الصلة بجميع القبائل حتى المتمردة منها، وإطلاق الحرية الفكرية شريطة ألا تكون مقرونة بالفعل... بالإضافة إلى كونه أخرج العرب من حرب أهلية مدمرة... إن أهم ما يمكن استخلاصه من تجربة معاوية، والأمويين فيما بعد، هو إيجاد تصور إيديولوجي يدافعون من خلاله على نظامه السياسي، وقد وجدوه في «الجبرية» ذلك. لكن، بالمقابل، سيجدون في الحديث النبوي1 (وإن كان ضعيفًا حسب الجابري) جسرًا لتقديم نظامهم السياسي كنظام مُلك، بمعنى أنهم وجدوا في القرآن والحديث، مع إغفالهم الخلفاء الراشدين الثلاثة، أفقًا عامًا لتبرير فعلهم السياسي. صحيح أن معاوية ? بالميزات الكبيرة التي يتميز بها كرجل دولة- نزع نزوعًا ذكيًا إلى إيجاد تناغم سياسي ذكي بين العوامل الثلاثة. وإذا كان الأمر كذلك، فقد فتحت هذه المرحلة نقاشًا سياسيًا واضحًا، سواء حول السلطة، أو الخليفة وما إلى ذلك. هذا النقاش الذي عودتنا تصنيفاته في الكتب التراثية والمدرسية إلى تيارات سياسية، كالخوارج والجبرية والقدرية والشيعة، وفيما بعد الزهد والاعتزال. فالخوارج مثلًا لعبوا دورًا كبيرًا في اختراق القبيلة كنظام محدد انطلاقًا من الشعار الذي رفعوه («لا حكم إلا لله»). لقد كان المجال السياسي مؤسَّسًا على القبيلة. مجال تضعنا إرهاصاته الأولى ? في هذه المرحلة ? في إطار جديد يتسم بالانفتاح والتعدد، مثلما يعطي لهذه المرحلة ثراء فكريًا ومذهبيًا. يضيف الجابري: «لابد من القول إنه إذا كان هذا المجال السياسي مجالا قد مورس فيه نوع من الضغط السياسي، فإنه لم يكن مجالا يصنع فيه القرار، لقد بقيت «القبيلة» هي صاحبة الأمر في الدولة طوال العصر كله»2. ماذا يعني هذا؟ لقد رأى معاوية بن أبي سفيان في القبيلة نظرة أخرى تمتد في عمقه لثلاث بنيات هي: المجالدة والمواكلة والشرعية القرشية. لكن الذي يؤكد عليه الجابري هو الكيفية السياسية التي دبر بها معاوية نظام حكمه. فمن جهة وجد في الجبرية إطارًا أيديولوجيًا ذا دور إعلامي لبرنامجه السياسي، مثلما له دور حجاجي وسجالي مضاد للخصوم السياسيين. خلّفت هذه المرحلة نقاشًا سياسيًا ودينيًا كبيرًا، ليس فقط في أمور الدولة بل كذلك في أمور الدين. وقد ذهب الجابري إلى ضرورة تحرير مصنفات الملل والنحل التي تؤرخ لهذا النقاش من الخرافات والتخيُّلات التي تغطيها. ولأجل ذلك فقد توقف عند الحديث النبوي الذي يفيد الفرقة الناجية، عبر البحث في اللاشعور السياسي، والحديث عن الميثولوجيا الإسلامية انطلاقًا من الحفر في اللاشعور الشخصي لرموز الشيعة والوقوف على الطريقة التي أولت بها هذه الفرقة النص الديني حتى يستقيم مع مطالبها الإيديولوجية المتمثلة في الإمامة والرجعة والمهدوية وما إلى ذلك. يضعنا هذا الحديث ليس فقط في الحفريات التحليل- نفسية للمتخيل الشعبي بل في الحفريات التي يمارسها على المفاهيم التي تداولتها، والبحث في كيفيات تأويل النص الديني، والمكبوت التاريخي الذي ظل حاضرا حضورا قويا في المخيال الشعبي الإسلامي، والحفر في تلك المفاهيم عبر البحث عن المرجعيات الثاوية خلفها. إن ما يشدنا إلى قراءة الجابري من ميتولوجيا الإمامة هو تشخيصه للاشعور الشخصي، لرموزها الأولين. لكن بالمقابل، لم يشخص ? بنفس الطريقة- شخصيات سياسية ساهمت بشكل كبير في تأثيث المجال السياسي العربي، فهل المسالة راجعة إلى الطوبى التي يحملها الشيعة والتي تتأسَّس على الأحلام والآمال كفعلين ينسجان مخيال المستضعفين؟ ربما كان التحليل النفسي مقاربة فعّالة لتشخيص الكيفيات التي تمارَس بها السياسة، وتُدبَر أمور الدولة الآخذة في الاتساع. إن التباينات التي أبرزها الجابري بين معاوية بن أبي سفيان، وعلي بن أبي طالب علامات فارقة لذلك. فإذا كان الأول قد هيمن على السلطة بفعل «العطاء السياسي»، فإن الثاني على العكس من ذلك كان متشددا في مسالة العطاء. ويشير ذلك إلى تصور كل واحد منهما لمشروع الدولة. تتمثل رؤية الأول في دهائه السياسي، والتعامل مع الواقع الجديد، بواقعية سياسية، تشكل أدواتها البراغماتية (العطايا، شعرة معاوية، شراء الذمم، الأحاديث المكذوبة، والعنف المادي). بينما تتمثل رؤية الثاني في الالتزام الأخلاقي والديني الذي يؤسس به علاقته بالمجتمع استنادا، بالأساس إلى شرعيته كخليفة رابع، وانتمائه لآل البيت، وسابقته في الإسلام. إن هذه المباينة، تظهر لنا زوايا الاختلاف المتعددة بين القائدين، إلى حد قيام الحرب بينهما. ألا تشكل المعارك التي خاضها الاثنان، والمضاعفات التي خلفتها، موضوعًا للمقاربة التحليل- نفسية ما دام الجابري يشتغل عليها، مثلما اشتغل على مقاربات أخرى؟ هل هذا يعني أن موضوعة الشيعة، كميثولوجيا، هي الأقرب إلى هذه الأداة؟ إن طرح هذه الأسئلة يضعنا في تقابل مع الجابري، وكأننا نريد الدخول إلى مجاله الفكري، وبالأحرى إلى مكتبه، وهي مسألة غير لائقة حتى بقارئ متحمس. إذا كان الأمر كذلك، فإننا نتفهم الحفر اللاشعوري في رموز الشيعة الأولين. ذلك أن المفاهيم التي روّجوها لا تستقيم قراءتها إلا من زاوية التحليل النفسي، كأنها تحمل مكبوتا ما انفك يحفر في الحراك الاجتماعي، وبالضبط عند المستضعفين من العامة الذين تشبعوا بمتخيل جديد مبني على الأمل. وهي ذات النظرة التي تحيل إليها الطقوس الشيعية. نحن، إذن، أمام جغرافية- سياسية، يعيد الجابري وضعها وفق مفاعيل السلطة آنذاك. هي بالذات المأثورات الباقية من أخبار وسير وخطب ومواقف، والمخلفات التي تركتها على امتداد الدولة الإسلامية، خاصة على مستوى تعدد الرؤى السياسية والمذهبية والفكرية. كل ذلك أكسب هذه المرحلة غنىً وثراءً فكريا أدى إلى تشكيل نخب تجاوزت نطاق القبيلة. مثل ما أسس المجال السياسي العربي. يعيد الجابري ترتيب الفرق بطريقة عقلانية. ليس من قبيل التأريخ لها أو وضعها في سلم، بل لتحريرها من التصنيفات الإيديولوجية التي وضعت فيها لأهداف سياسية. حيث وجدت في الحديث النبوي الشهير المرجع لتركيب الفرق وخلقها حتى تستقيم مع الفرقة الناجية. يقيم ? لذلك- تصورا مغايرا لما تعودنا على دراسته في التراث العربي الإسلامي من قبيل الجهمية التي اعتبرت قبل ذلك، تعسفًا، الذراع الإيديولوجي للأمويين بإسهامها النشيط في الجدال السياسي والعقائدي، وصنفها الشهرستاني والبغدادي ضمن الفرق التي تقول بالجبر. فيما اعتبرها الجابري، بعد قراءته لنصوص أصحابها في كليتها، مغايرة لهذا التصنيف. محاولًا بذلك رسم صورة جديدة لجهم بن صفوان وشيخه الجعد بن درهم، تستقيم ورؤيتهما الثاقبة للمجتمع الإسلامي الحديث، خاصة في هوامشه، أي الجمهور الذي اعتنق الإسلام، ولا زالت معتقداته القديمة تغذي سلوكه. وهذا، حسب الجابري، يحيل إلى مواطنة جديدة في دار الإسلام، كقول الجهمية بأن الإيمان مشروط فقط بالشهادتين، عكس ما تروجه الدولة الأموية، مما خلق تعايشًا جديدًا مبنيًا على هذا الاعتقاد. تشكل ثنائية السياسي والديني بنية رئيسة في الفكر العربي الإسلامي، ذلك أن التفكير في السياسة لا يستقيم إلا باستناده إلى الدين. لقد عرفت هذه المرحلة حراكا اجتماعيا وسياسيا وعقائديا أوِّل بمقتضاه النص القرآني بما يخدم السياسة. فإذا كان الخوارج قد وضعوا هذه الأخيرة في التعقل المتعالى، فقد كان لزاما، الخروج من هذا المأزق، بنوع من التعقل والمنطق الذي سيدشنه الحسن البصري، فيما بعد من داخل حلقاته الدراسية، حيث شكل موقفا مضادا للإيديولوجية الأموية التي اعتمدت الجبرية كأداة للهيمنة، وضرب التصور المتطرف للخوارج من جهة أخرى، والتصور الميتولوجي للإمامة. تطرح إذن موضوعة حرية الفرد أفقا سياسيا متسعا باتساع المطالبين والمدافعين عنها. لقد عرف التاريخ العربي شخصيات ناضلت من أجل الحرية، والحالات الرهيبة التي آلت إليها كمعبد الجهني وعمرو المقصوص وغيلان الدمشقي. هذا الأخير الذي توقف عنده الجابري طويلا وقدمه نموذجا لهذا الحراك مأساوي ليس لما قدمه من تصور، بل للمصير التراجيدي، بقطع أطرافه ولسانه. فيما اعتبر الحسن البصري نموذجًا للحكمة والتبصر، ليس من حيث كونه وجد نفسه داخل معمعة سياسية ودينية تتجاذبها أطراف عدة، بل في عملية تدبير الحكم ومعارضته للسلطة الأموية. يقدم لنا الجابري عدة قضايا كلامية-سياسية، كعلم الله، القرآن، الإرادة والإنسان... في قراءة جديدة تنطلق من أسئلة المرحلة وليس من أسئلة الراهن أو المستقبل. ستفيض مسألة مرتكب الكبائر أسئلة أخرى. وقضايا سيتم تحريرها على يد واصل بن عطاء والمعتزلة الذين وضعوا نظاما فكريا عقلانيا منحصرا في الأصول الخمسة المعروفة. لا عجب، إذن، إن تكون هذه المرحلة مرحلة سجال عقائدي وديني غذى المجال السياسي العربي، ليس فقط في القضايا التي طرقها والأسئلة التي أثارها، بل في الكيفية التي قدمت بها. ونعني، بذلك، الآليات التي وجد فيها الجابري طريقة للبحث في البنيات التي تؤسس العقل السياسي العربي، وتتساوق مع الحراك الاجتماعي الذي عرفته تلك المرحلة. إن إشكالية السياسي والديني ما انفكت تحضر بقوة عند هذه الفرقة أو تلك، عند الحاكم الأموي ومعارضيه، أو عند هذا المفكر أو ذاك، بالإضافة إلى أنه سيهتم بالمضاعفات الرمزية والطقوسية التي خلفتها. إن قراءته- لكل هذا- متعددة، يتداخل فيها التحليل النفسي بالخيال واللاشعور السياسي، بأسلوب تفتح معه أفقا جديدا لإعادة قراءة النصوص الأصلية بمقاربات علمية أخرى. ينتقل بنا الأستاذ الجابري إلى مرحلة متقدمة من مراحل تطور الدولة في الإسلام، مرحلة الدولة العباسية التي تشكلت وفق «الكتلة التاريخية» كيف ذلك؟. لقد تعامل مع هذه المرحلة بمفاهيم أخرى تشي بهدفه العام من المفهوم المذكور، والبنيات السطحية والعميقة والخاصة والعامة. وهي مفاهيم أضاءت بحثه في كيفية نشوء الدولة العباسية وقيامها. فمن جهة، تأسست انطلاقا من تجمع معارضي الدولة الأموية باختلاف توجهاتهم وأهدافهم، ومن جهة ثانية، استفردت بتدبير مخصوص للاختلاف المميز لها، من أجل الثورة وقيام الدولة. فإذا توقفنا عند الثورة على الحكم الأموي، سنجد شعاراتها بينة من خلال شعار الدعوة «الرضا من آل محمد»، المضمون السياسي العملي، المضمون السياسي للشرعية القرشية، والمضمون الديني- السياسي للشورى، إضافة إلى توظيف شعار العمل بالكتاب والسنة. إن منطق الثورة، ليس منطق الدولة، ولأن الأمر كذلك، وجب ترتيب الدولة عبر توسيع مفهوم القبيلة حتى تستقيم مع الظروف الجديدة، لهذا يوظف الجابري، مفهومي البنية السطحية والبنية العميقة. فالأولى تتأسس على مفهومي الخاصة والعامة، والثانية تتحكم فيها القبيلة والغنيمة والعقيدة. وهكذا سيتم ترتيب نظامها وفق ثلاث فئات (القادة، الخاصة، العامة). لا مناص من البحث عن شرعية دينية تعطي لهذه الدولة دعامتها الرئيسة. لأجل ذلك، سيشتغل مؤسسوها الأولون بالبحث عنها، وهم وجدوها في جَعل الخليفة أسمى من الخاصّة لكونه «سلطان الله في الأرض» يستمد الحكم من إرادة الله، وهذه المسألة، مسألة الشرعية، تفيد إقصاء الشيعة، الذين ينتمون أيضا إلى آل البيت، عبر العودة إلى العم (العباس بن عبد المطلب) باعتبار ورثته، ورثة شرعيين لبيت النبوة. لقد بين الجابري ثلاثة أطر إيديولوجية تقوم بهذه المهمة: فريق يوظف الأدبيات السياسية نقلا عن الفرس، وفريق يواصل عملية تسييس المتعالي والفريق الأخير يشرع السياسة. لقد فتحت الأحكام السلطانية نقاشا فكريا امتد في التاريخ العربي الإسلامي ليس فقط في العلاقة التي تحكم الخاصة بالخليفة، ولا بعلاقة الخاصة بخاصة الخاصة. بل في المنطق الذي يحدد كل فئة على حدة، والعلاقة التنظيمية التي تربط بينهما، مثلما قدمت لنا اجتهادات في الطاعة وسياسة الرعية وتدبير شؤون الجند والشرطة ومالية الدولة وأوجه إنفاقها.. كاجتهادات ابن المقفع والماوردي والطرطوشي والفارابي... الذين سيقدمون تصورا للدولة بشكل مرآوي بين الله وخليفته في الأرض، مثلما سيرسخون أدبيات سياسية غنية. وبالجملة، ستقدم لنا تجربة الدولة العباسية تحولًا نوعيًا في العلاقة بين القبيلة عبر عزلها عن السياسة، والغنيمة، بنقل الدولة من اقتصاد الريع إلى اقتصاد مركزي منظم، والعقيدة بربطها بمفهوم الطاعة. إن قراءة «نقد العقل السياسي العربي»، تدفعنا إلى النظر في راهن يحمل في تضاعيفه أسئلة النهضة، التي لم تتحقق بعد. بالقدر ذاته، يشخّص لنا المؤلف الإطار العام للمجال السياسي العربي، تتحدد من خلاله البنية العميقة المؤسسة للنظر السياسي العربي. إن هذا العمق، الذي يحفر أرضيته بأدوات نقدية جديدة، تطرح الأسئلة القلقة التي يحملها المثقف العربي المعاصر. فهو، من جهة، لم يستطع بلوغ النهضة والثورة، وهي من جهة ثانية تعوقه عوائق الماضي المثقلة بخيبات وجراحات عميقة. بين الطرفين يتوقف المفكر، للنظر في هذا الوسط الذي يشكل بياضه سؤالا تاريخيا ما انفك يحضر في الزمان والمكان، في الوعي واللاوعي. صحيح أن بعض مفكري النهضة وضعوا سؤال السياسة مفتاحا تشخيصيا للواقع العربي المأزوم كمحمد عبده والطهطاوي والكواكبي. لكن هؤلاء ظلوا يراوحون مكانهم حين النظر إلى الواقع السياسي العربي انطلاقا من الآخر، في حين ان الجابري وضع سؤال الحداثة كسؤال عربي، أي في نطاق البحث عن الإضاءات القوية في التراث العربي ذاته. وهذه استراتيجية فكرية تروم الخصوصية العربية في ذلك وكأنه يرى أن نهضتنا لا تستقيم بالسير خلف الآخر، ونقل لحطاته وطرائقه ووسائله. وبالجملة فالحداثة يجب استجلاؤها من داخلنا. ولذلك عمد الجابري إلى الكشف عن أقنعة الاستبداد في التاريخ العربي الإسلامي، عبر وضع إشكالية الديني والسياسي موضع سؤال فلسفي عميق. لأجل رسم العلائق بينهما منذ البعثة المحمدية إلى الدولة العباسية، فكل مرحلة من هذه المراحل تحمل نظامًا فكريًا وسياسيًا يتحالف أو يختلف عن المرحلة السابقة له. تتحدد معالم هذا النظام في ثلاثة عوامل: القبيلة، الغنيمة، العقيدة، محاولًا النظر إليها في كل مرحلة من مراحل تطور الدولة العربية الإسلامية. لكن، يمكننا القبض على عدد من الإشارات الدالة على مجالنا السياسي آنذاك، من قبيل: أ?- بناء الدولة على مرجع ديني (القرآن) في المرحلة النبوية وإن كانت هذه الدعوة، قد وجدت مجموعة من العوائق في بداية أمرها، وقد تم تجاوزها فيما بعد. إن ثمة إضاءات تجب الإشارة إليها، كاللغة والقبيلة والنسب والمصاهرة، والتفاوض السياسي، والتعاقد والغزو والفيء والطقوس الدينية، ما بعد وما قبل البعثة... وكلها إشارات ترمي إلى تدشين مجال ثقافي جديد، محدد باتصال وانفصال عن «الجاهلية». ب?- إن مرحلة الخلفاء الراشدين جاءت بعد مخاض عسير تمثل في حروب الردة، من أجل ترسيخ الإسلام، وسيتم خلالها تنظيم الدولة على أسس جديدة، كإحداث الدواوين وتنظيم الجيش وإحداث مجلس الشورى، وتنظيم مالية الدولة... ت?- ظلت الرغبة في السلطة أمرًا أساسيًا إلى حد الفتنة الكبرى، التي كانت الغلبة فيها للدهاء السياسي، الذي استثمر بشكل جيد الانسجام الممكن بين القبلية والغنيمة والعقيدة، كأن السلطة السياسية مشروطة بإكراهات الديناميات الثلاث. ث?- في السياق ذاته دشنت الدولة العباسية جديدا في نظام الحكم، وإن لم يخرج عن الثوابت البنيوية التي قارب بها الجابري المجال السياسي العربي. ثمة ناظم يجمع بين هذه المراحل، سواء على مستوى التأسيس أو الامتداد في نظام السلطة، والعلائق التي تفرضها، والضوابط التي تخضع لها. لكن في المقابل، يمكن إجمال كل هذا في المطلب الإيديولوجي الذي وضعه الجابري حين كتب: «إذن لم يعرف الفكر الإسلامي الميدان السياسي، إلا ميتولوجيا الإمامة، والإيديولوجيا السلطانية. وإذا كان أهل السنة قد تجنّدوا للرد على الأولى تكريسا للأمر الواقع. فإنه لم يوجد بعد من يرد على الثانية، لا في شكلها الجديد ولا في شكلها المعاصر. إن نقد العقل السياسي العربي يجب أن يبدأ من هنا: من نقد المتولوجيا، ورفض مبدأ «الأمر الواقع» الذي تكرسه «الإديولوجيا السلطانية»3. ألا يعني ذلك، مطلبا راهنا في المجتمع العربي؟ أو لا يمكن القول إن مطلب الأستاذ الجابري تعبير مزدوج عند وضعه كممارس سياسي في مرحلة ما، وكمفكر، يسائل هذا المجال في مشروعه الفكري. يمكننا النظر إلى هذا التعبير المزدوج، الثاوي خلف مشروعه، من جهة أنه يفكر في الماضي من خلال أسئلة راهنة، يهدف كشف أقنعة الاستبداد الظاهرة والخفية، في التراث العربي- الإسلامي. كأن كشفها وتفكيكها كفيل بتجاوزها. وتلك هي مهمة المثقف العربي المعاصر، والذي سنحاول إضاءته من خلال عبد الله العروي ورضوان السيد في موضوعة «نظام الحكم في الإسلام». 1 الحديث هو: «كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه سيكون ملك من قحطان، فغضب معاوية فقام وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد، فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله، فأولئك جهالكم ، فإياكم والأماني التي تُضل أهلها فإني سمعت رسول الله (ص) يقول، إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين». محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، م. س. ص. 267. 2 ف.م.ص.265. 3 المصدر نفسه، ص: 389.