يذكرني الأداء الإخباري لقناة الجزيرة ، وتعاطيها الإعلامي مع الأوضاع في أقاصي الدنيا البعيدة خارج الإمارة الخليجية، مع استنكافها عن الخوض في الأحوال والتفاعلات السياسية الداخلية لهذه الإمارة ، الا بما يرضي المتنفذين فيها - يذكرني هذا الأداء بقصة حكاها لنا بعض القدماء الظرفاء من أهل قريتنا في الشمال في منتصف الستينيات ،ونحن أطفالا نتلمس اولى معارفنا حول أسرار البث الإذاعي المنبعث من ثنايا المذياع الخشبي الضخم وقتها،العارض على إسماعنا من بعيد وبسرعة البرق أخبار الأحداث والحوادث الحاصلة في دول العالم وأركانه القصية . تقول الحكاية ان بدويا مسنا ضعيف الحال والموارد، معروف لدى اهل القرية ب «عمي احمد» كان قد تعب من متابعة الحالة الصحية لبقرته المريضة . كان وضعها المتدهور يستدعي منه اليقظة المستمرة ، بل وحتى البقاء لفترات طويلة مستيقظا اثناء الليل خوفا من ان تموت دون ان يتمكن من ان يحلها بالذبح الشرعي . وكان بسبب ذلك دائم الشكوى لعائلته ومعارفه وأقاربه حتى سئموا شكواه . صادف ذات يوم ان استدعاه احد جيرانه ، ضمن من استدعى من الناس لسمر ليلي. المناسبة كانت ان هذا الجار اقتنى جهاز ترانزستور، الاول من نوعه في القرية ، فأراد ان يقاسم اهلها فرحته بهذا المكتسب التقني الباهر . تجمع الناس الذين لبوا الدعوة بلهفة حول هذا الجهاز الجديد،الناطق بأكثر من لغة، وبصوت يعلو وينخفض حسب الرغبة بمجرد الضغط على زر جانبي . . كان بين الحاضرين بعض طلبة وحفظة القران الكريم ممن تطوعوا لتقريب مضمون نشرة الاخبار الى فهم باقي المستمعين، الذين تحلقوا، وكؤوس الشاي بين ايديهم، حول هذه العلبة السوداء الصغيرة والعجيبة، وانتباههم مشدود على الاخر الى صوت المذيع يقدم الاخبار . بعد تقديم فقرات الاخبار الوطنية وأنباء اجتماعات الوزراء في الرباط والأقاليم، انتقل المذيع الى نقل اخبار الاحداث الساخنة أيامها ، حرب الفيتنام و ملابسات الاصلاح الزراعي في مصر الناصرية ، وبداية الكفاح الفلسطيني المستقل بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، و أنباء عن الصراع الإثني في نيجيريا وبوادر التوتر الاولى بين البروتستانت والكاثوليك في ايرلندا وأنباء اخرى كثيرة. توالت الاخبار ومعها توالت شروح المتعلمين لباقي الحاضرين ممن لا يستطيعون فك أسرار اللغة العربية العالمة التي كان يستخدمها المذيع .ثم جاءت فقرة النشرة الجهوية ، تغير الصوت وبدا ان مذيع الاخبار السياسية فسح المجال لمذيع اخر تولى اخبار المستمعين بحالة الجو . بدوره بدا المذيع الجديد بأخبار عن اتجاه الرياح ، والتساقطات المطرية اولا في المغرب ، في طنجة والحسيمة والبيضاء ، وآسفي والمحمدية وغيرها من المدن والمناطق ، ثم انتقل للحديث عن أحوال الطقس في مناطق العالم البعيدة . وكان ان ذكر هذا المذيع ان الخبراء يتوقعون داخل الأربع والعشرين ساعة القادمة فيضانات جارفة في احد أقاليم الهند . تلقف عمي احمد البدوي صاحب البقرة المريضة الخبر ، ثم سأل احد الجالسين بجانبه : الفيضانات ، فهمت انهم تحدثوا عن الفيضانات ، هذه فهمتها ، لكن اين وقعت هذه الفيضانات؟ أجابه الرجل : في الهند يا عمي احمد وليس هنا ، رد البدوي : وأين توجد الهند ؟ اجابه الاخر : أبعد من مكةالمكرمة ، على الاقل يبعد عنا هذا البلد المسمى الهند بثمانية الف كيلومتر . عبر البدوي البسيط بتقاسيم وجهه عن استغراب كبير ، قائلا : عجبا، هذا الجهاز الصغير يقدر على توقع فيضانات جارفة في بلد يبعد عنا بآلاف الكيلومترات ، ثم هو يخبرنا بذلك أربعا وعشرين ساعة قبل حدوثها ، ثم تنهد اه .اه .ام . ام . وجدتها، وجدتها، انتهت معاناتي مع بقرتي المريضة إذن . بعد وجبة العشاء بفترة طويلة ، وقبل ان ينفض الاجتماع اقترب عمي احمد من صاحب الترانزستور وسأله بصوت منخفض حتى لا يثير انتباه احد: هلا تدلني عن المكان الذي اشتريت منه هذا الجهاز بارك الله فيك ؟ الامر سهل عمي احمد ، أجابه صاحب الترانزستور ، الامر سهل لكن عليك ان تسافر في طلبه، اشتريته من متجر قريب من محطة نقل المسافرين في المدينة . لكن قل لي عمي احمد : هل عقدت فعلا العزم على شرائه ؟ اذا كان الامر كذلك فعليك ان تعرف ان ثمنه هو اربعون درهما كاملة . نعم نعم أجاب عمي احمد بنبرة كلها عزم وتصميم ، لا يهم الثمن ، ساشتريه منذ الغد بحول الله ، لانه سيعفيني من سهر الليل في مراقبة احوال البقرة . لم يفهم صاحب الترانزستور ما نوع العلاقة ، التي رتبها عمي احمد في ذهنه، بين اقتناء جهاز ترانزستور وبقرته المريضة ! ولكن الامور كانت واضحة بما يكفي في ذهن عمي احمد . « اذا كان هذا الجهاز قادرا على تقديم أخبارعن بلدان بعيدة جداً، وحتى تقديم توقعات عن كوراث في مناطق تبعد عنا بآلاف الكيلومترات, فإنه بالتأكيد سيكون في وسعه ان يمدني بتوقع عن صحة بقرتي مسبقا، وبوقت كاف بحيث اعرف كيف أتصرف ، كيف لا وهو ، اي الجهاز ، سيكون قريبا من الإسطبل الذي ترقد فيه هذه البقرة ببضعة أمتار» ! هكذا فكر الرجل وتدبر الامر . اقتنى عمي احمد جهاز ترانزستور، دربه البائع بسرعة على كيفية تشغيله ، بعدها قصد قريته مسرورا بما كسبت يده . الله الله هكذا صاح مع نفسه وهو يركب الحافلة باتجاه بلدته ، اليوم سانعم براحة النوم بعد سماع الاخبار ، فان توقعت النشرة موت البقرة قمت لذبحها لتحل شرعا ثم خلدت بعد ذلك للنوم ، وان لم تتوقع النشرة ذلك فلا مشكل إذن وسأنام براحتي كذلك . في كلتا الحالتين انتهت معاناتي وانتهي سهر الليالي خوفا من موت مفاجئ للبقرة المريضة . في اول ليلة بعد اقتناء هذا الجهاز العجيب ، وبعد تناول ما يسر الله من وجبة العشاء مع أسرته ، انزوى عمي احمد الى ركن في بيته ،فتح المذياع وبدا ينصت بانتباه شديد لنشرة الاخبار. انتظر ان يذيع المذيع اخبارا عن البقر وأحواله . انتظر طويلا ولم يصل لسمعه اي ذكر للبقرفي قريته، لا بالخير ولا بالسوء . كان كل ما سمعه تلك الليلة أخبارا عن استمرار المعارك في الفيتنام وأخبار متفرقة عن لبنان وأنباء عن حوادث طرق في المغرب. طيب، استطيع ان اخلد للنوم إذن بكل اطمئنان ، هكذا قدر الرجل . نام عمي احمد طويلا وعميقا لم تصحيه في اليوم الموالي سوى أصوات الديكة عند الصباح الباكر . اغتسل وصلى ثم تناول حساءه المعهود، بعدها توجه نحو الإسطبل يحمل سطل ماء وبعض الكلأ للبقرة المريضة . وهنا كانت مفاجأته التي لم يتوقعها أبدا. لقد وجد بقرته ميتة . تأكد من ذلك بعد ان حركها ذات اليمين وذات اليسار فلم تبد أية حركة ولم يخرج من رئتها اي نفس . رجع عمي احمد الى غرفة النوم في حالة عصبية قصوى ، أخذ جهاز الترانزستور ، ضغط عليه بعنف بين يديه وألقاه بقوة على الارض وهو يصيح ملء صوته : «مزيان مزيان ، عرفت كيف تأتي بالأخبار من مصر والسودان ، ومن فيتنام واليونان ومن لبنان واليابان ، وتوقعت فيضانات جارفة في الهند وهي بلد يبعد عنا بآلاف الكيلومترات ، وغاب عنك توقع اخبار صحة بقرتي التي لا يبعد إسطبلها عنك بأكثر من عشرين مترا !!!. هنا تنتهي الحكاية الدرامية لعمي احمد ومعاناته مع البقرة وسخطه على الترانزستور كما حكاها لنا قدماء ظرفاء في قريتنا بالشمال قبل سبعة وأربعين سنة . وسواء كانت هذه الحكاية حقيقية حدثت بالفعل او كانت من انتاج الخيال(الفيكشن بلغة الروائيين ) فإنها تنطبق تماماً على الخط الإعلامي لقناة الجزيرة القطرية ،اي تصلح كميتافور يرمز الى تلك المواكبة الواسعة والشاملة، خبرا وتعليقا، لأحوال العالم، خارج الامارة القطرية ، التي تضطلع بها القناة منذ زمن طويل ، وفي نفس الوقت استنكافها شبه الكامل ،وغير المفهوم ،عن مواكبة ماهو قريب من بناياتها لصيق بجدران استديوهاتها في قطر. والحق انني كلما تابعت اخبار الجزيرة -وقليلا ما عدت افعل منذ مدة طويلة ،وحتى حينما أتابع لبضعة دقائق من حين لأخر, يكون الدافع هو الوقوف فقط على المدى الذي يمكن ان يصل اليه الزيف الإعلامي desinformation سيما بخصوص اخبار العالم العربي-اجدني تماماً، بشكل ما ، في نفس الحالة الشعورية و المزاجية لعمي احمد في الحكاية المذكورة . والأسباب ، او بعضها على الاقل ، هي كما يلي : - تتحدث هذه القناة عن اخبار قواعد عسكرية في نقاط المعمور شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا ، وتفيض في شرح المناورات العسكرية هنا وهناك ، ولكننا لا نسمع منها كلمة واحدة عن القاعدة العسكرية الامريكية الضخمة في قطر وأنشطتها ومهامها هناك, مع انها من اكبر القواعد العسكرية في المنطقة . تتحدث القناة عن أحوال البرلمانات ومناقشات النواب وأزمة الديمقراطيات القديمة والجديدة ويتوسع المذيعون في النقد الجذري وفي التباكي احيانا عن مصير الحريات العامة هنا وهناك ، ولا نسمع شيئا عن شيء اسمه المؤسسات التمثيلية, برلمان او ما يشبهه في قطر ، او عن أحزاب او نقابات او مجتمع مدني يتحرك ويطالب . تحدثنا القناة عن فضائح مالية وفضائح رشاوى وتحقيقات قضائية بخصوص طرق صرف آموال عامة هنا وهناك ، في البلدان النامية وفي البلدان المتطورة ، ولا تعطينا أية فكرة عن الطريقة التي تصرف بها الاموال العامة في قطر ، ولا نعرف ان كانت هناك في هذا البلد معايير اصلا للتمييز بين الاموال العامة وأموال المتنفذين في قمة دواليب الدولة . تحدثت القناة بالطول والعرض على سبيل المثال وهي تتغنى بمفهوم الجاهزية لتقديم الحساب ،Accountability عن المظاهرات الصاخبة التي عرفتها مدن ساو باولو وريو دي جانيرو في البرازيل احتجاجا من شباب البلد على التكاليف الباهظة لاحتضان العاب عالمية ، كان يمكن ان تفيد بحسب المتظاهرين في اولويات اخرى وابرزت القناة السيدة ديلما رئيسة الجمهورية توضح وتقنع وتراجع ، ولم نر من هذه القناة لا في الطبعة العربية ولا الانجليزية اثرا لمناقشات عامة او ردود أفعال داخل الامارة القطرية حول حجم تكاليف الألعاب التي ستقام هناك والتي ستتطلب ، فيما يقال ، وفي خطوة دولية غير مسبوقة في أوجه صرف المال العام ، اقامة نظم تكييف في ملاعب ضخمة وفسيحة ستكلف مبالغ طائلة . وهكذا وهكذا في تغطيات إعلامية تتحدث بكل اللغات ،عن مناطق قريبة وبعيدة في الهند والسند وجزر الوقواق وأماكن تواجد جبال الثلج الضخمة في المحيطات المتجمدة ، مع الاستنكاف التام عن تقديم اي خبر يهم القطر الذي يحتضنها ويغدق عليها بسخاء طائي لا يخاف اصحابه مراقبة برلمان او صداع راس تتسبب فيه مؤسسات «أوديت» او ما شابهها من مؤسسات . امام هذا المسخ الإعلامي ، لن نقوم بتحطيم تلفزاتنا وإسقاطها على الارض احتجاجا على الانشغال الحصري بالبعيد كما فعل عمي احمد مع جهاز الترانزستور في الحكاية المذكورة ، ولن نأسف كثيرا على كل هذا الوقت الذي لم نكتشف فيه الطبع والدمغة الأصولية المتطرفة لهذه القناة التي أخفت هويتها طويلا وراء لغة ما بعد-حداثية كان قد انطلى بريقها على العديد من المثقفين لفترة ، طبع ودمغة انكشفا بوضوح كامل مؤخرا خلال التغطية المتحيزة حد الإسفاف لرواية الاخوان المسلمين في مصربخصوص الاحداث الجارية في هذا القطر العربي الشقيق . لا لن نحطم اجهزة تلفزاتنا . سنقول فقط وبكل بساطة للقيمين على هذا التنين الاعلامي ، الذي يشتغل بألف راس ومراسل : سنقول لهم : المهم اننا فهمنا ، المهم اننا تفطنا ، المهم اننا تداركنا، كما اصبح يدل على ذلك الهبوط المريع عندنا، في نسبة مشاهدة برامجكم ونشراتكم التي تسمونها إخبارية .