يتخوف الناس في مراكش اليوم على كل شيء جميل فيها . فهي تكد باجتهاد نادر لتدمير آثار ماضيها بحاضرها ، كما لو كانت تضيع السماء ليلا دون أن تستردها نهارا . مجدها اليوم مجرد حلم سريع الزوال ، في عيون رومانسيين طيبين يصدقون دهشة البدايات ، دون أن يدركوا أن السمسرة روحا حلت بالمكان و احتلت المخيلات و نمطت التطلعات . حتى صار من يدافع عن شيء جدير بالاحترام في تاريخها ، كمن يتعقب سحب الصيف العابرة . هذه الوجوه أسماء لثقافات تناوبت على ذات المكان ، صنعت حياته ، و حولته إلى أسطورة، لا تعترف بها مراكش اليوم . إنها وجوه متقابلة في ذاكرة لا يسهر أحد على حماية آثارها . جنان السملالية : أمير مزيف للإطاحة بالسلطان لا تعني السملالية لمراكشيي اليوم ، سوى تجمع اسمنتي كبير يختلط فيه عدد قليل من الفيلات بأخطبوط سميك من العمارات . و لا يدل عندهم سوى على عنوان شقة أو متجر أو مقهى ، أو شارع صاخب ، في كوكتيل فاقد للمذاق يعكس وجه مراكش المعاصرة ، مراكش التي فقدت كل شيء من ماضيها و صارت فضاء للسمسرة و السرعة المجنونة و الجشع المريض . السملالية ، كان لها ذكر خاص في تاريخ المغرب الحديث .و أعادها للواجهة كتاب هام صدرت ترجمته العربية مؤخرا عن مغامرة جاسوس مزدوج الولاء لإسبانيا و فرنسا ، حل بالمغرب في بداية القرن التاسع عشر متنكرا ، منتحلا صفة أمير عربي من سلالة الأسرة العباسية ، بقصد التهييء لاستعمار المغرب . عنوان الكتاب «علي باي العباسي : مسيحي في مكة « ، يتضمن تقارير و رسائل بعثها إلى المسؤولين الإسبان ، « دومينيغو فرنشيسكو باديا « الوكيل الاستعماري الذي قدم إلى البلاد العربية ابتداء من المغرب ، بهوية مزيفة برع في إتقانها ، و في إقناع المسؤولين المغاربة و في مقدمتهم السلطان مولاي سليمان ، بجديتها إلى حد تغلغله في دوائر النفوذ الملكي حينها ، و استقطاب ثقة السلطان فيه ، و ثقة معاونيه من وزراء و وجهاء و قواد للجيش ،بل و حتى الأعيان ، إلى حد طمعه في قلبهم على الملك . و يشير في الكتاب أنه بعد لقائه بالسلطان مولاي سليمان باسم الأمير علي باي العباسي ، و تقديم هدايا ثمينة له جلبها معه من إسبانيا ، تتكون من عشرين بندقية إنجليزية ، و بندقيتين من العيار الكبير ، و زوجان من خمسة عشر مسدسا إنجليزيا ، و بضعة آلاف من أحجار الاشتعال ، و كيسي رصاص من طلقات خردق الصيد ، و مجموعة لقطع الصيد كاملة ، و و برميل من أفضل البارود الإنجليزي ، وقطع ثوب موصلي نفيس مطرز، و مجوهرات صغيرة ، شمسية ثمينة ، و عطور، استطاع أن يكسب ثقته ، حيث بادل السلطان هداياه له، برغيفين من الخبز الأسود . و من اللقاء الأول أجلسه السلطان إلى جواره ، و خاصة عندما سمع حكايته التي أخبره فيها أنه من سلالة العباسيين ، و تشردت عائلته في بلاد الكفار . فرحب به السلطان في بلاده ، و أكد له صداقته و حمايته له . و كان قناعه الأول في إخفاء مهمته الأساسية بالديار المغربية ، هو الاستكشاف الجغرافي ، حيث أبهر السلطان و معاونيه ، بمعدات فلكية ، صحبها معه من الشمال ، مما جعل السلطات يدعوه لخدمته بتيسير تنقلاته عبر المملكة . ضامنا تحركاته في قافلة صغيرة تحت المظلة السلطانية التي لا يستخدمها سوى أبناء السلطان و إخوته . و عند التحاقه بالسلطان مولاي سليمان بمراكش ، كان التجسيد الأقصى لثقة الملك فيه و مدى تقريبه منه ، منحه قصر جنان السملالية للإقامة به ، و هي الواقعة التي يتحدث عنها الكاتب العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم قائلا : « و ما أن التحق بالسلطان إلى مراكش ، حتى خصه بما لم يخص به أحدا من قبل ، فقد منحه بمقتضى ظهير سلطاني ، بيت استجمام خاص يسمى ب» السملالية « و هي أرض واسعة مشجرة بالنخيل و الزيتون ، وخصص له بيتا كبيرا يسكن فيه ..» و انطلاقا من إقامته بجنان السملالية بمراكش ، كان «باديا» المعروف لدى السلطان و حاشيته بعلي باي العباسي ، ينجز مهمته التي جاء من أجلها ، و هي خلق شروط الاستياء الشعبي من السلطان ، و إقناع هذا الأخير بطلب حماية الإسبان ، للتمهيد لاستعمار الجارة الجنوبية . فكان يكثف تنقلاته ، و يستميل إليه أعوان السلطان في مختلف الأقاليم كمقدمة لتأليبهم ضده ، إلى أن انكششفت خطته و رُحل بالقوة من المغرب سنة 1805 . و نقل دومينيغو فرنشيسكو باديا المتنكر في شخصية أمير مسلم اسمه علي باي العباسي ، في كتابه مشاهدات و ملاحظات عن المجتمع المغربي في تلك الفترة ، مثل تلك التي يسوقها عن طنجة بنبرة لا تخلو من ازدراء استعماري و التي يقول فيها : « الطبع المميز لأولئك الناس هو الكسل ، فهم يُرَون جالسين أو ممددين في أية ساعة من ساعات النهار ، على طول امتداد الشوارع ،و في أمكنة عمومية أخرى ، إنهم مثرثرون أبديون و زوار ثقال ..» دومينيغو فرنشيسكو باديا ، قام برحلته ، التي مر فيها من مراكش ، في الفترة الممتدة من 1803 إلى 1807 ، إلى المغرب ، و طرابلس ، وقبرص، ومصر، و الجزيرة العربية و سوريا و و لبنان و الأردن و فلسطين و تركيا ، و شهد على الغزو الوهابي لمكة سنة 1807 أثناء أدائه للحج . البحث عن ابن رشد يغطي اسم ابن رشد مفارقة مراكشية من الطراز الأول . إذ لا يكاد باحث أو مؤرخ من المدينة يذكر صاحب» فصل المقال « حتى يربطه مباشرة بالمدينة الحمراء ، كما لو كان يجد في ذلك عزاء للنفس ، أمام خيبة الواقع ، و تنكر حاضر المدينة لأمجادها الحضارية و الثقافية . أي ذلك التنكر الذي يعكس فداحة ما نحياه في مدينة لم تعد قادرة على تحمل ثقل تاريخها الكبير ، فشرعت في معاداة كل إشارة احترام له و لو كانت ضئيلة القيمة . فأين مراكش اليوم من ابن رشد ؟ ما الذي تحتفظ به هذه المدينة من النفوذ الرمزي لهذا الرجل الذي يخترق التاريخ ؟ أي أثر تصونه عاصمة النخيل عن هذا الاسم الكبير الذي مر منها و أقام بها ، حيا ثم ميتا و لو لأشهر قليلة قبل أن ينقل جثمانه إلى الأندلس؟ تحيا المدن بأولئك الذين يُؤسطرونها بأسمائهم ، تذكرنا بهذه الحكمة كبريات المدن العالمية ، كباريس سارتر و سيمون دوبوفوار ، و قاهرة نجيب محفوظ و أم كلثوم ، و نيويورك بول أوستر ، و فينيسيا فيفالدي، و بيروت فيروز ، و بغداد شاكر السياب ، و طنجة محمد شكري ، أي تلك الأسماء التي تكاد هذه المدن من دونها تنسى ، و لاتسترجع إلا كامتداد أسود للزحام و السرعة و الجشع . تبنى أمجاد المدن في قلب أساطير شخصياتها ، الذين يحولونها إلى مملكة شاسعة تمتد في وجدان أقوام و ثقافات متباينة ، و يجعلون منها حلما مطلوبا يتعقبه الناس في رحلة بآلاف الكيلومترات ، يبحثون فيها عما يشير إلى الحضور الأبدي لهذه الرموز في فضاءات المدن التي ارتبطت بهم ، و عن الاعتبار الذي تحتفظ به في حقهم ، ذلك الاعتبار الملموس الذي تفصح به المدينة في تفاصيلها المعمارية و تشكلاتها المادية و الرمزية و الجمالية . كل من زار ، من مراكش، حواضرَ بعينها ، يحس بمرارة هذا الفقر و الجحود التي تواجه به عاصمة المرابطين تاريخها و الذين صنعوا مجدها و في مقدمتهم أبي الوليد ابن رشد . فعندما تزور تونس العاصمة و ترى بعينيك إلى أي حد تكرم المدينة صانع مجدها ابن خلدون بتمثال ضخم منصوب في أكبر شارع بها ، و عندما ترى عشرات التماثيل التي تنصبها القاهرة لعظماء مصر ، في قلب كبريات ساحاتها و ميادينها و شوارعها ، ناهيك عن المدن الأروبية ، حينها تشعر بفداحة ما تعرض له ابن رشد بمراكش . ذلك الطمس النهائي و التام لأي علامة تحمل اعتبارا للرجل . ستبحث في المدينة الحمراء عن شارع ، أو حتى زنقة أو زقاق صغير ، يحمل اسم ابن رشد ، و لن تجده ، ستبحث عن أية علامة لتخليد ذكراه في ساحة باسمه ، أو نصب تذكاري له ، و لن تعثر عليه . وحده النسيان و الجحود و التنكر و الإصرار على الأسوأ و الأردأ هو ما يتمادى في الاستحواذ على إرادة الحاضر. ما تفوّته مراكش بهذا الجحود ، هو فرصة صيانة روحها ، تلك الروح التي تجتهد المدن العالمية بتعميق حضورها من خلال صيانة أمجاد عظمائها من مثقفين و فنانين وسياسيين و كتاب و رياضيين ، و تحولهم إلى رأسمال حي ممتد في الزمن . يطل اسم ابن رشد على مراكش اليوم بتهكم . فهو الذي يكرم المدينة ، و يبني مجدها ، وتكفي لإثبات ذلك ،تلك الإشارات التي تتكرر في الآلاف من الكتب التي ألفت و مازالت تؤلف عن أبي الوليد ابن رشد بمختلف اللغات ، و التي لابد أن تذُكر بعلاقته بالمدينة و وفاته بها و رقاده لمدة ثلاثة أشهر بقبر قيل أنه هو الذي يثوي رفاث ابي العباس السبتي . فضل عائلة ابن رشد على مراكش إلى اليوم كبير . و يكفي أن نذكر أن ابن رشد الجد كان هو من أشار على السلطان علي بن يوسف ببناء سور المدينة الذي يمثل أول أثر تاريخي تدركه العين بمراكش ،لأنه واجهة المدينة و رمز حمايتها . و ذلك ما يفصل فيه صاحب « الحلل الموشية في ذكر الأخبار الأندلسية «. حان لمراكش أن تصحح وضعها اليوم بالنسبة لتاريخها ، أن تعيد ابن رشد إليها ، أن تكرمه كما كرّمها . و أن تتيح لمن يبحث عنه بها أن يعثر عليه في ساحة محترمة تحمل اسمه أو شارع أو نصب يليق بعظمته . حان لها أن تستفيد من مجده. يوغوسلافيا ، زنقة بمراكش لن تجد اليوم أثرا ليوغوسلافيا في خريطة العالم السياسية ، لن ترصد موقعها بغرب البلقان و جنوب شرق أروبا ، لكنك ستعثر عليها بمراكش . انمحى الاتحاد اليوغسلافي من جغرافيا عالمنا ، واختفت حدوده بعدما جرفتها رياح انهيار حائط برلين ، و مزقت أطرافها الحرب المدمرة بكلفة دموية هائلة ، لكنها هنا في مراكش صامدة ، لها تراب و حدود و حتى نفوذ . في مراكش ، يوغوسلافيا اسم لزنقة كبيرة ، تمتد عابرة شوارع مهمة في قلب جليز ، تربط مابين شارع محمد الخامس و شارع الحسن الثاني . لم تأبه للتقلبات الجيوسياسية التي عصفت بالعالم و محت دولا و ولدت أخرى . و ظلت الزنقة تحمل اسم كيان بائد لم يعد له وجود منذ سنين طويلة ، كما لو كانت المدينة متحفا للكيانات السياسية المنقرضة . زنقة يوغوسلافيا ، متحف حقيقي لذاكرة مهملة بالمدينة الحمراء . على امتدادها تواصل أطلال بنايات كان لها شأن و قيمة ، و بعضها يقاوم إلى اليوم . هناك أولا بناية الإذاعة الجهوية ، التي ليست هي مجرد مكروفون مفتوح على الأثير و لكن ذاكرة بقيمة عالية ، أرشيف صوتي لعظماء القرن العشرين ، من كبار الفنانين الذي مروا من مراكش و الكتاب و المفكرين و السياسيين ، الذين ماتوا و ظل صوتهم حيا مجلجلا . أرشيف الإذاعة الجهوية بمراكش ، كنز ثمين دعا الكثير من المثقفين و منذ سنين إلى ضرورة حمايته ، و توثيقه ، فيه نعثر على صوت بدر شاكر السياب و أدونيس و سعدي يوسف و أم كلثوم و يوسف إدريس و بلند الحيدري ، و زعماء الحركة الوطنية و كبار الفنانين من عيار مولاي عبد الله الوزاني عراب طرب الآلة بالمدينة ، و مثقفيها ، و منهم أسماء لم تعد تذكر ، و رياضييها .. دون أن ننسى أصوات كبار إعلامييها . هذا الأرشيف ، لو توفر لمراكش مسؤولين محليين في حجم المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم ، لأحاطوه بأصابع من ذهب . لأنه ذاكرة مراكش الحديثة الموثقة صوتا . إنها وجه جميل لمراكش الحية . قرب الإذاعة ، ثبتت لافتة معدنية صغيرة كتب عليها « زنقة يوغوسلافيا .» زنقة يوغوسلافيا هي أيضا « سيتي فوكيه « التي تسمى في عرف بعض المراكشيين بدرب الصبليون ، فيما يقول البعض الآخر أنه منذ أزيد من ستين سنة كان يسمى بدرب الطليان ، أما درب الصبليون فهو المتواجد خلف تجمع المطاعم المختصة في المشويات ( بجكني) بجليز . تحافظ سيتي فوكيه على روح البنايات البسيطة المركبة في انسجام مع شريط أخضر من الأشجار التي تقابل أبواب هذه البيوت ، و منها أشجار التوت الكبيرة . و غير بعيد عن «سيتي فوكي « تنتصب أطلال فندق الكتبية ، الذي تحولت غرفه و أجنحته إلى ما يشبه بنايات بيروت في عز الحرب الأهلية . الفندق يشهد في زمانه على أيام جميلة لجيل من الزوار الذين كانوا يجدون في مراكش لحظة استثنائية لحكمة البساطة التي تحتضر . تحتفظ مراكش بيوغوسلافيا ، رغم أن التاريخ شطب عليها من دفتر حاضره ، و لكنه يدخر منها اسما كبيرا ، هو المارشال تيتو . اليوم يمر المراكشيون من زنقة يوغوسلافيا دون تعني لهم شيئا ، أو تثير التسمية اهتمامهم . لكن وفود الأجانب الأروبيين ما يكادون يرمقون اللوحة المعدنية التي تحمل اسم الزنقة ، حتى يتقافزون فرحا كما لو كانوا أطفالا عثروا على لعبة ضائعة ، و يشرعون في التقاط صور لهم قرب اللوحة تذكارا لما أتلفه التاريخ . لا تذخر مراكش فقط دولا انقرضت ، لكنها أيضا الفضاء الذي يمكن أن يفاجئك في أية لحظة و عند أقرب منعرج أو التواء ضيق بأحد ممراتها العتيقة ، بإشارات نادرة لأشياء و منتوجات محاها التطور السريع للإنتاج و التصنيع. هناك مثلا تصادف على واجهة متاجر لم تغير من شكلها منذ ستين أو سبعين سنة، لافتات إشهارية لمشروبات انقرضت منذ عقود منها : كندا دراي ، أو يوكي ، أو بيان كولا أو أبلا ، أو لا سيكون بطائرها اللقلاق الماكر، و مشروبات محلية كخريف و أطلس، تبعث فيك عند رؤيتها الحنين لزمن ولى . و في هذه الالتواءات أيضا ، في قلب المدينة العتيقة ، تفاجئك محلات بعينها ، لحلاقين ، أو موسيقيين ، أو خياطين تقليديين ، و هي تحافظ على تلك الصورة الأسطورة للراحل محمد الخامس بطربوشه الوطني ، والشهيرة بإطارها المعدني الذهبي اللون ، و إلى جوارها صور جمال عبد الناصر و جواهر لال نهرو و سوكارنو ، تلك الصور التي تختزن ذلك الإحساس الوطني الذي عمر قلوب جيل بكامله . يقال أن زنقة يوغوسلافيا ، كانت تسمى قبل ذلك ، بشارع الاسكندر الأول . و فيها عاشت مراكش الفرنسية أمجادها . من يذكر الآن قاعة سينما باريس و سينما بلاس و سينما اللوكس ، التي فجرت خيال وأحلام فئة عريضة من شباب مراكش. تلك القاعات التي تنتمي إلى نسيج واحد ، هو مراكش الفن و الجمال و الحياة الخفيفة ، التي لم يتبق منها اليوم سوى الحكايات و الذكريات . لعنة المعتمد انقلبت مراكش على مؤسسها . ذلك ما يفصح به واقع الحال الذي يوجد عليه ضريحه بسيدي ميمون . فهي تصر اليوم على إهانته ، و إهماله في حطام قبر يبول عليه السكارى . لاشيء فيه يوحي أنه مرقد سلطان عظيم ، أو على الأقل مؤسس مدينة ، و يوما بعد تزداد حالته سوء . كما لو كانت بذلك تعلن شكلا غريبا من الاعتراف بجميله. يتساءل الكثير من الطيبين ذوي النوايا الحسنة ، لماذا لا تقيم مراكش نصبا تذكارية لهذا الفنان من أبنائها ، أو لذلك الكاتب ، أو ذاك الوطني أو الرياضي ، لماذا لا تخلق مدارا ثقافيا لأهم المواقع التي نشأ فيها كتابها و مفكروها و سياسيوها ، فتحفظ في ذلك ذاكرة جديرة بأن تصان و أن تحترم ؟ لكن طيبوبة هؤلاء تعميهم ، لأن الإجابة تعلن بوضوح عن نفسها و تقدم بالقرب منهم برهانها القاطع . فإذا كانت المدينة تحتقر مؤسسها ، و تهينه في كل لحظة بخراب يحيط قبره ، فكيف لها أن تعترف بهؤلاء أو تمنحهم احترامها . من يرى مآل يوسف بن تاشفين ، يقتنع أن المدينة التي سميت بالحمراء ، تفرغ نفسها من تاريخها ، كما حدث بالضبط مع ابن رشد و غيره ، كما لو كانت تبعث برسالة واضحة بأنه لا حاجة لها بتراثها . ذلك ما تؤكده الفوضى و التدهور الذي يهيمن على المدينة العتيقة ، و على مآثرها التي انقرض بعضها مثلما حدث مع معمل السكر التاريخي بطريق تسلطانت. ربما أن مراكش مقتنعة أن نسيان البدايات و طمرها مَعْبر حتمي لاستدعاء المستقبل . في شهر فبراير 2013 حطت بمطار المنارة طائرة خاصة تقل ثمانين كاتبا إسبانيا ، جاؤوا في رحلة جماعية على نفقتهم ، من أجل توقيع كتاب جماعي صدر في حلة بديعة تكريما لذكرى الشاعر المعتمد ابن عباد . نظموا احتفالاتهم فيما بينهم ، و زاروا ضريح المعتمد باغمات ، دون أن يأبه لهم أحد من المسؤولين بالمدينة الحمراء .لا استغراب في ذلك لأن تجاهل المثقفين ثابت لا يتغير في هذه المدينة . الطريف في هذه الرحلة أنها كانت ردا للاعتبار لشاعر حاول ابن تاشفين إهانته بأسره و سجنه باغمات . كان يرغب أن يرى فيه المأسور الذليل . أن يجعل اغمات شاهدا أبديا على هذا الإذلال الذي أراد للتاريخ في امتداده المستقبلي أن يكون علامته الكبرى . لكن كل شيء انقلب إلى ضده ، و صارت اغمات جرحا لصيقا باسم ابن تاشفين ، لأن لعنة الشعراء كما قال آية وارهام الشاعر المراكشي في مساهمته في الكتاب المذكور إذا انصبت على مكان تَحوَلَ إلى جحيم لا خلاص منه. تحولت اغمات إلى قرية منسية تقتات من الفقر الذي فُرض عليها . و تحول ابن تاشفين إلى ماهو عليه اليوم . مراكش تأسر اليوم ابن تاشفين في حطام قبر لا يستطيع أحد أن يستنتج منه أن الراقد فيه هو السلطان الذي تنسب إليه كل هذه البطولات ، بطولة الزلاقة ، و بطولة عشقه لزينب النفزاوية حتى أنه أسس مراكش تلبية لرغبتها ، و بطولة تمديده الحكم العربي بالأندلس . إنها تجعله يعيش إذلالا أسوأ من ذلك الذي فرضه على المعتمد . بل العكس هو الذي وقع ، فمنذ 1970 بُني للمعتمد بمكان أسره ضريحا فخما ،جديرا بهيبة ذكراه ، و صار مزارا يقصده الشعراء و المؤرخون و عموم السياح الذين يأتونه من مختلف أنحاء العالم ، يتعرفون فيه على وجه مكر التاريخ ، ذاك المكر الذي عبر عنه الشاعر أحمد بلحاج آية وارهام قائلا :» أعجب من لعبة القدر مع الناس في حياتهم ومماتهم ، فهذا المعتمد الذي أريد إذلاله وامتهان كرامته قد صار شامخا في مماته بهذا الضريح الذي يأويه ، أما من أذله فهو يقبع في قبر منسي بئيس داخل ضريح متآكل الجدران ، مشبع بالرطوبة ، يبول على جوانبها المشردون والسكارى ، وكأنه قبر مجهول لم تكن له في يوم من الأيام يد أسهمت في صناعة التاريخ .» مراكش اليوم هي لعنة المعتمد على ابن تاشفين .