نحن هنا أمام مفكّر كبير اشتغل في قضايا الفكر منذ نهاية الستينيات إلى حين رحيله؛ مفكر «يفضحه» أصدقاؤه المقربون منه، في شهاداتهم بعد رحيله، يقول البعض إن هذا المفكر لا وقت له للراحة، فهو دائم البحث والتنقيب والقراءة والكتابة. ويقول عنه البعض الآخر إنه طُلب منه- بمزحة الأصدقاء- إتمام مشروعه نقد العقل العربي عبر إزالة اللثام على العقل العلمي العربي والعقل الجمالي العربي إلا أن إجابة مفكرنا تفتح الأفق لمفكرين آخرين للبحث في هذا المقترح بدعوى أن أيامه أضحت معدودة، وأنه بالكاد انتهى من الجزء الرابع من مشروعه الفكري. إن هذه الشهادات لا تقدّم سوى هامش منسى من حياته لا تعرفها إلا القلة القليلة من المقربين منه. لا يعني هذا الحديث العودة إلى حياة المفكر، بل اللافت في نظرنا هو قوة فكره والدعامة الاستراتيجية الواضحة التي يتأسس عليها ويؤسسها. وهي قوة تشي بالاحترام والتقدير، كما أنها تظل موسومة بقدر كبير من الشجاعة للتفكير في قضايانا الفكرية الراهنة رغم مآسي وتعثرات هذا الراهن. لا يتعلق الأمر بتوظيف معياري قيمي يفيد الاعتراف برجل كَرَّس حياته للفكر والمعرفة؛ كتابةً وتدريسًا ونضالًا. نحن، إذن أمام مفكر متعدد، يفرض علينا تعدده حصره في موضوعة بعينها. موضوعة التراث. إن تعامله مع التراث ينم على تحريره من المكتبة الاستشراقية، ومكتبة المحافظين التقليديين. وهو، بذلك يتجه نحو ما سماه عبد السلام بنعبد العالي ب «شيوعية تراثية»؛ أي أن هذا التراث لم يعد حكرا على فئة دون غيرها. والبحث عن المبررات التي اقتضاها سجنه في المكتبات الخاصة بدعوى صعوبته وما إلى ذلك. لا يتعلق الأمر هنا بالتحقيق، بل بالشهادات التي يقدّمها الجابري في كتبه. إن قراءة كتاب من كتبه لا تخلو من استعراض مستفيض للاستشهادات التراثية، حتى يظهر للقارئ أن ما يكتبه الجابري في كتاب واحد ليس سوى نصف الكتاب بينما النصف الآخر للاستشهادات. إن هذه الأخيرة هي ما تدفع قارئ الجابري إلى البحث عن المصدر بقدر ما يُسهِّل على قارئه الغوص في المكتبة التراثية. لكن بالمقابل يُحرِّض قارئه على الاهتمام بهذه المكتبة. إن «شيوعية التراث» موسومة بهاجس بيداغوجي قلما نجده عند المفكرين العرب المعاصرين. كأن الجابري- حين يكتب- يستحضر القارئ، ليس من حيث هو قارئ متخصص فحسب. بل كقارئ محتمل قد يدفعه أسلوبه للتخصص أو ما يشبهه. إن المفكر هو أسلوبه، وفكره لا يمكن النظر إليه إلا في السياق الذي أُنتِج فيه. لقد كان الجابري في شبابه مناضلًا عمليًا، يمارس السياسة كما الرعيل الأول في المغرب المعاصر. ولأنه كذلك، فقد تشبع بأفكار المرحلة، المتمحورة حول التحرُّر من الاستعمار وزبانيته، والتحرر من السلطة التقليدية برمزياتها المتعددة. إن الهاجس السياسي ظل حاضرا في كتابات هذا المفكر إن لم نقل في استراتيجياته الفكرية. وليس الهاجس مبنيا على الممارسة العملية لرجل السياسة، بقدر ما هو الإطار العام الذي يشير إلى المبتغى والمراد من اشتغاله بالفكر. كأن السياسة حاضرة في تفكيره بوسمها بوصلة النهضة والتقدم. إن تعامله مع التراث، يستدعي أكثر من وقفة في أكثر من كتاب نشره منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي. وقفة يؤكدها هو نفسه في أكثر من مرة. إن هاجسه في تعامله مع التراث هو تحريره من السلطات التقليدية التي تتحكم فيه سياسيا ولأجل هذا التحرير، رسم لنفسه طريقا جديدا كانت بدايته ترسيخَ الدرس الفلسفي بالجامعة والمدرسة المغربيتين (الترجمة، الكتاب المدرسي، التدريس...) ثم الكتاب الذي أحدث نقاشا مهما في الساحة الثقافية، والأكاديمية العربيتين. كتاب نحن والتراث، الذي رسم لنفسه منهجا جديدا ورؤية مغايرة للقراءات التي تمت في تلك المرحلة وقبلها. إنه المنجَز الرئيس الذي استفاد من درس الإبسيتيمولوجيا والعلوم الإنسانية المعاصرة. مثلما قام بتبيئة تلك المفاهيم النقدية المعاصرة، في ثقافتنا العربية، قراءة جديدة تم بمقتضاها زعزعة تاريخ الفكر العربي الإسلامي، عبر استعماله لمفهوم القطيعة الإبسيتمولوجية الحاصلة بين الفلسفة المشرقية والفلسفة المغربية قراءة مغايرة فتحت التراث العربي على مقاربات علمية منفتحة، مثلما دشنت لنفسها اعترافا من لدن الأكاديميين، وبالتالي أعطتنا قراءات أخرى، تسير في نفس الطريق. هكذا سيكون هذا الكتاب جسرا لفتح عوالم في هذا التراث، لتملّكه وتجاوزه في الآن نفسه.وهي الأطروحة التي ما لبث الجابري ينادي بها، والمتمثلة في سؤال النهضة المؤجل، والكبوات والانكسارات منذ استعمار الوطن العربي واستغلاله إلى اليوم؛ ذلك أنه لا يمكن تجاوز هذه الانكسارات إلا بعد تمثلنا العميق للتراث ليس من حيث كونه مادة معرفية، بل قصد البحث عن الوظائف الإيديولوجية التي يمارسها وينتجها باعتبارها مفعولات للسلطة والحقيقة. إن المعرفي في التراث، لم يعد قابلا لأن يعيش بيننا، ولكن وظائفه الإيديولوجية هي الأكثر اشتغالا في الجسم العربي. هكذا يؤسس الجابري مشروعه الفكري والإيديولوجي. فهو، من جهة، يصالحنا معه، ويقوم بفتح مصالحة الراهن العربي مع تراثه. وهو من جهة أخرى يبحث في كيفية تجاوزه من داخله. إن هذه المسألة لا تروم الارتماء في التراث، باعتباره منقذا من الضلال، ولا تروم التماهي مع الغرب عبر اقتفاء أثره. إن الجابري يؤزِّم هذين الخطابين عبر تفكيك الإواليات التي تؤسسهما، مثلما يُعرِّي ما تم السكوت عنه. بل أكثر من ذلك إنه يخلخل القراءة الماركسية ودعواها التراثية. يفيدنا هذا القول في كون الجابري لا يبدأ من فراغ بقدر ما تتأسس أطروحته الأولى في نحن والتراث على مناقشته ونقد القراءات التراثية بما في ذلك النظرة الاستشراقية. إن كتاب نحن والتراث هو العتبة الأولى التي ستحمل مفكرنا إلى بناء مشروعه الفكري الضخم نقد العقل العربي بأجزائه الأربعة. وهو المشروع الذي يطرح عنوانُه سؤالا كبيرا من قبيل السؤال الكانطي حول حدود العقل، كأنه يريد مسح الطاولة بالبحث عن هذا الذي ينتج الفكر والمعرفة، بل هذا الذي ينتج السياسة والقيم: التراث إذن، لم يعد مكتبة في الأرشيف، بل أضحى عقلا تتم بمقتضاه إعادة تبويب مجالاته، وإعادة تدوينٍ جديد؛ يقول الجابري: «وإذن فالسؤال: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ أو لماذا لم تتطور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية العربية في القرون الوسطى إلى نظام رأسمالي رغم ما عرفته تلك الأوضاع من اقتصاد بضاعي واسع ومتطور؟ أو لماذا لم تتمكن النهضة العربية في القرون الوسطى من شق طريقها نحو التقدم المطرد؟ هذا السؤال سيكون ناقصا ومحدود الآفاق ما لم يُطرح على الصعيد الإبسيتمولوجي، وأيضا ما لم يتجه مباشرة إلى العقل العربي ذاته. وذلك لأن «المسلمين إنما بدؤوا يتأخرون حينما بدأ العقل عندهم يقدم استقالته، حينما أخذوا يلتمسون المشروعية الدينية لهذه الاستقالة في حين بدأ الأوربيون يتقدمون حينما بدأ العقل عندهم يستيقظ ويسائل نفسه. أما الرأسمالية فهي بنت العقلانية»1. واضح إذن، من خلال هذا القول حضور السؤال الثاوي الجلي في مشروع مفكرنا. وهو المتمثل في المشروع النهضوي العربي الذي لم يتحقق بعد. لقد وجد الجابري في بنية العقل الموضوعة الأساس في عدم هذا التحقق، مثلما أن ثنائية الشرق/ الغرب حاضرة سواء بشكل ضمني أو بشكل صريح يفيد التمثيل والمقاربة والبحث... إن الذي يهمنا من هذا القول هو موضوعة العقل التي استشكلها بشكل يفيد إعادة النظر في تاريخ الفكر الإسلامي وفي التصنيفات التي قدّم بها هذا التراث قصد بناء المكتبة التراثية من جديد. إنها جينالوجيا الفكر العربي من حيث هي إعادة بناء معماريتها من خلال مجالين محددين وهما: التكوين والنقد.