ضمن فسحتها الصيفية لهذه السنة، طرحت يومية ليبراسيون سؤال «من أين تكتب؟» على مجموعة من الكتاب والباحثين في مجالات مختلفة، وهو السؤال الجغرافي الذي تتفرع عنه عدة علامات استفهام تستدعي طقوس الكاتب وتاريخه الذاتي الذي تتشرب منه كتابته. إنها طريقة ابتدعتها الجريدة الفرنسية لمقاربة خيمياء الكتابة التي تظل دائما فاتنة وآسرة. ضمن السلسلة المذكورة، نشرت اليومية في عددها المؤرخ في 2 غشت الجاري مساهمة الكاتب الدنماركي يورغ رييل الذي شارك في بعثة علمية إلى غرونلاند (الواقعة بين منطقة القطب الشمالي والمحيط الأطلسي، شمال شرق كندا) ليمكث هناك طيلة ست عشرة سنة. وهو يعتبر راوي حكايات القطب الشمالي الخرافية بامتياز، صدر له «قيل وقال من القطب الشمالي». قال راوي الحكايات الخرافية هانس كريستيان»السفر هو الحياة». وكان بإمكانه أن يضيف: الحياة هي الكتابة. لولا الأسفار لما وجدت كتب. أدركت هذا المعطى مبكرا، ومنذ ذاك سافرت كثيرا وكتبت كثيرا وعشت كثيرا. قادني سفري ال,ل إلى القطب الشمالي. رغم صغر سني، أصبحت رئيس محطة في إطار بعثة علمية إلى غرونلاند الشمال الشرقي. لم تكن مهمتي عسيرة لأن الفريق كان يتكون من عشرين كلبا للزلاجات وفردا من قبائل إنويت (أوغجي). وبما أنني كنت شابا وطموحا، فقد رغبت في إدماج أمر جديد في حياة البعثة: الثقافة! أي أمسيات أدبية يلقي خلالها أحدنا، في مطلع كل شهر، محاضرة يستمد موضوعها من قراءته للكتب التي تحتوي عليها مكتبة البعثة. ونظرا لكوني الوحيد الذي يعرف القراءة والكتابة، فقد كان علي إلقاء المحاضرة الأولى. قرأت كل الكتب التي بحوزتنا، وهو أمر كان جد يسير لأننا لم نكن نتوفر إلا على ثلاثة مؤلفات: كتيب حول تقنيات الراديو، ودليل للاتصالات السلكية يتكون من 1200 صفحة وكتاب موجه للمساعدات الشابات الغرونلانديات في الأشغال المنزلية مكتوب بلغة إنويت. حل يوم فاتح دجنبر. كان الخارج يسكنه الليل وعواصف الثلج ودرجة حرارة لا تتجاوز 30 درجة تحت الصفر. كنا في الداخل، يلفنا الدفء وتنيرنا لمبة من نوع بتروماكس، بينما درجة حرارة الأرضية ثماني درجات تحت الصفر. جلس أوغجي مسندا ظهره إلى المسخن، ونظر إلي بترقب كبير. وحسب رأيي، فقد ألقيت محاضرة رائعة، مفتتحا إياها بالحديث عن حسنات مسجل الذبذبات، قبل التطرق إلى إشارات الاتصال عبر الراديو في منغوليا ?الخارج والداخل- والختم بفن تهيئ حلوى مشروب الصودا التي تقلص الطاقة الجنسية للرجال. لكن أوغجي استغرق في نوم عميق طوال المحاضرة. أدركت حينها أنه من اللازم تغيير الموضوع. هكذا، ألقيت محاضرتي الثانية في فاتح يونيو، وكانت محاورها كيفية عيشنا في البعثة، والقناصة الذين نصادفهم، والرحلات بواسطة الزلاجات والقنص. لقد حاولت، باختصار، وصف حياتنا هناك في الأعالي. وكان أن بقي أوغجي مستيقظا طوال الوقت، ليشجعني اهتمامه على تحويل المحاضرات إلى حكايات، وهو ما ولّد حكايات «القيل والقال» قبل ستين سنة، هناك في غرونلاند الشمالية الشرقية. ليس هناك أسفار بدون حكايات القيل والقال. وهذا ليس صحيحا بالنسبة للأسفار إلى غرونلاند فحسب، بل أيضا إلى آسيا الجنوبية الشرقية والشرق المتوسط، وخاصة إلى إيريان جايا في غرب غينيا الجديدة. كنا قد تركنا وادي بالييم، وبعد ساعات من البحث عثر ربان الطائرة الأسترالي على حقل معشوشب باستطاعته الهبوط فيه، وسط هضاب غينيا الجديدة الغربية المرتفعة. غادرت الطائرة بعد أن وعدني الربان بأنه سيعود عقب أسبوعين لأعود معه... لم يظهر أي أثر للأهالي طوال مكوث الطائرة أرضا. لم يحضروا إلا بعد إقلاعها واختفائها تماما عن الأنظار. بمجرد رؤيتهم، تأسفت على إقدامي على هذا السفر. إنهم حوالي أربعين رجلا، عراة تماما إذا ما استثنيا وضعهم ل»كوتيكات» طويلة ومهيبة، وهي عبارة عن أغماد لأعضائهم التناسلية. وهم يحشرون في أنوفهم أنياب خنازير وحشية مربوطة إلى بعضها البعض وموجهة نحو الأعلى، ووجوههم ملطخة بالأصباغ. كانوا جميعا يحملون رماحا طويلة ذات رؤوس حجرية. ركضوا في اتجاهي عبر الحقل وهم منحنين أماما ليطوقوني، بعدها أصدر محارب مسن أمرا مهمهما، ركل حقبتي ثم شرع في السير نحو القرية، فما كان علي إلا أن أتبعه. يحيط بالقرية سياج مرتفع وعريض من العوسج، يتم تجاوزه عبر درج. أخذوني أمام منزل فسيح بيضاوي الشكل. منزل الرجال. رموا حقيبتي داخل المنزل، لكن لا أحد منهم نظر إلي ولا كلمني. رغم أنهم لم يكونوا ودودين، فهم لم يكوموا كذلك قساة. كانوا بالأحرى لا مبالين. مسندا ظهري إلى جدار المنزل، ظللت جالسا طوال بقية النهار في انتظار ما سيفعلونه بي. بعد حلول الليل فقط، وبعد أن التهمتني حشرات الوادي الضخمة، أخذني إلى الداخل شابان قويا البنية. بأصبعه، أشار رجل مسن سأكتشف لاحقا أنه ال «كاي»، أي «الزعيم»، إلى الأرض قرب المدخل، فجلست هناك. المنزل فسيح، وهو يتوفر على منصة توفر للكثير من المحاربين الشباب مكان للنوم. أما رائحة كل هذا الحشر من أجساد الرجال غير المغتسلة، التي تنبعث منها نتانة العرق وشحم الخنازير الفاسد، فكانت لا تحتمل. ظل الصمت سيد الموقف طويلا داخل الغرفة المترامية الأطراف، كما لو أنهم في انتظار شيء ما. كانوا يحذقون في جميعهم، فشعرت بارتفاع سرعة دقات قلبي. ثم، وبشكل مفاجئ، اخترق صوت حاد الغرفة، كان منبعثا من المنصة. عقبها، لمحت رجلا يساعده الآخرون على النزول عبر سلم قبل أن يمددوه أمام نار خفيفة. الرجل شاب. وجهه يتلوى من الألم وهو يمسك بكل ما أوتيت يداه من قوة بصدغيه. أشار الزعيم بأصبعه إلى المريض أولا، ثم إلي ثانيا. هل ظنني سبب آلام الرجل؟ كنت أراقب كل هذه الوجوه الصارمة والمنغلقة، واشعر بالرعب يزحف إلى دواخلي. هل انتهكت محرما؟ هل هم قساة إلى حد لا يتصور مثلما تزعم سمعتهم؟ مددت يدي إلى حقيبتي لأستخرج منها حافظة الأدوية، حملق الجميع في علبة الأسبرين التي أخذتها من الحافظة. سحقت قرصين في كأس قبل أن أسكب داخلها قارورتين صغيرتين من الويسكي كنت قد حصلت عليهما خلال رحلتي الجوية من جاكارتا. مزجت الخليط وسط سيادة جو من الصمت الجنائزي على المنزل، إذ لا صوت كان يتسلل إلى الآذان باستثناء صدى السكين في قعر الكأس. لقد حضرت في السابق مشاهد أثثتها أوجاع في الرأس مثيلة للتي تؤلم الرجل، كما أن عائلتي عرفت مرض هورتون وداء الشقيقة. بعد الذوبان التام للقرصين، زحفت نحو المريض ورفعت رأسه لمساعدته على تجرع «الدواء». كانت أول كأس ويسكي يشربها، وقد احتساها جرعة واحدة بعد أن سعل قليلا، ليستسلم عقبها لسبات عميق . كان المحاربون يحذقون في. بدأت جماعة منهم تتهامس، بينما وجهت أخرى فؤوسها الحجرية صوبي. صعقني الهلع وتذكرت كل ما سبق لي سماعه وقراءته حول شعب البابو بالهضاب العليا. أفراد هذه القبيلة، التي لم تصلها بعد التهدئة العسكرية، قناصة لرؤوس البشر وأكلة للحومهم. إنهم يلتهمون مخاخ ضحاياهم بعد مزجها بديدان دقيق النخل، يبترون أصابع نسائهم لما يفقدون قريبا ويستعملون الجماجم البشرية كوسادات تكريما للموتى، وهم الذين قتلوا ميشيل روكفيلر لأنه التقط أصواتهم في آلة تسجيل. المريض لم يسترجع وعيه بعد، وكلما كان محارب يضع يده على فأسه الحجري، كنت أظن لحظة توديع الحياة قد دقت: ربما هشم أحدهم جمجمتي بفأسه أو طعنني بخنجره المصنوع من ضلع خنزير. لم ينتبني أبدا هلع مثل الذي شعرت به حينذاك. مكثنا جالسين طوال الليل، كما أن المريض لم يتحرك إلا حين تسلل أشعة الشمس الأولى إلى المنزل عبر شقوق لوح المدخل. فتح عينيه، تطلع بهما إلى ما يحيط به باندهاش قبل أن ترتسم ابتسامة عريضة، موجهة لي خصيصا، على محياه. لقد تبخرت آلام رأسه، وها هو يجلس وينزع ناب الخنزير المزين لأنفه ليمده لي. حركت رأسي تعبيرا عن عدم قبول الهدية، محاولا أن أفسر له عدم توفري على الثقب اللازم في الأنف لاستعمال الناب. حينها، دس زعيم القبيلة يده إلى الخلف ليلتقط «كوتيكا» ?غمد العضو الجنسي? طويلة وأنيقة. بالطبع، لم يكن باستطاعتي رفض الهدية هذه نظرا لتوفري على ما يلزم. بمساعدة أياد متحمسة كثيرة، ارتديت الزي اليومي للبابو ?غمد القضيب?، ليتحول الجو رأسا على عقب داخل المنزل. لم أكن أرى غير ابتسامات رقيقة، ولا أسمع سوى أصوات فرحة، ولما افتتح لوح المدخل وولجت الشمس عبره المنزل، وجدتني أتذكر بامتنان مضيفة الطيران التي زودتني بقنينتي الويسكي الصغيرتين وأفكر في اليوم الجديد. السفر هو الحياة، كم كان صادقا راوي الحكايات الخرافية العجوز! لقد أقررت بمصداقية كلماته هذه لما غادرت وادي بالييم وأنا على قيد الحياة.