لم يكن العقل المغربي في يوم من الأيام عقلا متحجرا. ولا كان ينساق بسهولة مع الشعارات البراقة، والأفكار والتوجهات بل ظل دوما مشبثا بهويته الدينينة، والوطنية، واللغوية، والثقافية، ولثوابته المذهبية من عقيدة سنية وسطية، وفقه مالكي، وسلوك تربوي معتدل، ووفيا لروح الانفتاح والتجديد والحرية والتحرر والإنصاف. ومن خلال هذه السلسلة سنتلمس جميعا مجموعة من مواقف علمائنا المستنيرين في مجموعة من القضايا التي تمس الجوانب العقدية، والفقهية والاجتماعية والسياسية... لنخلص منها إلى أن العقل المغربي دائما يشتغل في إطار المصلحة والأفق العام لم يكن سيدي عبد الحي القادري وهو يحاكم الحركة الوهابية يجاملها أو يطري أصحابها، ولو حتى في تلطيف العبارة، بل بدا ناقدا فاحصا لعثرات هذه الحركة وأخطائها فقد تمكن من أن يحصر تعاليم هذه الحركة في عشرة. وهو حين يعرض هذه التعاليم العشرة، يأتي على إبطالها ودمغها بالحجة والدليل مزاوجا بين العمليتين التعاليم العشرة: 1» يمنع الوهابيون من استقبال قبر رسول الله عند الدعاء ولا حجة لهم شرعية من كتاب أو سنة. وإبطال هذا المنع ظاهر فقد بينا إشارة الإمام مالك رضي الله عنه للمنصور العباسي بقوله «ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله بل استقبله» 2 «يمنع الوهابيون زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم معرضين على الأحاديث الواردة في الحض على زيارة قبره عليه الصلاة والسلام كقوله « من حج ولم يزرني فقد جفاني» .... وكقوله « من زارني في قبري فكأنما زارني في حياتي» ... على أنهم لو كانوا صادقين في اتباع مذهب الإمام أحمد لأقروا بندب الزيارة لأن إمامهم نفسه رحمه الله يقول إن الزيارة يستحب تقديمها إن كان الحج تطوعا. أما الإمام مالك فهو عنده وجوب تقديم الزيارة ما وسع الوقت للحج» 3 « الوهابيون ينكرون على الإمام البوصيري قوله في التوسل والتشفع بالجناب النبوي يا أكرم الخلق من لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم وكذا قول الإمام في نفس الموضوع إن لم تكن في معادي آخذا بيدي فضلا وإلا فقل يا زلة القدم وكذا قوله : ومن علومك علم اللوح والقلم ونرد على الوهابي لإبطال هذه التعاليم الفاسدة، والانتقاد الخائب، بأن التوسل والتشفع بالجناب النبوي جاء به الكتاب والسنة وقد سبق أن عرضنا لذلك قبل وسار بذلك عمل الصحابة والتابعين والسلف الصالح. وأن الإمام مالك يقول للمنصور العباسي « استشفع به يعني رسول الله يشفعه الله فيك» وكذلك الإمام الشافعي يتوسل بآل البيت النبوي فكيف بالرسول الأعظم. قال الإمام الشافعي: آل النبي ذريعتي وهم إليه وسيلتي أرجو بهم أعطى غدا بيدي اليمنى صحيفتي أما قول الإمام البوصيري «ومن علومك علم اللوح والقلم» ففيه إشارة إلى قوله تعالى (لايطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) ولاشك أن المرتضى من الخلق على الإطلاق هو الرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فاطلاعه صلى الله عليه وسلم على الغيب وردت به السنة وألف جمع كبير في اطلاعه على الغيب وأن الإسراء والمعراج من هذا النوع الغيبي. قال صلى الله عليه و سلم رأيت فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال تعالى (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) وقال جل علاه ( أفتمارونه على ما يرى) 4 إعلانهم الحرب الهوان على من يقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم مولده الشريف. وإننا نستعجب من حماقة هذه الطائفة التي حرمت حب هذا النبي الكريم الذي يشهد بعلو شأنه ومكانته الفضلى أعداء الدين ، كيف حرمت قراءة مولده الشريف والاجتماع على سرد مولده وهو المبعوث بالرحمة والإنسانية والأخلاق فذكراه ذكرى لكل الفضائل مع أن هذه السنة الحسنة أجمع علماء السلف المشارق والمغارب على ارتضائها وعمل بها ملوك الشرق والغربمنذ القرن الثالث الهجري فهي بدعة حسنة. فقد قال صلى الله عليه وسلم» من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» وهل هناك أفضل من مثل هذه السنة الاجتماع على ذكر الرسول (ص) وذكر معجزاته ... والأغرب من تحريم الوهابية لإحياء مولد الرسول (ص) هو أنهم في نفس الوقت لايهملون ذكر حياة زعيمهم الوهابي وسرد حروبه والقضاء على المسلمين. فهم بهذا يريدون أن يبقى لهم المجال واسعا ليختص الوهابي بذكراه دون سيد العالمين لقد جاء إلى المغرب بعد سنوات قضاها في مدغشقر ثم وهران بالجزائر، ليمارس مهام المقيم العام ل 14 سنة كاملة. وهي أطول فترة قضاها مقيم عام فرنسي بالمغرب. ليس هذا فقط، بل أهميتها التاريخية أنها كانت مرحلة تأسيسية لشكل الإستعمار الفرنسي في إمبراطورية لها منطقها الدولتي في التاريخ، في كل الشمال الغربي لإفريقيا، هي الإمبراطورية الشريفية المغربية. وأن كل أساسات الدولة الحديثة قد وضعت في تلك المرحلة، على مستوى إعداد التراب، أو التنظيم المالي، أو القضاء، أو التعليم أو الفلاحة. ومن خلال ما دونه في مذكراته نتتبع بدقة كيف ولدت كل تلك الترسانة التنظيمية للدولة المغربية الحديثة، بلغة صاحبها التي لا تتردد في وصف ذلك بالعمل الإستعماري، المغلف بالدور الحضاري. وهي شهادة فيها الكثير من جوانب الجرأة الأدبية التي تستحق الإحترام. ثم الأساسي، أنه كرجل سياسة كتب شهادته وأرخ للأحداث عبر مذكراته الخاصة، من وجهة نظره، ولم يلد بالصمت، بل كان له حس تاريخي، يتأسس على إدراكه أنه يسجل كلمته للتاريخ. لقد صدرت هذه المذكرات أول ما صدرت سنة 1927، أي سنة واحدة بعد مغادرته المغرب (بقي مقيما عاما بالمغرب من 1912 إلى 1926). ثم أعيد نشرها سنة 1944، قبل أن يعاد نشرها من قبل كلية الآداب بالرباط منذ سنة إحياء للذكرى 100 لاختيار الرباط عاصمة للمغرب. لنستمع لصانع من صناع التاريخ المغربي الحديث والمعاصر، كيف يروي قصة الأحداث من وجهة نظره. أو كما قال الزعيم اليساري الفرنسي فرانسوا ميتران عن مذكراته الخاصة هو: «هذه هي الحقيقة من الجهة التي كنت أنظر منها». أي أن للحقيقة دوما جهات أخرى للرؤية والنظر، يكملها عمليا المؤرخون. باريس: 14 مارس 1917. (تتمة 1). [خطاب كان مقررا أن يلقى أمام مجلس النواب، لكنه تم توقيفه عند السطر 14]. .... سأتوقف إذن عند تلخيص التنظيم الذي أنوي تحقيقه والأسس التي اعتمدت عليها لتحقيقه. فكل المهتمين بالطيران العسكري قد عبروا عن تخصيص إدارة مستقلة لها ضمن وحدات الجيش، حتى يتحقق التواصل التقني السلس بين كل أطرافها. وحاولت أن ألغي كل الحواجز المحبطة، فتحققت وحدة العمل المنظم. بل إنه مستقبلا ستتم العمليات كلها في إطار تكاملي دقيق، أستطيع أن أؤكد لكم ذلك. هذا التنظيم الجديد، لا يزال في بداياته، وعلينا أن نمنحه الوقت الكافي ليبرز حنكته ونتائجه الباهرة. علما أنه منذ وصولي طلبت الحصول على وضعية الطيران. أول ما انتبهت إليه، كحقيقة مادية متحققة، هو كفاءة طيارينا المتميزة. أي كل هؤلاء الشبان المنخرطين في اكتشاف السماء والذين اكتسبوا خبرة فيها بحنكة وشجاعة وإيمان ونكران للذات وروح للتضحية نحييها عاليا. أما في ما يخص متطلبات العمل، فهنا وقفت على خيبات ومشاكل ومتبطات، التي تعود أسبابها، إلى غياب تلك الوحدة الإدارية المستقلة التي أردت خلقها وترسيمها. وأنا متأكد أن ذلك نفسه ما يشغل الكثيرين. أكيد، أن الذين من بينكم، يهتمون بهذه الأمور بحمية وكفاءة أحييهم عليها عاليا، يدركون أكثر مني أنه في مجال مماثل، من الوهم انتظار النتائج بسرعة، بل لا بد من استثمار في الزمن. وأن الإنتصار على التخلف والتأخر في مجال مماثل لا يتحقق بسرعة، بل إن ذلك يتحقق بفضل الطاقات التي تبدل بشكل متواصل. وهاكم الخطوط الكبرى للتنظيم الذي نؤسسه له. لتقييم الحاجيات الواجبة للعمل ميدانيا، وكذا تنسيق العمل داخليا، فإن الإدارة العامة المستقلة [للطيران الحربي]، ملزمة بتنسيق العمل للبحث عن الصناع وتحديد الحاجيات على المدى البعيد، وبرنامج التصنيع الواجب، بالشكل الذي يحقق تراكما في العمل بين الموجود والمنتظر تطويره من خلال إنتاج صناعي فعال وسريع. والقسم المكلف بالتصنيع قد انخرط فعليا في الإنتاج من خلال صانع محترف. فيما مهام القسم التقني، التي أعيدت لمهامها الطبيعية كمكتب دراسات وتجميع للمعلومات قد حددت بشكل واضح، مما سيسمح بوضع حد للتداخل السابق بين كونها مستهلكا ومنتجا في الآن نفسه. لقد توجهت الإدارة العامة الجديدة بحماسة صوب تعزيز قوة ضرباتنا الجوية والعمل على توفير كل الأسباب للنجاح بفعالية في ذلك. مثلما أن توحيد مصالح التلغراف والبرق مع الطيران، التي صدمت بالتنافس القائم بينهما بكل ما يحلبه ذلك من سلبيات، سوف يتحقق بالشكل الذي يستجيب لانتظارت الكل. مثلما أن التنسيق مع البحرية قد انطلق من خلال عمليات ميدانية منجزة. مثلما أن ترسيم مكتب للربط بين الحلفاء قد انطلق العمل به، ولقد انخرطت فيه ثلاث قوات حليفة حتى الآن. (1) لا يمكنني تقديم تفاصيل أكثر حتى لا أدخل في باب المحظور، لكن مكاتب الإدارة العامة ورؤساء الوحدات جاهزون لمن له الكفاءة ليطلعوه على المنجزات المتحققة في الميدان حتى يتسنى لنا كسب دعمكم الحاسم. من واجبي أن أستعرض أمامكم الخطوط العامة، لكن لي يقين أنه بدون تبجح، وبدون ادعاء فانطازي في مجال خصب سري مماثل، فإنه بدون هذه الإصلاحات، التي لا نريد بها ربح إعجاب العامة، لا يمكن أن نقبل إرضاء للبعض، باتباع طريق الخطأ، لهذا فقد اتخدنا إجراءات حاسمة ومفيدة. ولقد اتخدت تلك القرارات، بالتنسيق الكامل والشامل مع قائد قواتنا العسكرية العام، الذي ألتزم أمامكم بالعمل تحت إمرته بكل شغف الواجب ونزاهته، ما دمت مواصلا لمهامي [الوزارية]. وأهتبل هذه المناسبة لأعترف لكم أن التواصل متحقق بيننا بشكل سلس، بثقة، وفي احترام كامل لمسؤولياتنا المشتركة. لقد ترسخت لدينا القناعة معا، أنه من المستحيل قبول استمرار أسباب العطب بين مصالحنا. أن نترك للقيادة الميدانية المتقدمة حرية الحركة والتصرف، لكن من خلال انضباط لآليات مؤسساتية منظمة ودقيقة تسمح بإزالة كل أسباب العمل غير المنظم. وأن يسمح للحكومة بحق المراقبة والتتبع، تبعا لما تفرضه مهامها. لقد قررنا معا، أنا هو، أن لا نسمح قط بأي خدش للثقة بيننا، ولا لأي شقوق أن تتسرب لحائط الثقة بيننا، وأن لا نعير كثير اهتمام للأفواه المشوشة هنا وهناك. ومن خلال اعترافي هذا، أسعى أن أنقل إليكم يقين وحدة العمل بين فرعي مصالح الدفاع الوطني وهذا هو الضمانة للفوز والنجاح. يمكنني التوقف هنا، والإكتفاء بهذه الرسالة، لكنني أطمع في رحابة صدركم، وأطلب منكم مزيدا من الإنصات لي بضع دقائق إضافية. نحن في مرحلة حاسمة من الحرب، ونحن في حاجة إلى أن نترك للعمل براحة مزاج أمام عدو نواجهه وجها لوجه، لما فيه المصلحة العليا لوطننا. وأنا أخاطبكم بشغف العاطفة، من القلب إلى القلب، وأود أن أؤكد لكم، بصوت عال ما نهمس به بين بعضنا البعض هنا، هو أنه علينا تغيير أشكال اشتغالنا [عسكريا]. لنقلها بصراحة، إن الشعب، سواء الذي أبناؤه يحاربون في الجبهات بنكران هائل للذات، بشجاعة وبدل وتضحية، أو أبناؤه في الداخل الذين يدعمونهم من خلال الإبقاء على دورة الإنتاج، أن هذا الشعب قد مل الخطابات وهو متعطش للأفعال والقرارات والقيادة الصارمة والسلطة القوية. ونحن من لهم واجب اتخاد القرارات وممارسة السلطة. ولا يمكننا القيام بذلك، إلا بضمير مرتاح وبدون ضغط وباستثمار للزمن. .هامش: (1) كانت في الحقيقة، هذه هي البداية الجنينية الأولى لقيام الحلف الأطلنتي، الذي انطلق عمليا بتنسيق ميداني عسكري بين كل من إنجلتراوفرنسا وبلجيكا، في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. ومخطط الماريشال ليوطي مخطط استراتيجي جد متقدم وذكي، يعكس اتساع أفق رؤية الرجل المستقبلية. لكن المفارقة هي أنه حورب بشراسة في بلده فرنسا، ما جعله لم يستمر في منصب وزير الحرب سوى 3 أشهر ودفع دفعا إلى الإستقالة. بل تم أيضا الدفع نحو مغادرته باريس والعودة إلى المغرب لإبعاده عن التأثير في القرار السياسي والعسكري الميداني هناك. أثار احتلال الضفة الغربية و خاصة القدس الشرقية بأماكنها المقدسة، حماسا كبيرا في إسرائيل، وسط الساكنة اليهودية العلمانية منها أو الدينية المطبقة.و بالنسبة لعدد من المؤمنين، فإن نصر يونيه 1967 كان «معجزة»، و أن إعادة بناء مملكة سليمان ذات جوهر إلهي و مقدمة لعودة المسيح. كانت البلاد تقدم للعالم مشهدا لا يُنسى: جنرالات و مسؤولون سياسيون من كافة التيارات، حوالي 250 ألف مواطن، من ضمنهم عشرات الآلاف من الجنود ببدلاتهم العسكرية، يهرعون للوقوف خشوعا أمام حائط المبكى، و هو حسب المُعتقد، طلل من أطلال محراب سليمان. كان العديد منهم يبكون تأثرا، يُصلون، و يضعون قطع ورق صغيرة في ثغرات الحائط، تتضمن رغباتهم و أمانيهم. كان الجنرال «شلومو غورين» الحاخام الأكبر للقوات المسلحة، مُحاطا بمؤمنين منتشين، يحمل لفافة مخطوطة من التوراة، و يُمسك «الشوفار» (قرن الكبش و هو أداة موروثة منذ القديم) الذي ينفخ فيه بيد و بالأخرى قنينة خمر. و بنفخه في «الشوفار»، كان يعلن بأن «تحرير» القدس الشرقية يُساوي في الأهمية أكثر أعياد اليهود قداسة «روش هاشانا» و «يوم كيبور». و كانت جماهير الزائرين تحتفل بالحدث و هي تغني في جوقة واحدة النشيد الوطني، الهاتيكفاه. و في اليوم نفسه، دعا الحاخام «غورين» القيادة العليا إلى نسف المسجد الأقصى، ثالث الأماكن المقدسة في الإسلام بعد المدينة و مكة، التي عرج منها النبي محمد (عليه السلام.م) إلى السماء. كان الحاخام يصيح «لنهدمه الآن و إلا فلن يُهدم» دون أن ينجح في إقناع العسكريين. و في المقابل، تم هدم 135 منزلا بالجرافات من أجل تهيئة فضاء شاسع للتجمع قُبالة حائط المبكى، فطُرد سكان هذه البيوت ليلا دون سابق إنذار. فيما تم إسكان آلاف العائلات اليهودية في المنازل التي سكنوها في وقت من الأوقات، قبل حرب 1948 ، بينما الفلسطينيون الذين نزحوا من القدس الغربية في الفترة نفسها لم تتم إعادة إسكانهم و لا تعويضهم . و ستتضاعف مساحة القدس الشرقية فيما بعد، كي تمر من 70 إلى 134 كيلومترا مربعة، و ذلك نتيجة إلحاق 28 قرية فلسطينية ، مما أتاح بناء أحياء سكنية مُخصصة لليهود فقط، ستُطوق السكان الفلسطينيين و تفصلهم عن جيرانهم في بقية الضفة الغربية. و تم حل المجلس البلدي العربي للمدينة و أُقيل العُمدة المنتخب شرعيا بعد الضم الفعلي للقدس الشرقية، في 27 يونيه، أي بعد حوالي خمسة عشر يوما على نهاية الحرب. و بعد توحيد المدينة المقدسة بهذا الشكل، تم إعلانها «عاصمة أبدية» للدولة اليهودية. و هكذا تم تنصيب واحد من أكبر العوائق أمام مُصالحة عربية-إسرائيلية دون أن تقوم المجموعة الدولية بأي رد فعل باستثناء رفض أفلاطوني - من خلال قرارات بالأمم المتحدة خصوصا- بالاعتراف بالأمر الواقع. فيما سيحول الفيتو الأمريكي مرارا دون تبني المجموعة لأي عقوبة زجرية ضد إسرائيل، و هي الممارسة التي ستظل مستمرة حتى اليوم. أما حكومة «ليفي أشكول» فستتصرف بشكل آخر حيال ما تبقى من الضفة الغربية، إذ لم يتم ضم هذه الأخيرة رسميا لإسرائيل، لسبب وجيه هو عدم رغبة الدولة اليهودية في استيعاب مليون فلسطيني إضافيين. و هكذا أُخضعت الضفة المحتلة لحُكم عسكري يتعامل بقسوة نادرة، مُحيلا الكثير من القرى و المراكز الحضرية إلى رماد ? قلقيلية مثلا دُمرت بالجرافات و المتفجرات- لأسباب «أمنية»، و مُجبرا أكثر من 350 ألفا من السكان على الرحيل. و سيتم إبعاد هؤلاء إلى الأردن حيث سيلتحقون بالآلاف من لاجئي 1948 . و لم يتخذ الحاكم العسكري أي تدبير لوقف عمليات النهب الواسعة التي يقوم بها الجنود، بما فيها تلك التي طالت المقرات الدبلوماسية ومقرات المنظمات الدولية، دون أن يتعرض الجُناة لأي عقاب. و بعد يومين فقط على نهاية الحرب، تم اجتثات ثلاث قُرى غنية بكرومها ذات الجودة العالية، على الطريق بين تل أبيب و القدس، في اللطرون. و تم ترحيل أربعة آلاف شخص من سكانها بالقوة من دورهم قبل هدمها و إحالتها إلى ركام و رماد. و خلال تنقلاتي، فيما بعد، بواسطة سيارة الأجرة الجماعية، سينظر الركاب الإسرائيليون بجانبي بلامبالاة كاملة إلى السهل الواسع المجروف جيدا و الذي كان يحتضن القرى الثلاث، و فاجأني أنهم لا يجهلون فقط كل شيء عن هذه الفترة المأساوية ، بل يُنكرون حدوثها بالمرة. و قد كان رد الفعل المتشابه يُحاول إقناعي بأني «ضحية للدعاية العربية». هذا بالرغم من أن «أموس كينان»، الروائي الشهير و الصحفي في يومية «يديعوت أحرونوت» واسعة الانتشار، و كان شاهد عيان على عملية «التطهير» التي خاضتها وحدة الجيش التي كان واحدا من أفرادها، قد كتب : «كان من بين المطرودين شيوخ يتمكنون بالكاد من المشي، و رُضع في أحضان أمهاتهم، و أطفال صغار يبكون طالبين الماء... و قد مات عدد من اللاجئين عطشا و جوعا بينما كان آخرون يتمنون الموت من كل قلبهم». و ذكر «كينان» أيضا أن كثيرا من الجنود الذين يحرسون موكب النازحين كانوا يبكون غضبا لأنهم لا يستطيعون مد يد العون لهم ، كانوا يغضبون ضد الأوامر الصادرة لهم ، لكنهم كجنود منضبطين، كانوا يطبقونها بحذافيرها بأسف و أسى مُمضين. و حسب المؤرخ الإسرائيلي «طوم سيغيف»، فإن الجنرال «موشي دايان» قد برر هدم القرى الثلاث و ترحيل سكانها في اجتماع لكبار الضباط بقوله : «هذه الأعمال تشكل جزءا من المظاهر السيئة و اللاشعبية التي تضمن نجاح المشروع الصهيوني». لن تعود إسرائيل أبدا، ما كانته قبل حرب يونيه 1967 .فبعد أن تضاعفت مساحتها ثلاث مرات،فإن التغيرات التي ستعرفها ستطال المستويات جميعها: السياسي و الاقتصادي و الثقافي و الديني و الأخلاقي. و كما حصل في العالم العربي، فإن الأصولية الدينية ستنتشر في البلاد.و سيُسيطر المستوطنون و الحاخامات بمدارسهم التلمودية (يشيفوت) تدريجيا على جزء مهم من الأراضي المحتلة، و سيُشكلون مجموعة ضغط قوية نادرا ما تجرأت الحكومات المتعاقبة على مواجهتها و تحديها. فبعد 37 عاما، في 5 ماي 2004 ستعترف صحيفة «هاارتز» بألم في افتتاحية لها بأن « المستوطنين يُملون برنامجهم على دولة إسرائيل...فلا شيء يوقفهم. ليس هناك أية حركة، برلمانية أو خارج البرلمان، قادرة على مواجهتهم». و كان بإمكان اليومية أن تضيف أن طبقة العسكريين قد أصبحت الركن الثاني للدولة، و الحليف فيما بعد مع لوبي المستوطنين. و تعود شعبية الجيش إلى نجاحاته الحربية، لكن أيضا إلى قدرته، التي يُفترض أنها لامحدودة، في الدفاع عن إسرائيل ضد جيرانها الذين يريدون خرابها. و قد ظهرت المعالم الأولى لهذه السلطة الموازية غداة حرب 1967 إذ دخل ثمانية أعضاء من القيادة العليا للجيش إلى البرلمان، بينما عُين العشرة الباقون في مناصب أساسية في الإدارة العمومية و في المنظمات الموازية للدولة. فسيُعين الجنرال «إسحق رابين» مثلا سفيرا في واشنطن، و هو أعلى منصب في التراتبية الدبلوماسية، قبل أن يحتل مناصب أخرى بالغة الأهمية ? على غرار عدد من الجنرالات ? داخل الحكومات اليمينية أو اليسارية، قبل أن يبلغ رئاسة الحكومة. و هكذا شهدت الممارسة السياسية، استقرار «لوبيين» قويين في قلب السلطة السياسية دون توقفهما أبدا عن التأثير على السياسة الإسرائيلية بل توجيهها. فالمنعطف الذي أخذته البلاد مع حرب الأيام الستة كان مُذهلا. فتدفقت موجة من الصوفية المسيحية و أخرى من الصهيونية المتحمسة على الأرض المقدسة. و طفق انزلاق الرأي العام و الحكومات نحو اليمين يتقوى عاما بعد عام، جاعلين إبرام السلام مع الفلسطينيين أمرا مستحيلا. ففي نهاية 1969 ،فقد الحزب العمالي أغلبيته في البرلمان للمرة الأولى منذ إنشاء الدولة، مسجلا بذلك بداية الانحدار الذي سيؤول إلى انطفائه. و في المقابل شرع «ليكود» مناحيم بيغن، الذي لم يكُف بن غوريون عن نعته ب»الفاشي»، في التقدم إلى درجة أنه ضاعف عدد أعضائه ثلاث مرات في الحكومة التي سترأسها غولدا مايير، «السيدة الحديدية» حتى 1973. و بدأت صورة إسرائيل في التراجع تدريجيا في أعين الرأي العام العالمي. فالدولة التي كانت تُعتبر قبل الحرب دولة مهددة بالدمار من طرف «جالوت» العربي المُتعطش للدم، أحرزت الآن موقع قوة عسكرية لا تُقهر، قوة احتلال تقمع سكانا يطمحون إلى حياة عادية داخل دولة كان ينبغي أن تكون دولتهم. أما الإسرائيليون، الذين لا يُشاطرون هذه الصورة، فقد انتهوا إلى الاعتقاد بأن العالم أجمع يعاديهم، كما تشهد بذلك التصويتات المتتالية داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذين كانت أغلبية أعضائها تقريبا تعارض سياسة الدولة الصهيونية. و غداة تبني القرار 242، ساد بعض التفاؤل في الأوساط الدبلوماسية، في مصر، بخصوص دنو اتفاق، إن لم يكن اتفاق سلام فسيكون على الأقل اتفاق تعايش بين إسرائيل و جيرانها. و على مدار التحقيق الذي قمت به، فإن الشخصية الوحيدة التي كانت على حق، من بين العديد من الشخصيات التي حاورتها بشكل منهجي بالقاهرة، هو «إيفغيني بريماكوف»، مراسل البرافدا، الذي كان في نظر الصحفيين، يشكل الناطق شبه الرسمي للسفارة السوفياتية. و قد قال لي هذا الذي سيرأس الحكومة الروسية في عهد «بوريس إلتسين»، في نهاية التسعينات، بالحرف الواحد : «سأستغرب كثيرا إذا ما أعادت إسرائيل الضفة الغربية خلال الثلاثين عاما القادمة». أخطأ فقط في تحديد المدة القصوى للاحتلال. الحلقة المقبلة: دايان أو «امبراطور الأراضي المحتلة» قيل وقتها، حينما نددت القطاعات الحزبية وغير الحزبية بهذا التحجيم المقصود في مكانة المرأة وموقعها، قيل اٍن هناك اٍرادة لاحقة لتصحيح الاختلال على مستوى القطاعات الاٍدارية المختلفة، المناط بها اتخاد القرار، لكن لا شيء من ذاك تحقق، وبدا أن التراجع ليس حادثة سير صغيرة يمكن ترميم نتائجها، ولكنها اختيار بالقصد المقصود، يعكس ايديولوجيا معينة، ويعكس اختيارا مرجعيا قارا، وأسلوبا في التعاطي مع ملف القضية النسائية، ومرة أخرى ثبت بالملموس أن نقطة البدء عند المحافظين في مشاريعهم باتجاه إعادة هيكلة الحقل الاجتماعي والثقافي، هي ملف القضايا النسائية الذي يجري تهميشه و تقزيمه وسط خطاب وصخب «فقهي» سياسوي موروث من عصور الانحطاط. اٍن المثل المغربي الرائع الذي يقول: «النهار المزيان باين من صباحو»، ينطبق تماما على حال التعاطي الحكومي الحالي بقيادة العدالة والتنمية مع موضوع النساء، ويحق لنا والحالة هذه، أن نطرح شكوكنا في رغبة الحزب الحاكم في تنزيل مقتضيات الدستور في موضوع المناصفة. والحقيقة أن ما يزيد شكوكنا هو الصمت المريب الذي وظفته الآلة الدعوية والأيديولوجية للحزب الحاكم وبعض وزرائه النافذين، حينما كان المجتمع كله بكل قواه منشغلا ببعض الحالات المأساوية، التي عرفها المشهد الوطني خلال السنة الماضية في موضوع معاناة النساء ،والذي كان أبرزها قضية أمينة الفيلالي. ونعود اٍلى السؤال الأساسي هل يملك حزب الأغلبية حقا مشروعا في مجال المناصفة، يمكنه تقديمه جهارا والدفاع عنه والإقناع به؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الذي ينتظر هذا الحزب الحاكم للإعلان عنه؟ كل المؤشرات تبين أنه لا يتوفر حقا على مثل هذا المشروع، وليست لأقطابه أية نية لحد الآن في برمجته، لا في إطار مشروع قانون تنظيمي ولا في اٍطار قوانين عادية تعمل على ملاءمة ما هو موجود من تشريعات مع المرجعيات الكونية، ولا حتى الجهر بطرح تصوره في نقاش عمومي، تشارك فيه الفعاليات النسائية لهذا الحزب، بالمكشوف وليس وراء ستار أو وراء أصوات الرجال. يحق لنا فعلا أن نتساءل لا فقط عما قدمته حكومة بنكيران لجماهير النساء خلال هذه المدة الطويلة من ممارستها للشأن العام، ولكن كذلك هل بإمكانها حقا أن تقدم شيئا على هذا الصعيد غير ترديد عموميات لا معنى لها ولا طعم؟ وسيكون من باب المجازفة بالنسبة للقوى النسائية الديمقراطية، أن تنتظر شيئا ما على هذا الصعيد من حزب أغلبية لا ينفك يعادي في الممارسة العملية مبدأ المناصفة نصا وروحا، سيكون من المجازفة بالنسبة للحركات النسائية الديمقراطية، انتظار استجابة فورية أو غير فورية من طرف الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، وبالتالي فلا مناص من تعبئة شاملة، تمكن حقا من بلورة مشروع تقدمي طموح في موضوع المناصفة، اعتمادا على التراكمات الايجابية، واعتمادا على الكفاءات النسائية الموجودة في كل مرافق العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلادنا.