بعد هذه التجربة الإيمانية كنت أجوب المساجد بحثا عن راحة نفسية افتقدتها لسنوات، ومن عجائب النفس البشرية أنني كنت أفتقد الراحة النفسية وأنا في قلب جماعة إسلامية، لم تكن الجماعة مسجدا نسجد فيه لرب العالمين، ولكنها كانت موطئا لأناس أحدهم ميت، والآخر كالمغسل يقلبه كيف يشاء، ولا يكون هذا إلا عندما تنعدم إرادة من وصفته بالميت، وماهو ميت، ولكنه ليس حيا، بل هو واحد من الذين قبلوا أن يعيشوا كالأموات يعبث بعقولهم من يريد، كنا لا نصلي إلا في مساجد بعينها، ولا نقيم الليل في رمضان إلا في مساجد تابعة للإخوان، ولا نصلي العيد إلا في ذات المساجد، وقبل أن أتسلق سور الجماعة الحصين لأقفز إلى العالم الحقيقي هربا من عالم الأشباح انطلقت إلى المساجد الحقيقية التي افتقدتها سنوات طويلة، فأصبحت من رواد مسجد قاهر التتار بمصر الجديدة الذي كان إمامه هو الشيخ الدكتور سالم عبد الجليل الذي كان في يوم من الأيام من الإخوان ثم سبقني وهرب من الجماعة، وكنت قد سافرت معه في رحلة حج وهبها الله لي قبل تركي للإخوان بعام، وكان هذا الحج هو الحالة الشعورية والقلبية التي أهلتني لترك الجماعة، فهناك في مساجد الله الحقيقية في الحرمين المكي والنبوي، تخلصت من استعباد واستبداد البشر وخضعت لرب العباد وحده، لا إله إلا هو. وبعد أن عدت من مناسك الحج وجدت أن مسجد قاهر التتار ارتبط في نفسيتي بسياحتي في الحج، فأخذت لا أذهب إلا إليه وكأنه يعيد لي باستمرار ذكرى تلك الأيام المقدسة التي كنت أعيش فيها كالطائر الذي لا يلمس الأرض من فرط نشوتي الروحية. وفي اليوم الذي جاء عقب خروجي من الجماعة ذهبت إلى مسجد قاهر التتار بمصر الجديدة أسجد لله رب العالمين كما سجدت السجدة التي اعتبرتها أول سجدة لي في حياتي، ذهبت لهذا المسجد كي أعلن لنفسي في كل سجدة أنني خرجت من عبودية العباد إلى عبودية الله رب العباد، وبعد أيام من انتظامي في صلاة المغرب يوميا بهذا المسجد رأيته عن بعد، شيخا كهلا يجلس القرفصاء بعد صلاة العشاء، منكبا على قراءة القرآن بصوت خافت، غمرتني راحة نفسية حين وقع بصري عليه، ظننت أن قلبي هو الذي رآه لا عيناي، وحين تبصر الناس بقلبك فإنك تكون قد أدركت محبتهم، والإنسان لا يجهل من يحبه لذلك خيل لي أنني رأيته من قبل، أهو من الإخوان؟ أم أنه من الصوفيين؟ ويا الله، حينما رأيته بعين قلبي وببصر بصيرتي استشرفت فيه الصلاح والعلم فاقتربت منه وجلست بجواره، لم يستغربني ولكنه ابتسم في وجهي ابتسامة محببة، فألقيت السلام عليه، فحياني بعبارات محببة وبش في وجهي. طلبت منه أن يدعو لي فوضع يده على رأسي، وأخذ يدعو لي دعاء فياضا بصوت رخيم متهدج من فرط الصدق، أهكذا ودون سابق معرفة تلتقي الأرواح؟ وبغير إرادة مني وكأنني مسير أخبرته أنني كنت من الإخوان وتركتهم منذ شهور، وكأنني أريد أن أدرأ عن نفسي تهمة لم يوجهها لي! وكأنني كنت أعلن سعادتي بحصولي على صك الحرية، قال لي بعاطفة وكأنه أبي: وأين أنت الآن؟ قلت: أنا أنتمي إلى الحركة الإسلامية، إلى التيار الإسلامي، فأنا إسلامي النزعة. قال والبشاشة على وجهه: لا تقل أنا إسلامي، ولكن قل أنا مسلم، الله قال لنا ذلك، قال في كتابه الكريم( »هو سمَّاكم المسلمين من قبل«) ولم يقل هو سماكم الاسلاميين، وقال( »وأشهد بأنا مسلمون«) ولم يقل واشهد بأنَّا إسلاميون، لذلك، فإن مصطلح الاسلاميين لم يكن معروفاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهود الصحابة حتى القرن التاسع عشر، بل كان كل من يجتهد، فإنما كان ينسب الاجتهاد لنفسه، لا للإسلام، فهذا حنفي وذاك مالكي، وذلك شافعي وهكذا، لم يجرؤ أحدهم على أن ينسبَ الإسلامَ لنفسه أو يقول: أنا صاحب المذهب الإسلامي، ولذلك كانت تعبيرات »المذاهب الإسلامية« تعبيرات حديثة لم يقل بها أصحابها، وكذلك مصطلح »الفقه الاسلامي«، فالصحيح أنه »فقه المسلمين« والحضارة الاسلامية هي حضارة المسلمين لا الإسلام، وتاريخ الإسلام هو تاريخ المسلمين لا الإسلام، تاريخ الإسلام لم يكن إلا في عهد الرسالة فحسب، وما بعد ذلك كان تاريخ أجيال من المسلمين. ثم استطرد: لا ينبغي أن يختلط »الإسلام« في الأذهان ب »المسلم« فثمة مسافة بينهما، لذلك كان من الخطأ أن نسمي ابن تيمية »شيخ الإسلام« إذ يجوز أن يكون شيخاً للمسلمين، ولكن لا توجد مرتبة في الإسلام اسمُها »شيخ الإسلام«، وكذلك مَن يقولون على أبي حامد الغزالي: »حجة الإسلام«، فهو ليس حجة الإسلام، فالحجة هي الدليل، وحجة الإسلام هي القرآن، هي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لا توجد مرتبة اسمها »حجة الإسلام«. يجوز أن نقول عنه فقط أنه »حجة المسلمين«. المرتبة الوحيدة في ديننا هي مرتبة النبوَّة والرسالة، هي نبيُّ الإسلام. رددتُ عليه برعونة: وليكن، أنا مسلم، ولكنني صاحب هذه الدعوة، صاحب هذه الرسالة، نحن نملك الإسلام. ردَّ بحكمة: يا بُنيَّ الحبيب، لا ينبغي أن يدَّعيَ أيُّ إنسان أنه »»صاحب الدعوة««، وكأنها مملوكة له ملكية حصرية، هذه دعوتنا جميعا، والوحيد الذي نستطيع أن نقول عنه أنه »صاحب الرسالة« هو الرسول محمد صلى الله عليه، هو نبيُّ الإسلام. قلتُ وقد انخفض صوتي بمقدار انخفاض معرفتي: ولكن يا شيخَنا، أليسَ يختلط الرجل برسالته، بفكرته؟ قرأتُ من قبلُ كتاباً عن حسن البنا اسمه »حسن البنا.. الرجل وفكرتُه« لكاتب من الإخوان اسمه محمد عبد الله السمَّان، وقد كان الكتاب كلُّه يدور حول أنَّ حسن البنا لم يكن رجلا ولكنه كان فكرةً، كان إسلاماً، كان رجلا قرآنياً، حتى إنَّ كلَّ الإخوان يطلقون عليه »»صاحب الدعوة«« ردَّ الشيخُ وابتسامتُه مازالت تعلو وجهه: فلْيَرفَع الناس قَدرَ رجالهم كما يُحبُّون، ولكنَّهم وهم في حبهم لشيخهم لا ينبغي أن يخفضوا الإسلام ليتساوى مع رأس شيخهم، انظر يا بُنيَّ الحبيبَ رغم حبِّنا للمصطفى عليه الصلاة والسلام، فإننا لا نستطيع أن نقول: إنه هو الإسلام، نعم كان صلى الله عليه وسلم »قرآنا يمشي على الأرض« وكان خُلقُه القرآن، ومع ذلك، لم يقل أحد إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو الإسلام، ولكنه كان، كما قال عن نفسه: »إنما أنا بشر فما حدَّثتُكم به من عند الله فهو حقٌّ وما قلتُ فيه من قبلِ نفسي، فإنما أنا بشرٌ أصيب وأخطىء«. وليؤكد للناس بشريَّته قال: »إنما أنا ابن امرأة كانت تأكلُ القديدَ بمكة«. الرسول إذن رجلٌ من بني آدم وإن علتْ مرتبتُه على بقية البشر، ولكن الإسلام عقيدة ولا يوجد في الإسلام مرتبة أخرى تجعل من المسلم »إسلاماً« أو تجعله قرآنا. قلتُ باستفهام: ولكنَّني قد أكونُ صاحبَ الدَّعوة!! حسن البنا يقولون عنه ذلك. ردَّ وقد طال صبرُه: ما نحن إلا دعاةٌ مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: »بلِّغوا عني ولو آية« ولو قال الإخوان: إن حسن البنا هو صاحب الدعوة، فإنما يضعون شيخهم في مرتبة النبوة، أو كأنهم يُخرجونه من الملَّة، فلو كان متبعاً لدعوة الإسلام لكان يجب أن يقولوا عنه إنه »داعيةٌ« وحسب، لأن صاحب الدعوة هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو قالوا: إننا نقصد أنه صاحب دعوة الإخوان، فمعنى ذلك أن دعوتهم تختلف عن دعوة الإسلام!! وإلا لما نسبوها لصاحبهم، وماداموا لا يقولون إنهم أصحاب طريقة في العبادة، أو أصحاب مذهب، فإنهم يجب أن يخرجوا من تقديس رجلهم، ونَفي مُلكية الدعوة عنه، لا أحد منا يا بُني يملك الإسلام، لا نستطيع أن نقول إلا أننا أسلمنا لله رب العالمين، ونحن فقط نسير في طريق الإسلام، ولكل منا منزلته يا ثروت. تعجبتُ من معرفته اسمي دون أن أخبره به، فقلتُ مندهشا: أتعرفني؟! قال وهو يُمسك برأسي ليقبِّلَها: نعم أعرفك، ولكنَّك نسيْتَني. فنظرتُ إليه في ذهول، يا ربي نعم إنه هو، ولكن كيف عرفني بعد هذه السنوات الطويلة؟!