لا الاستحقاقات الانتخابية، ولا الدستور الجديد، كفيلان بتحويل المغرب من وضع غير ديمقراطي إلى ما يسعى إليه كلُّ المنادين بوطنٍ أفضلَ والساعين إلى تحيين بلد يمكن لِمُواطنيه الدفاع عنه بأرواحهم، لا الهجرة ومغادرته إلى بلدان كان أهلها في زمان مضى عنواناً للاستعمار البغيض. هي الإرادةُ الحقيقيةُ والوطنيةُ الحقّةُ لَمَّا تكونا غائبتيْن وبعيدتيْن عن روح جسدٍ؛ أكيد كلُّ الشعاراتِ، وما تلاها من انتخاباتٍ، ولو كانت بدستور جديدٍ، مع بقاءِ العقليةِ القديمةِ والفاسدةِ، تجعل المسمى إصلاحاً في مهبِّ الرّيح. المغربُ ليس فقط بحاجةٍ إلى إصلاحاتٍ عميقة أو دسترةِ عناوينَ بديلةٍ؛ بل هو في ضرورة لتنظيف العقول. نحن بحاجة بعد «نقد العقل العربي = (المغربي)» كما بسط المفكر محمد عابد الجابري إلى خلق البديل. المغربي عليه أن يُعَمَّدَ بقيم الغيرة على بلده، أن يعي بضرورة التغيير العاجل لأجل الرقي، أن يتخلص من أنانيته المفرطة ومِزاجيته الإقصائية. ذهب أحد الوزراء - من حيثُ القولُ، مجردُ القولِ- أن الجهةَ الواحدةَ ضمن كيان بنيوي لا يمكنها أن تصل إلى عمق الإصلاح، وبه وجب الإعلانُ الصارخُ بِحتميةِ إعادة النظر في كلمة الوطنية والمسؤولية. فالكلمتان ضخمتان، ولا يمكن لأي إصلاح أن يأخذ طريقَه الصحيحةَ في غيابهما، لا يمكن أن تكون مسؤولاً وأنت - في العمق- غيرُ وطني، والعكس أيضا وارد، هناك مَنْ لا تَهُمُّهُ مصلحةُ هذا الوطن، ويذهب إلى أنَّ تقدُّمَه لا يعنيه، بقدر ما يعنيه ما عاشه هو وبنوه وأخواله وقبيلته من ترف زائد، أما أن تحدِّثه عن ضرورة اجتثات الأمية، والقضاء على الفقر، والرقي بمؤسسات الدولة، وتخليق الحياة العامة، فأمر يدفعه إلى اعتبارك «مْرِيييضْ»، أو إنك «قْديييمْ وْغْشِيمْ»، ما تزال تؤمن بخطابات «انتهى زمانها». هناك مَنْ لا يعنيه الإصلاحُ مُطلَقاً، لأن في تحقيقه دعوة إلى إقصائه، ببساطة لأنه كائنٌ مبني على استثمار ريع الخواء، ويقعُد على كرسي؛ مستغلاً منصباً ليس أهلا له، أوصَلَهُ إليه المالُ أو الزبونيةُ أو الحساباتُ الحزبيةُ الضيقةُ أو مكالَمَةٌ هاتفيةٌ من جهة عليا، تظن أن الانتفاع بخيرات المغرب من حقها وحدَهَا، وأن البقيةَ يكفيها أن تُمَارسَ وظيفةَ التشبُّثِ بالفُتات، أو مهنةَ الوِزْرة أو الكِسْوَة. مع العلم بأنهما كانتا أرقى المهن، لَمَّا كان للوطنية معنى وذوق خاصَّيْن، أما في الزمان الحالي، فقد طالهما الفسادُ والإفسادُ ككل القطاعات. المغرب يحتاج إلى إرادات حقيقية، تريد له القطع مع زمان ما استفاد منه في شيء، لأن الدار لَمَّا تكن أركانها راشية، لا بد من اتخاذ القرار القوي؛ وإن كان صادماً، لا بد مِنْ أَنْ نُلْزِمَ الفاسدين في هذه البلاد من الاقتناع أن اليوم ليس هو الأمس، وأن القطار لا يعود إلى الخلف، فإما أن يتقدم أو يتعطل. ولأن مخلفات عطبه قد لا يستفيد منها لا السائق ولا الركاب، حتى محطات الوقود ستتوقف، وبِشَلَلِ كُلِّ هذه المكونات والبُنَى، تتوقف رئةُ جسدِ المجتمع. نفترض أن السائق يريد الإقلاعَ، في حالة رَضِيَ الركَّابُ في الخضوع لِرَغْبَاتِهِ الشوفينية؛ فإن القطار -حيث ظلَّ مُرَقَّعاً إصلاحُهُ- لا يمكنه المضي بعيداً؛ إذ لا بد من إصلاحه، والنظر في كل تركيبته، لعدم التوقف مرة أخرى. أتذكر ما يقوله لي أحدُ الزملاء، نقلاً عن أحد الأساتذة الكبار، متحدثاً عن ضرورةِ مواصلةِ الطالب للبحث العلمي، حتى لا يَحصُل لديه الفشلُ ومن ثَمَّ الشللُ، الفكري هنا لا العضوي. يُخبره أن القعودَ عن المواصلةِ في العمل والكد والاجتهاد، أشبه بألم الضِّرس، يأتيك باستمرارٍ فتنوِّمُه بِمُسَكِّنٍ، يغادرك ويأتيك فتنوِّمُه بالمسكن نفسِهِ، لكن ذات يومٍ ستتيقنُ أن الأمر يتطلب اتخاذ قرار بالذهاب إلى الطبيب المختصِّ؛ لاقتلاع الضِّرس من جذورها أو ترميمها حسب حجم التلف فيها، والارتياح من معاودة الألم. الأمر نفسُه وَجَبَ تطبيقُه مع هذه الأضراس التي تؤلم جسد المجتمع، لم يعد يحتمل الآلام فترة وأخرى؛ إنما ضرورة اجتثاث كل ضِرس تتسبب في ذاك الألم أو ترميمها بشكل نهائي. كل مسؤول يعاني بسببه دُوَارٌ أو جماعةٌ أو مدينةٌ أو مؤسسةٌ، تجب محاسبتُهُ، أو اقتلاعُهُ، إن لزم الأمر، لأنه سُوسَة، ولا يصلح معه الوعظ والإرشاد، أو التنبيه والتوبيخ، بل عدم التكليف بالمسؤولية. ليس الأمر له علاقة بكونه انتُخِبَ أو لم يُنتَخب، إذا كانت المسؤولية لها علاقة بالانتخاب، أو نجح أو لم ينجح، إذا الأمر تعلق بمباراة ووظيفة، ومن ثَمَّ لا يد لأحد على شرعيته، ذلك أن الانتخابات أو الحديث عن الديمقراطية في بلد تنتشر فيه الأمية والجهل والفقر، ثم النزاهة والحكامة في غياب المحاسبة، كلامٌ أشبه بالسّراب، تحسبه ممكن التحقق والحصول، والحال أن ذلك من المحال. الحديث أيضاً عن المحاسبة يحتاج إلى ضبط الثغرات في المراجع المسطرية القانونية، فالأمر فيه نوع من البلاهة، لأن القانون أحياناً هو مَن يحمي المجرمين، وبسبب فَجْواتِهِ يُحاسَبُ الضعفاء والفقراء. لا نفهم كيف أن فضيحة تفويت مشروع ما، بكلفة ضخمة، لا يستحقها المشروع (طبعاً مع احتساب ربح صاحب المشروع، وتحييد الضرائب، وكل المتعلقات بذلك)، لا أفهم كيف أن ضبط الأوراق، وإن كان الأمر متفقا عليه في مجلس جماعي أو بلدي، وعندما تأتي لجنة المراقبة، إِنْ حَصَل، تذهب أن دفتر التحملات احتُرِمَ، وأن صاحبَ المشروع أوفى بما اتفق عليه مع الجهة المسؤولة ووو، وتنسى المعاينةَ والتقييمَ بعيداً عن الأوراق، وإن كانت مضبوطة شكلاً، لأن رئيس الجهة المفوِّتة ليس بليداً حتى يترك ثغرة في بنود الاتفاق يمكن أن توصله إلى المحاسبة، وكشف ملابسات التجاوزات في المشروع. ماذا يؤكد ذلك من جهة أخرى؟، مع احترامنا للذين يسهرون على سن القوانين. يؤكد أنهم أحياناً وهم يمارسون هذه العملية، لا ينسون تركها قابلة للعديد من التأويلات، لأن وضوحَها وحسمَها ليس في صالحهم، ولا يخدم مصالح أبنائهم في المستقبل، وإنَّ ذلك وإِنْ كان مغلَّفاً بأنه في خدمةِ الشعبِ، فاللبيبُ يعلم أن هذا المسمى «الشعب» آخر مَن يُفكر فيه، ويُلتفت إليه. إن تحقيق الوطنية، متبوعاً بالمسؤولية، الأختُ الشقيقةُ للمحاسبةِ، أمورٌ لا بد منها لِمُعَاينةِ بلدٍ ديمقراطي، وإلاَّ فإن كل التغريدات ستبقى حالِمَةً وبعيدةً كل البعد عن الوصول لِمَا يطمح له الغُيُور في هذا البلد. تحقيقُ الوطنيةِ يحتاج إلى سنواتٍ عديدةٍ من البناءِ في كلِّ النواحي، بدءاً بالقاعدة، متى تحققت الإراداتُ عند المسؤولين. وكيف يتم ذلك؟، يحصل فقط بالانطلاق من جهاز القضاء وحدَهُ، واعتباره الجهة الأولى بالإصلاح، طبعاً من خلال استقلاله، والتضحية بعديدٍ من الرؤوس القديمةِ التي عشَّشَ فيها الفساد، وعرفت بدروبه الضيقة، وفهمت كل منعرجاته. لا يعني ذلك أن الوطنيةَ الحقّةَ تتأتى من خلال القضاء العادل، لكن على الأقل نُحَصِّلُ على المحاسبة في كل المسؤوليات، ومن ثَمَّ تنبني الوطنيةُ خطوةً خطوةً، وإنْ عَنْ غَيْرِ طِيبِ خاطرِ العديدِ من الناس، فكلما شعُرتُ بأن المحاسبةَ ستطالني عن فِعْلِ جُرمٍ اقترفتُهُ، سأكونُ حينها مُنضبِطاً للواجب، ومدافعاً عن الحق، ملتجئاً لتحقيق ذلك كله للقضاء، حينها نكون أمام ذواتٍ وطنيةٍ، ألزمَها القضاءُ التمتُّعَ بِحِسٍّ الوطنيةٍ، ولو عن ظاهر وجهٍ. عندما يعلم الكبيرُ والصغيرُ في هذا البلدِ السعيدِ أن حقوقَهُ مضمونَةٌ ومُصانةٌ ومحفوظةٌ لدى جهازٍ أعلى هو القضاءُ، وأن المحامي مهما برع في التخريجات، يجد أمامه قاض مسؤول، وأدرى منه بتلك المنعرجات، أكيد سيضع كُلُّ واحدٍ نَصْبَ أعينه وهو يُقدِمُ على كل فِعْلٍ أن هناك مراقباً صارما لا يرحم، وأن هناك قضاءً عادلاً. أمَّا ما يُحصل عندنا للأسف، هو أن المذنبَ يمارس الفسادَ في أعلى مستوياته، ويكلف محامياً بارعاً في التخريجاتِ، له من العلاقات مع عديمي الضمير من بعض القضاة ما يحقق به مآرب المجرم، ويحقق به أطماعه الشخصية. قل لي أيَّ نوعٍ من القضاةِ في محاكمكم، أحدد لك أيَّ مجتمع تعيشُ فيه، بل وأعطيك قياسَ الوطنيةِ لدى معظمكم. كاتب وصحفي من المغرب