أصبحت عدد من عبارات المفكر السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر (1864 ? 1920)، بصفته مؤسس السوسيولوجيا الحديثة، سلعة متداولة في الساحات العمومية. فالعديد من رجال السياسة بفرنسا، يعودون، إلى استعمال التقابل بين عبارتين من عباراته، مثلما يعود المؤمن للتمائم. وهي عبارتي: «أخلاق الإيمان» و «أخلاق المسؤولية». والكثير من مؤرخي النازية ومؤرخي الشيوعية، يستعيرون عبارته حول «الهيمنة الكاريزمية» لتحليل «الشمولية». وكثير، هم، كتاب الرأي الذين استعاروا مفهومه «تحرير العالم» أمام اليقين المتجدر عن خطية التاريخ، وأنه يتجه ضرورة، صوب عقلانية أكبر ولائكية أرسخ. الأكثر غرابة (إثارة صادمة)، هو أن تلك العبارات المقتطعة، مثلما تقتطع قطرات مطر من بحر، تنتهي بأن تعني تماما عكس ما يقصده الإجتهاد السوسيولوجي الضخم للرجل. لقد حاول ماكس فيبر، تلميذ نيتشه، الذي فكر في «حرب الآلهة»، أن يرسم خريطة للحداثة. لكن الطريق التي حاول رسمها لم تكن قط طريق نصر. لأنه اكتشف أن طريق العقلانية كثيرا ما تنعطف صوب نقيضها، وأنها بدلا من أن تحرر الإنسان، تطوقه في «قمرة صلبة من حديد». بالتالي، فإن الإحساس الذي يستخلص من كل قراءة فيبيرية، هو اليأس. لقد تأخر وصول أطروحات فيبر إلى فرنسا، والنقاش حولها لم يستثر كثير نقع، بسبب أنها ترجمت بما يشبه نظام القطرة وراء القطرة. ثم هي نتاج ما بعد الحرب العالمية الثانية. وأول مسربي فيبر هو السوسيولوجي رايمون آرون والسوسيولوجي جوليان فرند، الذين صنفاه كحامل مشعل مداو للماركسية. من حسن الحظ أن غلالة الجهل التي صاحبت أعماله قد بدأت تتبدد كما تشهد بذلك ثلاث كتب حديثة. ففي واحد منها «قفص الحديد» للفيلسوف ميكاييل لويي، تمة عودة للتقابل التقليدي بين فيبر وماركس. ذلك أن كتابه «الروح البروتيستانتية وروح الرأسمال» (المترجم إلى الفرنسية سنة 1964 ثم سنة 2003 عند غاليمار)، قد شكل مطولا ملمحا لرد على كتاب الرأسمال لماركس، من خلال الكشف عن مصدر ديني أصيل للرأسمال في الصوفية الزاهدة التي اختصت بها الفرق الكالفينية والبروتيستانتية. بينما في إسار، الفيلسوف كارل لووفيث (لم يترجم إلى الفرنسية كتابه «ماكس فيبر وكارل ماركس» سوى سنة 2009، عند بايوت)، خلص ميكاييل لويي إلى اعتبار ذلك التعميم تبسيطيا. ليس فقط لأن ملامح ماركس قد تلبست فيبر، خلال كل مساره العلمي، بل لأنه بين ماركس الثوري وفيبر الليبرالي الكثير من «التواطؤات المختارة». لقد اشترك ماركس وفيبر في تركة واحدة هي: نقد الحداثة التي اختصت بها الرومانسية الألمانية. بالتالي، أليست كل محاولة لنقد ماركس عبر فيبر، كما فعل الفيلسوف يورغن هابرماس، إنما هي محاولة اجتثات نقطة التلاقي بين الفيبيرية والماركسية الخاصة بالشك في فكرة التقدم والعقل البورجوازي؟. لذلك، فإن ميكاييل لويي أميل «لماركسية فيبيرية»، التي تمتلك ملامح يأس ثوري. وفي زمن الشك في يقينية التقدم، والقلق من مستقبل الكرة الأرضية، فإن هذا التقليد الثاوي ل «الماركسية الفيبيرية» أكثر إلحاحية. ويتسقط ميكاييل ذلك عند جورج لوكاتش (1885 ? 1971)، صديق فيبر والفيلسوف الماركسي، وأيضا عند الكاثوليكية التدميرية ل «ثيولوجيا التحرير». بل إنه يصل حد الكشف عند فيبر أطروحة غير معلنة ل «تقزز ثقافي» بين الكاثوليكية والرأسمالية، الذي يشكل ردا وازنا ل «ألفة اختيارية» بين البروتيستانتية والرأسمال. إن هذا القلق الساعي لتدمير الأفكار الإطلاقية السارية حول أطروحة فيبر، يشغل أيضا السوسيولوجي الباحث بالمركز الوطني للبحث العلمي، ميشال لالمان، من خلال بحثه «توترات عالية». فالمؤلف يزاوج ببساطة بين التفكير حول الحق والإقتصاد وبين اعتبارات حول الحب. وينطلق من معطى أن سيرة الرجل فيبر، تفيد في استيعاب أذكى لمفاهيمه. على شرط، أن لا نجعل من سوسيولوجياه، مجرد انعكاس لشخصيته، بل على العكس أن نعتبر تلك الحياة كنقطة ارتكاز للإنطلاق نحو «تأملية» تتجاوز حدود الحياة الخاصة للفرد الفيلسوف. والحال، أنه منذ صدور سيرة لماكس فيبر، أنجزها جواكيم رادكو («ماكس فيبر، متعة التفكر»، 2005، بالألمانية وغير مترجمة حتى الآن)، المحال عليها بكثرة من قبل ميشال لالمان، ندرك معالم الطريق التي قطعتها تلك الشخصية، التي لم يلتفت إليها البحث كما يجب، الملآى بتجارب عشق ليس يسيرا تصديقها. لأنه إذا كانت لحظات اكتئاب طويلة قد ظلت تحرم فيبر من الكتابة، فإنه بالمقابل قد حاز لحظات تأمل مثالية، بفضل ما ظل يحيط به من نساء. زوجته ماريان، التي جمعته بها علاقات مودة أكثر منها جنسية، كانت مؤثرة في حياته. لكن، أيضا علاقاته مع بعض طالباته، مثل مينة طوبلر وإلز جافي، اللواتي تهزهن أزمات العي التي تصيبه. فبفضلهن وكذا احتكاكه بالغجرية (من ميونيخ) بحي شوابين، المنتصرة للحرية الجسدية في الحب، فإن فيبر قد لامس باكرا، معنى العلاقة بين الجنسين بعيدا عن منطق تقسيم الأدوار في سوق الشغل. هناك إذن، فيبر آخر، يستحيل حصره في تأمل عقلاني معلب، يلغي الفرد. فالجنسانية، مثلا، هي رغبة في الإستحواذ على الآخر، مثلما هي في الآن نفسه، رغبة في الجمال والتساوق. فإعادة ترتيب الظواهر الإجتماعية، التي هي موطن العقل واللاعقل، هو الدور الأبرز لعالم الإجتماع. رغم ذلك، فإن اليأس هو الذي صنع من فيبر أن يكون المعلم بين سوسيولوجيا ما قبل 1914، والنقد الإجتماعي الذي انخرط فيه منذ 1930، جوار ماكس هوركخيمر (1895 ? 1973)، ضمن مدرسة فرانكفورت الشهيرة. ففي كتاب «السلطة والتحرر» العميق، المخصص لدراسة مفهوم السلطة من قبل جماعة الباحثين الذين ابتكروا «نظرية النقد»، سمحت كاتيا جينل، بطرح أهمية التعاقدات المنسوجة، كدين (سلفة)، حول ماكس فيبر. هنا يطرح أيضا سؤال حول إن كان الفرد باستطاعته الإفلات من عقلانية ضاغطة تحوله إلى أداة لا مجال فيها لتحقق حريته. بالتالي، هل نستطيع الإفلات من «قفص حديد» الحداثة التقنية فقط بالمعرفة السوسيولوجية؟. بالنسبة لمفكري جماعة فرانكفورت،، تماما مثل بيير بورديو في ما بعد، فإن المعرفة السوسيولوجية واحدة من بوابات الإنطلاق. هكذا، كما تستعرض كاتيا جينل، فإن ماكس هوركخيمر وفريقه جاهدوا في تمثل السلطة كشكل للإمتثال الممكن مع الحرية، لكن ذلك يفرض أيضا نوعا من «الشخصية التحكمية»، التي رأوا فيها أول الطريق للفاشية. السلطة، بالنسبة لجماعة فرانكفورت، تتضمن في الآن ذاته، وعدا بتقليم للعنف، وأيضا نزوعا كامنا للشمولية والإستبداد، وهو ما يحدث حين تتغول الهيمنة على منطق الأشياء. إن توضيح الإزدواجية الكامنة في العقل، والتقاطب فيه بين السم والترياق، هو الذي يجعل إرث مدرسة فرانكفورت فيبيريا، تابع مثلنا، للآليات التي نحتثها لنا سوسيولوجيا هايدلبرغ. (*) عدد يومية «لوموند» (14 يونيو 2013).