تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    انخفاض الأرقام الاستدلالية للقيم المتوسطة للواردات ب1,6 بالمائة وارتفاع الأرقام الاستدلالية للصادرات ب 0,5 بالمائة خلال الفصل الثالث من 2024    إطلاق مسابقة لتصميم محطات القطار الفائق السرعة والقطار الإقليمي    الصين: مطارا شانغهاي يسجلان أكثر من 124 مليون رحلة ركاب في 2024    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    الفرقة الوطنية للشرطة القضائية توقف شخص للاشتباه في تورطه في تزوير وثائق رسمية وعرضها للبيع    باب برد وإساكن.. المرتفعات الجبلية لجوهرة الريف تتزين برداء أبيض ناصع    غابة الأمازون البرازيلية سجلت في 2024 أكبر عدد من الحرائق منذ 17 عاما    تعليق محاولة توقيف رئيس كوريا الجنوبية    أعلى حصيلة منذ حرب 1973.. جيش الاحتلال ينشر عدد قتلاه خلال عدوان غزة    الشاعرة الأديبة والباحثة المغربية إمهاء مكاوي تتألق بشعرها الوطني الفصيح في مهرجان ملتقى درعة بزاكورة    خبير يكشف عن 4 فوائد أساسية "لفيتامين د" خلال فصل الشتاء    سقوط طائرة ركاب في كازاخستان    المجلس النقابي للاتحاد الإقليمي لنقابات الناظور يصدر بياناً نارياً حول عدد من القضايا بالإقليم    كأس السوبر الإيطالية: الهولندي دمفريس يقود إنتر إلى النهائي بثنائية أمام أتالانتا    السكن : التمويل التشاركي يستقر في 24,5 مليار درهم متم شهر نونبر (بنك المغرب)    الخطوط المغربية تطلق خطا جديدا يربط بين الرباط والداخلة    لفتيت يُقرّ بنصب مقاولين على ضحايا الزلزال ويؤكد الصرامة مع أعوان السلطة المتورطين في الابتزاز والتلاعب    مجازر إسرائيل مستمرة في غزة... 25 شهيدا بينهم قائد الشرطة في القطاع    جدل بعد وفاة سجين بواد زم وإدارة السجن توضح..    إحداث أزيد من 11 ألف مقاولة مع متم أكتوبر الماضي بجهة طنجة تطوان الحسيمة    رأس السنة الأمازيغية الجديدة.. "ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط" يوم 15 يناير الجاري بالرباط    "إف بي آي" يقدم تفاصيل جديدة بشأن حادث "نيو أورليانز"    الجيش الملكي يضع اللمسات الأخيرة قبل مواجهة مانيما    طريق الكركرات.. مشروع اقتصادي استراتيجي ضخم يعزز التعاون الإقليمي بين المغرب وموريتانيا    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الارتفاع    مالي تحرج الكابرانات وتطالبهم بتوجيه الجهود نحو حل القضية القبائلية    طنجة: توقيف أربعة أشخاص بتهمة حيازة وترويج المخدرات والمؤثرات العقلية    فرار مغاربة بمطار مالطا بعد هبوط اضطراري لطائرة تركية    وفاة أكبر بطلة أولمبية في العالم المجرية أغنيش كيليتي عن 103 أعوام    البطولة الاحترافية.. مباراة واعدة بين تواركة و"الماص" والفوز مطلب يوحد الوداد و"الماط"    اليورو يتراجع إلى أدنى مستوياته منذ أكثر من سنتين مقابل الدولار    10.393موظف أمن استفادوا من الترقية برسم السنة المالية 2024    مدوّنة الأسرة… استنبات الإصلاح في حقل ألغام    الفيفا تعتبر إبراهيم دياز نقطة تحول في مسار المنتخب الوطني سنة 4202    بلاغ من المغرب التطواني بخصوص جمهور الوداد    هولندا.. العثور على جثة مهاجر ينحدر من الريف بعد 11 يوما من اختفائه    قطب الريسوني ورشيدة الشانك ومحمد العناز يفتتحون سنة 2025 في دار الشعر بتطوان    تسجيل هزة أرضية خفيفة بإقليم أزيلال    "مقتصدو التعليم" يحتجون بالرباط    بعد إصابته في الرأس ودخوله في غيبوبة.. "الكاك" يكشف عن حالة اللاعب أمين تغزوي    فيفا: رحلة دياز تعيد المغرب إلى القمة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    تأجيل محاكمة مبديع إلى 9 يناير الجاري    تفاقم البطالة والفساد والمديونية.. منظمة نقابية تستعرض إخفاقات الحكومة في 2024    إختتام الدورة السادسة للمهرجان الدولي للسينما و التراث    كلشي بالمكتاب .. الدوزي يختتم 2024 بإصدار جديد    أحكام ‬قضائية ‬‮‬ضد ‬‮"صناع ‬التفاهة" وارتياح ‬كبير ‬لدى ‬للرأي ‬العام    وفاة الكاتب الفرنسي باسكال لينيه الحائز جائزة غونكور عام 1974    دراسة: الصيام المتقطع يساعد في علاج اضطراب التمثيل الغذائي    باحثون يطورون علاجا آمنا وغير مسبب للإدمان لتسكين الآلام    الطهي يتجاوز الفواكه والخضروات باستخدام أجزاء الأشجار    باسل خياط يخالف مبادئه ويقع في الحب ضمن الدراما الاجتماعية الرومانسية "الثمن" على "5MBC"    بنكيران: الملك لم يورط نفسه بأي حكم في مدونة الأسرة ووهبي مستفز وينبغي أن يوكل هذا الموضوع لغيره    الثورة السورية والحكم العطائية..    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص : لا نريد أن نعود إلى الشمس
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 14 - 06 - 2013

لا شيء كان ينسينا مصابيحنا البردانة إلا التدفق في أرض الغبار، نكاد نطير مثل حساسين تتوسل أعشاشها الوثيرة فوق شجرة مغلقة الأبواب.
لا شيء وراءنا سوى الأكواخ الكالحة، نتقدم بخطى ضاحكة لا نلوي على شيء ما دام «الشاعر» (أميتاب باشان) بالغ الكثافة في قلوبنا الصغيرة. نقطع الأميال التي تفصلنا عن «درب ميلان» كظلال لم تفقد لهفتها للضوء. كنا مستعدين لكل شيء، لعضات الكلاب، لمكائد الغرماء، لتحرش اللوطيين، للرجم بالحجر والمطر والأوحال.. كل واحد منا كان يُراهن على سرعة قدمه وقوة قلبه، وأيضا على مضاء سكينه السباعي الذي يكون عادة بحجم مأساة.
كنا نركض ونصرخ، ونشد سراويلنا بالمشابك والدبابيس والحبال والأسلاك. نمتطي «صنادل» البلاستيك ونطير ونطير ونطير لنصافح الغيم. وقبل ذلك كنا نتعرض لوابل من الصراخ المعاق. لا نتحرك من الدرب إلا بعد أن يتحول «حايشش» الكسيح إلى أفواه تشتم وأياد ترجم. نتحلق حوله كالشياطين ونحاول أن نقنعه بأنه عنزة بطعم السردين الخامج، أو أنه جرذ سكران أضاع غاره في أقاصي البلدان. وحين نرتوي ضحكا، يتمزق الدرب إلى شارعين.. الشارع المفضي إلى مقبرة الشهداء، والشارع المفضي إلى سوق الجزارين.. وكنا نتبعثر: أنا أبحث عن قمر صغير يطلع من ابتسامة «هيماماليني» الجارحة، وعن الفراشات التي تنبت في شعرها الذي يضحك مع الريح، وكان صديقي «عَبّوق» يقودني بنصف ظل لأرتمي في عيون «جبار» الواثقتين. كم كان «جبار» قسوة لئيمة، وقوة ليست كالمعتاد، لأنها خارقة وتوشك لفرط فولاذيتها أن تبز رشاقة البطل.
حين نصل إلى «رحبة الزرع» وقد غادرنا للتو «سوق النجارين» يَدِبُّ الفرح في الأمعاء، ولا سعادة على وجه الأرض توازي رائحة خبز النصارى حين تعربد في ضمير جوعنا الخرافي، نحن الذي تعودنا على «المحراش» وخبز «الفرَّاح» الأسود و»الرفيسة العميا» و»فتات الشطبة». آه لو كان «سوق الخبازين» بيتنا: أطنان من الحلوى والبيتزا والهلاليات والباريزيان. لم يكن لأمي أن تَسْمَرَّ وتتشقق في الشمس لنأكل، ولم يكن لأبي أن يغرق في غابة من السعال ليموت. لو كان الخبز صديقا لما أنبت الشوك في طفولتنا التي كانت دون معطف، ولما قدسناه بغزارة وبادلناه قسوة بقسوة.
في كل مرة، كنا ندخل هذا السوق القريب من الجنة، يكون اللُّعابُ هو كتابنا الناصع، وليس في الجيب إلا ثمن الولوج إلى سينما «الحسنية».
كانت جنَّتُنا تضيق وتضيق وجوعُنا يتسع. ومع ذلك، كنا لا نقلق كثيرا ما دام بّا العياشي، الرجل المسنُّ الذي أكل الغبشُ عينيه، لا يزال هنا حاضرا بوجهه الذي يشبه مغارة تحتشد فيها آلاف الخفافيش. نقترب بهدوء كما لو كنا ظلالا، ونضع أيادينا كيفما اتفق على الخبز السخي ونركض نركض ونرتشف الريق المر قبل أن نشعر بقلوبنا تنزلق تحت الركب.
وحين نبتعد ونختفي، يرفع «عبُّوق» كلتا يديه في الهواء كأنه يحمل سيفين جاهزين لطعن خاصرة الجوع. نقتسم ما غنمناه بسرعة، نسْرِطُ ولا نمضغ كأننا نخاف أن نتعرض لهجوم ماحق من أفواه لا يراها سوانا. وحين كنا ننتهي، نطرق أول باب نصادفه للظفر بشربة ماء، ونمتلئ بالضحك الذي يتفتت تحت ضلوعنا كأنه كواكب صغيرة تتساقط على الأرض بأقدام حافية. كم أنت قبيح أيها العالم، وكم أنت مضيئة أيتها المعجزة التي تسطع على القماش الأبيض كما لو كانت حلما بسبعة ألوان وما لا يعد ولا يحصى من آلهة: كالي، كريشنا، شيفا، راضا، بارفاتي، دورغا..
ونحن ندلهم في زنقة «صحراوة» التي كانت تشبه شمسا سمراء على شاطئ أزرق، لم نكن نتطلع لشيء في الأعلى. النساء المشرئبات بأعناقهن خلف حبال الغسيل. أكياس التمر الملتحف بالقبلات الحلوة. الدكاكين التي يتدلى منها اللوبان و»العكاية» وجلد العظايات والثعابين ووبر الفهود والتيوس. الفترينات التي تعرض «التكاشط» والفساتين وسراويل الطرز الفاسي. بائعو الكعك و»جباح» و»الشامية». الشحاذون المُهْمَلُون في الأسفلت البارد. الأبواب الداكنة المشققة. لاعبو «الضاما» الذين يحركون روح الحظ بأصابعهم المعجونة بالفحم ورائحة الجوارب..
وكنا نصطاد الولعَ في كل وجه عابرٍ كأن الجميع ذاهب للحرب. لا أحد يقدس النوم في هذا الزقاق الكرنفالي..
ننعطف يساراً ويستوي خطونا على الرصيف كأن كل واحد منا يحاول أن يستفرد بجني ابتسامة «هيما ماليني» وهي تضيء وتضيء على الأفيش. كنا نحب الهند لأنها أنجبت أعذب لحن بشري بعينين لوزيتين وشعر غجري كالح وقلب من سكر.
«هيما ماليني» كانت تعني الفرح الصادح والراقص والطائر والخرافي. كثيرا ما اشتعلنا غيرة وهي توزع القبلات الطازجة التي تنكسر دائما في اللحظة الأخيرة. وكنا نحملها معنا ونحتشد بها، وتتحول في سهو طفولتنا إلى فراشات عارية. كم أَعْدمتُ من فراشة، وكم وَبَّختُ خيالاتي بقسوة وهي تحتلني فراشة بعد فراشة بعد فراشة، وكم ضبطتني أمي متلبسا بامتطاء جناح وأنا أخور مثل عجل.. وكم حزت من لعنات ولكزات ولسع ناصع مبين.. «أولد الحرام، واش ما باغيش تسالي من هاذ أفعال الشياطين؟».. وكان الشيطان قد جعلنا نتشبث بمنديله الأزرق طائعين ضاحكين.. وكنت كلما اختليت بفراشة كلما سقيت بماء عينيها اللوزيتين شتلتي الصغيرة..
«هيما ماليني»، الشجرة الخضراء التي لا تعني أحداً سوانا. صراخ الرغبة الذي يخطو في حرماننا بضوء قليل وأسنان حادَّة. جِلدُ يُتمنا الذي تربت عليه أنفاسُنا الحارقة وأعضاؤنا الناقصة. فاكهتُنا الحامضةُ ودمعُنا المنسكب. خلودُنا في الطين والأحلام المتغضِّنة والفقر الذكي. سلاحنا المشع أمام الزمهرير الذي يحرض آلاته الموسيقية على أجسادنا العزلاء. خطوة النار التي صيَّرتنا رجالا ومداسا لنعال الأمهات..
لا شيء أعلى من ظلام السينما. نؤدي ثمن التذكرة في الشباك الوحيد، متعرقين ومتلهفين ويقظين ومتحفزين لأي عراك مفاجئ. لا نتحقق من اليد التي تأخذ أو التي تعطي، نقبض على تذكرة العبور إلى الجنة، وننتظر دورنا خلف الباب الأحمر المغلق. وكم تغمرنا السعادة حين نتلقى صاغرين «الإذن» الصاخب بالدخول. «مولات البيل»، الخرتيتية القامة، المتورمة الأوداج مثل أبطال المصارعة الحرة، تنهال علينا بالصفع السخي والشتم الداعر اللذيذ. ولا تتركنا إلا بعد أن تختلطَ أحناكُنا بأعناقنا، لننقذف بسرعة الضواري نحو أول كرسي شاغر. وقد يتحول السباق على الكراسي إلى معارك طاحنة بين الأشباح لا يطفئها إلا رجال بحجم الخيول وضعهم صاحب «السينما» لترويض الجحيم. أحيانا كان هؤلاء الحراس المأجورون يساهمون في العراك، فيتحول المتفرجون قليلو الحظ إلى عهن منفوش. أجساد تتطاير، وأخرى تتكسَّر على الأرض الصلبة. دماء وبول ومياه بطعم مرحاض عمومي. ولا تنتهي المعركةُ المدعومة بسرب طائرات مُقَنْبِلة من السَّباب العنقودي العميم إلا بتدخل «المخازنية» الذين تمتلئُ عيونُهم بالغيلان والمُسُوخ.. ولا نريد أن نعود إلى الشمس قبل أن نهتبل المروج الخضراء والأغاني التي تغور في الغيم كرموش تتأرجح في الريح بحبل متموج طويل. لا شيء يمنعنا من الألحان الساحرة والنايات والصُّنوج والهارمونيكا. يكفي أن نُغمض حذرَنا عن آخره لننسى أن لا شيء أعذبُ من تراب خطواتنا نحو «هيما ماليني».. خطواتنا الراقصة التي تنسكبُ بابتسامات واسعة على الأرصفة والحدائق والحقول والجسور.. خطواتُنا التي تغفر لأحذيتنا الذائبة، فيتلوَّنُ العالم في لحظة ويُصْبِحُ بطعم البندق الممزوج بمسحوق السكر.
ينشق الستار من الوسط وينزاح كجناحي نسر عملاق يستعد للإقلاع، يضيء الإزار الأبيض المستطيل وتضيء وجوهنا وتزغرد قلوبنا ويحترق التبغ الغامض في اللفائف.. «وااااااااااا القرع طلق السييينتة..».. وتتحول الشتائم الضاحكة إلى طائرات ميراج تحلق فوق أكتافنا.. وتبدأ أولى الصور في الهطول..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.