من بين المفاجئات غير السارة، بل والمتضمنة لقدر غير يسير من العبث كما كان يمسرحه أوجين يونسكو، «سقوط» فرقة «مسرح أفروديت» وعملها الأخير «اشكون انتا؟!» من لائحة لجنة دعم إنتاج وترويج الأعمال المسرحية برسم موسم 2012/ 2013. وتنجلي الملكات العبثية للجنة المذكورة أكثر حين نعلم أن مصالح وزارة الثقافة انتبهت، والحبر الذي صاغت به الهيئة نتائج مداولاتها لم يجف بعد، إلى هذا «السهو» الفادح والفاضح فبادرت إلى الاتصال بالفرقة مقترحة عليها عرض عملها بمكناس بمناسبة احتضان العاصمة الإسماعيلية للدورة الخامسة عشرة للمهرجان الوطني للمسرح خلال الفترة الممتدة من 06 الى 13 يونيو. فإذا كانت «اشكون انتا؟!» لا تستحق الدعم، وفق قرار اللجنة التي يرأسها نيابة عن الوزير الوصي على القطاع مديرُ مديرية الفنون بوزارة الثقافة، فكيف يحق لها أن تُعرض في مهرجان مكناس الموسوم بالوطني بمبادرة من مديرية الفنون ذاتها بالوزارة ذاتها؟ لنترك هذا التناقض الأول جانبا، ولنعد بعقارب الساعة إلى الوراء لعلها تكشف لنا الأسباب الحقيقية لحجب الدعم عن «أفروديت»، وهي أسباب عناوينها الرئيسة سعي اللجنة المذكورة إلى تنميط المسرح المغربي وفق نزوعات أعضائها المسبقة، وتغليب نموذج معين منه على باقي الأصناف، واستئصال تعدديته والتجريبية الجمالية التي هي محركه وأصل تجدده. عقب تجربة متميزة راكمها «مسرح أفروديت» طوال عشرة سنوات، قررت الفرقة التوقف لمدة ثلاث سنوات عن الإنتاج... ليس كسلا أو بسبب نضوب خزانها الإبداعي، بل من أجل مساءلة التجربة وتقييمها جماليا ومفاهيميا، وصياغة أسئلة مبتكرة حول العرض المسرحي الجدير بأن يقدم للجمهور المغربي ويحترم ذكاءه وانفتاحه على التجارب العالمية الجديدة المنغرسة في أفق تطوير الفنون المشهدية. وهو موقف نادر في الساحة المسرحية الوطنية، يستحق التنويه لأنه يجعل الممارسة وليدة لتصور جمالي وفني مفكر فيه بدقة ومخطط لإعماله على الركح. ليس العرض المسرحي فعل بهرجة أو إبهار. هي ذي إحدى الميزات التي تعتمدها، مع سبق الإصرار والتأمل، «أفروديت»، معتنقة بذلك أطروحة ضرورة توفر الشعرية في العرض المسرحي. هذا الانتماء لأفق فني يرفض الإبهار هو ما يجعل الفرقة تبتعد، وتستمر في الابتعاد، عن اعتماد النجوم، مفضلة فتح الباب أمام خريجي المعهد العالي للفن المسرحي عقب مرافقتهم في ورشات تكوينية. كما أن الفرقة تفسح المجال لمهن فنية قائمة بذاتها رغم أنها ظلت مغيبة عموما من التجارب المغربية لسبب أو لآخر، من قبيل الماكياج وتصميم الملابس وإنجازها وإدارة الخشبة ووضع موسيقى أصلية وتقنيات الفيديو والإنارة... إن المغرب يعيش مرحلة انتقال مسرحي يجب أن تطوي صفحة حقبة التأسيس وتجارب الأجيال السابقة، وتجعل الجيل الجديد يطرح أسئلته الجمالية الخاصة للانخراط في الحداثة الفعلية وليس المفترى عليها. هذه ميزة أخرى تنضاف إلى الأولى في تصور «مسرح أفروديت». ووفقها، يطرح سؤال تكامل مكونات العرض المسرحي واندماج بعضها بالبعض لتمنحه حياة عابرة تدوم خلال تقديمه وتتجدد في العروض اللاحق له، مع ما يقتضيه الأمر من محو وإضافة. هذه النظرة تستلزم بالضرورة، من بين ما تستلزمه، الانزياح عن المفهوم المدرسي للفن المسرحي لاعتناق تصور مغاير يتبنى ضرورة تطور العرض وتحوله كلما قدم، ويرفض، على سبيل المثال، تماهي الممثل مع دوره، ويرفع عاليا راية تعبيره إنسانيا عن دوره لأنه ليس مجرد أداة طيعة بين يدي المخرج، بل فاعلا في سيرورة العرض ككائن وكجسد... وتتبنى «أفروديت»، في ذات السياق، فكرة كون النص مجرد مكون من ضمن مكونات العرض الأخرى، يجب أن يخضع للتفعيل والتفاعل معها. ومن ثمة، فمشروعها يدافع عن الصمت ودلالاته وقدرته على التعبير. هذه مجرد عناوين رئيسة للمسرح كما تنظر إليه فرقة «أفروديت»، لأنه «لا يوجد مسرح، بل مسارح»، وهي، بنظرتها هذه، تضع نفسها، بوعي تام، خارج التصور الجامد للعرض المسرحي، التصور الذي يجبر العرض على تكرير نفسه بشكل مطلق. العرض المسرحي ليس بذلة جاهزة يضعها المتدخلون في إبداعه كلما استدعوا لتقديمه، بل هو كائن متحول رهانه الأساس التواطؤ مع متلقيه. هذه المقاربة للعمل المسرحي هي التي جعلت ربما لجنة دعم إنتاج وترويج الأعمال المسرحية «لا تجد ضالتها» في عرض «مسرح أفروديت» الأخير الذي كتب نصه الشاعر والروائي محمد الأشعري. ودون التوقف عند قيمة مبدع النص الذي لا يحتاج إلى ذلك، والذي يعرف المهتمون الفطنون بالشأن الثقافي مغربيا (ولعل بعض أعضاء اللجنة ليسوا من هذه الطينة) أنه لا «يطلق» سراح منجزه إلا بعد عمليات تمحيص وإعادة قراءة مضنية وطويلة حتى لا يخون أفق انتظار متلقي عمله المفترض، دون التوقف عند هذا المستوى، يمكن الإشارة إلى أن قرار اللجنة يترجم، إلى حد بعيد، كلاسيكية مرتكزاتها، وانتصارها لنمط يكرس «جمود» العرض المسرحي ليصبح مثل قفاز يضعه الفاعل المسرحي كلما استدعي للقاء الجمهور. ألا تعرف اللجنة أنها ليست لجنة تحكيم في مهرجان مسرحي، بل لجنة دعم تدرس مدى ملاءمة المشاريع للشروط المهنية المنصوص عليها قانونيا فقط، وأنه لا يحق لها، بفعل مهمتها، إسقاط أوهام بعض أعضائها الجمالية على تلك المشاريع؟ السؤال هذا يكتسي مشروعيته من عروض «اشكون انتا؟!» الثلاثة التي قدمت لحد اليوم. ولعله من اللائق، نظرا لقرار اللجنة المذكورة المسيء لمستقبل المسرح المغربي بكل المعايير، دعوة أعضائها للسفر إلى طنجة لمشاهدة العرض الرابع للعمل الذي سيقدم مساء السبت فاتح يونيو بمناسبة فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان الفنون المشهدية الذي تحتضنه المدينة. ربما سيقتنعون بفداحة فعلتهم بعد إسدال الستار على العرض الذي هو في تجدد مستمر، رغم أنهم يفضلون (على ما يبدو) الفرجة «المحنطة»، ورغم أنه من الصعب إقناع أشخاص تمت صياغتهم من قبل.