يتفاءل بعض الناس بما يجري حاليا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لأنهم يعتقدون أن الأمور تسير نحو الأفضل وأنَّ الأفراد والمجتمعات سيتمتعون أكثر فأكثر بحقهم في حرية التفكير والتعبير. لكنني، أتوجس خيفة من كل ما يحدث لأن العصبية الطائفية والمذهبية والقبلية تطغى في ظل هذا الذي يسمي ب «الحراك الاجتماعي»، بل إنها تزداد بروزا ورسوخا فيه وبسببه. وإذا كان التعصب في السابق كامنا، فإنه قد أصبح اليوم علنيا يكاد يفقأ العينين. ومن الأكيد أن كل تحوُّل مجتمعي لا ينهض على تحوُّل ثقافي ويفضي إليه لا يجدي نفعا، إذ هو مجرد تنفيس عن الكبت والاختناق قد يشكل نكوصا ورجوعا نحو الخلف. وإذا كانت القوى الاستعمارية قد حافظت على العصبيات والكيانات التقليدية لمجتمعاتنا بهدف التمكن من السيطرة على بلادنا، وبالرغم من أن الحاكمين قد نهجوا الأسلوب نفسه وللهدف ذاته، فإن العولمة تستغل هذه العصبيات ومؤسساتها المختلفة لهدم الوحدة الوطنية وتشتيت الأوطان، مستغلة في ذلك نتائج الدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية التي أجرتها علينا مختلف مؤسسات البحث للقوى العظمى التي تؤكد جميعها أن العصبية الدينية والقبلية تضعف نسيجنا الاجتماعي، وتحول دون تقويته وتمتينه، ما جعله يحمل في أحشائه عوامل تفتيته. هكذا، يبدو لي أن الوضع الإقليمي مخطط مسبقاً، حيث ما حدث ويحدث في منطقتنا كانت تفعل فيه حتميا بعض القوى العظمى وتتوقع حدوثه، وتستعد لتحويله من ربيع إلى خريف. ولا يمكننا قراءة الوضع في أي بلد من بلدان المنطقة بمعزل عن الأوضاع في بلدان أخرى من بلدانها. وإذا تأملنا الأمر عميقا وجدنا أن صعود جماعات الإسلام السياسي إلى «السلطة» قد تم بفعل فاعل وليس راجعا إلى نفوذها. ويعود ذلك إلى أن القوى العظمى تريد التحكم نهائيا في المنطقة ورسم خريطة جديدة لها... يلاحظ الدارسون أن الاندماج الاجتماعي الوطني لم يتحقق في بلادنا بسبب النمو المتزايد للعصبية، لكننا لا نعني بالعصبية فقط تلك التي تقوم على القرابة الدموية، بل نقصد بها كل أنواع العصبية. ويبدو أنَّ العصبية القبلية والدينية تشكلان العاملين الأساسيين اللذين يحولان ضد الاندماج الاجتماعي في بلدنا ويؤديان دورا كاسرا للحمة الاجتماعية فيه.. ولا تقوم هاتان العصبيتان فقط بتعطيل الاندماج الاجتماعي، بل إن كل واحدة منهما تروم الانقضاض على الدولة والاستيلاء على صلاحياتها. تعوق العصبية الاندماج الاجتماعي الوطني لأنه يجعل القانون أقوى منها، ويقدِّس الولاء للوطن لا لزعيم العصبية، ويضع الدولة الدستورية بديلا عن دولة العصبية التي تقضي على فكرة المواطنة، ما ينجم عنه غياب الاندماج الاجتماعي، حيث يرى وجيه كوثراني «أن غياب أو تغييب فكرة المواطنة على مستوى الانتماء إلى دولة ووطن ومجتمع، يؤدي إلى غياب الاندماج، وبالتالي إلى غياب أو تغييب الثقافة المدنية واستحالة تكوُّن مجتمع مدني» (وجيه كوثراني، هويات فائضة... مواطنة منقوصة، بيروت: دار الطليعة، 2004، ص 11). إجمالا، إن أزمة المواطنة عندنا هي أزمة ناجمة عن سيادة النزعة التقليدية التي تمكن من استمرارها. وتعود المواطنة، بالمعنى الحديث للكلمة، إلى عصر الأنوار الذي نادى فلاسفته بالحرية ضد الاستبداد المطلق الذي كان سائدا في الغرب في القرن الثامن عشر الميلادي. وقد عمل هؤلاء الفلاسفة على الانتقال بالإنسان من كونه «رعية» يرزح تحت الاستبداد، إلى ذات ومواطن مستنير يحرص على المصلحة العامة. لقد كان الإنسان قبل عصر الأنوار ينتمي إلى عشيرته أو طائفته أو مذهبه، وكان الناس مقسَّمين إلى درجات، لكنهم أصبحوا جميعا سواسية أمام القانون، بفضل فكر الأنوار والثورة الفرنسية، فصاروا يتمتعون بحق المواطنة، ما شكَّل تحولا كبيرا. فهل يمكن أن يتحقق هذا الإنجاز في بلدنا أو منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟ نظرا لاختراق الصراع الطائفي لمجتمعنا وتغلغله فيه، يبدو أن الاندماج الاجتماعي يتطلب كثيرا من الوقت، حيث يحتاج بلدنا إلى إصلاحات ثقافية واجتماعية عميقة تمكننا من التخلص من كل أنواع العصبيات، الأمر الذي يساعد على الانتقال، بأسلوب حضاري، إلى مرحلة أخرى على طريق المواطنة. لكنني أستبعد حدوث ذلك نظرا لاستمرار هيمنة العصبيات على مجتمعنا التي تشكل الجانب المظلم من موروثتا الثقافي، ما يقتضي منا الحذر مما يجري في منطقتنا. يقتضي حدوث الاندماج الاجتماعي عندنا فصل الدين عن الدولة ونشر ثقافة القيم الفردية وإحلالها محل القيم الجماعية القَبَلِية والطائفية، ما يُمهِّد الطريق لعقد تشاركي بين الفرد والدولة، حيث يصبح الفرد مواطنا له حقوق وعليه واجبات، كما ينبغي تأسيس الأحزاب وفق قانون حداثي يمنعها من القيام على أساس القَبَلِية والطائفية، ويجعلها مؤسسات مستقلة عن الزعامات والأهواء والنزعات والكيانات التقليدية، حيث ستسود ثقافة الدولة المدنية. ويؤدي تخلص الفرد من الفكرين القَبَلِي والطائفي إلى الارتقاء به من مفهوم «الرعية» إلى مفهوم «المواطنة» كما هو الأمر في الدولة المدنية الحديثة.