أحوال الوطن، شجون الذات، تحولات المجتمع، شهوة السلطة، تجديد التراث، رموز التاريخ، الحاضر والمستقبل.. تلك بعض من قضايا ساخنة ذات قوة وجذب شكلت مجتمعة فسيفساء النص المسرحي الجديد «انقب واهرب»، الذي راهنت «فرقة مؤسسة سيدتي للمسرح» على الاشتغال عليه، ضمن هذه التجربة المسرحية الجديدة. تابع جمهور متنوع، مساء يوم الأربعاء 17 أبريل 2013 بالمسرح الوطني محمد الخامس بالرباط، العرض المسرحي الجديد «انقب واهرب» »لفرقة مؤسسة سيدتي للمسرح» برئاسة الفنان عبد الحق الزروالي. وفق مقاربة إنتاجية مشتركة بين تونس والمغرب، حضر الرواد المغاربيين كما حضر محمد الحياني وحضر عبد الهادي بلخياط ونجاة اعتابو ومحمد الرويشة والفنانة فيروز واسمهان ومحمد عبد الوهاب، حضر هؤلاء جميعا ضمن اختيارات فنية وتيماتية متعددة، حيث فضل عبد الحق الزروالي في عمله الجديد «انقب واهرب» أن يقدم للجمهور فرجة مسرحية مختلفة تعتمد على تداعيات خالصة في الفكر والحكي والتمثيل، تداعيات لا تملك بداية مباشرة ولا تملك نهاية مباشرة.. تداعيات مبطنة بسخرية لاذعة للمجتمع والسلطة ولواقع المعيش وتحولاته من حيث مداخل الرداءة ومواطن الفساد وسقوط القيم.. منذ بداية عرض «انقب واهرب» وبطل الفرجة المسرحية لا يتوان عن مناجاة الذات باحثا عن الخلاص، بالتصريح أحيانا وبالتلميح تارة أخرى.. بجلباب رث متقادم متآكل غير آبه بمظهره الخارجي، حاملا حقيبة وقيثارة، قاصدا السفر في أراض مزهرة، أراض تعبق بأريج وربيع المساواة والعدالة والكرامة. إنه مرزوق التعيس غير المحظوظ في الزمان والمكان، حيث يعاتب نفسه عن خروجه للوجود عبثا وبدون شروط للحياة بوطن عربي جمع كل المآسي والمخاطر والمفاسد، لقاء عابث انتهى بمجرد لقاء حارق بين امرأة ورجل يرغبان أن "يعمرا الدار" على حد تعبير البطل.. هناك وهو الرجل الحر الحالم خرج يوما للبحث - بدافع غريزة الجوال العاشق - عن عيون يحبها وعن بلد يشتم فيه رائحة الحرية.. لم يجد مرزوق التعيس الحبيبة التي أراد، شاكسه الحظ.. فوجد فقط نساء بئيسات ضعيفات النفس والقيم لا يؤمنن إلا بما هو مادي، فأصيب البطل بإحباط مروع، أفقد مرزوق الثقة في الذات والحياة والطموح إلى مراتب أفضل. «مروزقة يا مرزوقة.. أينك أنت يا مرزوقة.؟ أبحث عنك، تعبت من أجلك يا مرزوقة؟..» هكذا أضحى البطل يردد في كل تجواله وترحاله. حرص المخرج التونسي منصف السويسي بهذا العمل على تقديم مرزوقة التي يبحث عنها بطل المسرحية كامرأة من نوع خاص، إنها فعلا امرأة من طينة خاصة.. هي المرأة الحلم، هي الوطن الأم، هي القيم النبيلة، هي الجمال والعاطفة الجياشة، هي التعفف والصفاء والحب المفتقد. مرزوقة التي ضاعت في مسرحية «انقب واهرب" هي الربيع بكل ألوانه، هي النور المضيء، هي العطر المتسربل، هي الضوء الهارب الذي قرر من أجله بطل المسرحية الهجرة والسفر وحيدا، من بلدة لأخرى، من قطار لآخر، لا ينال منه العياء ولا يمل، باحثا عن الحلم، عن بلاد يعم فيها السلم والسلام، كما تعم فيها ديمقراطية الاختيار والقرار.. «مرزوق التعيس» كما فقد «المرأة الحلم» فقد «الوطن الحلم».. وكما فقد الوطن فقد القيم الأصيلة.. هنا تعظم الهزائم، فيبكي فقدان الكل.. ويشرع الضياع باب العبث والخطيئة والموت. بالموازاة مع خطاب النص المسرحي، بدا رهان المخرج التونسي منصف السويسي على الإضاءة منسجما مع حالات الرزايا، ففي كثير من الوضعيات جاءت الإنارة خافتة، حيث الوجه شاحب والصوت مترنح والحزن يملى الأمكنة. وعلى مستوى السينوغرافيا توفق المخرج التونسي منصف السويسي في تأثيث الفرجة المسرحية بمكونات منها: سكة قطار تخترق الخشبة نصفين، وفي الخلف باب كبير لولوج العابرين إلى البلدة.. بجهة اليسار شجرة يحاديها كرسي للاستراحة، بينما قيثارة مرزوق تشكل حجما وشكلا لافتا للنظر، قيثارة بهيكل مائل إلى هيئة امرأة عارية، هي بمثابة متكئ للبطل أحيانا وآلة عزف أحيانا وجهة للنجوى والتذكر والرثاء تارة أخرى. مسرحية "انقب واهرب" عمل فني برؤية ناقدة، وروح تزاوج بين الكوميديا والسخرية اللاذعة لتحولات المجتمع، خاصة فيما يتصل بالعلاقة بين الرجل والمرأة.. وما استجد على الإنسان من محاولات تبضيع جسد المرأة وتحويله حامله من روح للخصب والعطاء والحب والأمل إلى كيان للماديات ليس إلا... بحس يراهن على الابتعاد عن النخبوية، توفقت مسرحية «انقب واهرب » في إمتاع الجمهور دون أن تسقط في الفرجة الفارغة أو التهريج الأجوف، وظلت هي في عمقها كوميديا اجتماعية ذات أبعاد إنسانية وسياسية، وإن جاءت مليئة بالمواقف الضاحكة، فهي مسرحية رصدت التحولات العميقة التي يعيشها المجتمع المغربي، محاولة إعادة إنتاج الأسئلة التي تفرضها مرحلة حساسة يجتازها المغرب .. للتذكير، عرضت مسرحية «انقب واهرب» حديثا، ضمن مهرجان «دوز» للمسرح العربي في دورته الثامنة بتونس، في سابع أبريل 2013 .