الخطوط الملكية المغربية بالمؤنث، نعم هي حقيقة قائمة وباهرة. وكان اليوم العالمي منذ أسبوعين مناسبة للفرح بذلك وتأكيده في سماء التحليق العالمي للطيران المدني، حين تكفلت طواقم نسائية مغربية كاملة برحلات طيران لواحدة من أكبر طائرات البوينغ من نوع 737، بين الدارالبيضاء وباريس. وهي الرحلتان التي مرت في ظروف مثالية، حيث كانت قائدة الطائرة ومساعدتها وباقي الطاقم كله نساء مغربيات، حين تتقمصهما بلاد بكاملها تكمل بهما وتتسامى. الحقيقة أن هذا المعطى المغربي، إنما يترجم واقعا راسخا في السلوك اليومي المغربي، ظل يرى إلى المرأة كشريك في الإنتاج (عدا تجارب مدينية خاصة سادت فيها ثقافة الحريم). وليس مستغربا، مادمنا نتحدث عن سيرة مغربياتنا في مجال الطيران المدني، أن تكون أول امرأة ربانة طائرة في العالم العربي والإسلامي وفي إفريقيا وكل دول العالم الثالث، مغربية، هي الشهيدة ثريا الشاوي. تلك الشابة المغربية، التي قتلت غيلة وهي وراء مقود سيارتها تحت شرفة بيت عائلتها بمدينة الدارالبيضاء، ووالدتها تلوح لها بيديها، قبل أن تشاهد القاتل يأتي من وراء السيارة متخفيا ويطلق الرصاصة القاتلة على رأس سيدتنا المغربية وعنوان مجدنا الأبقى في مجال الطيران المدني النسائي بالعالم. ثريا الشاوي، التي طفقت شهرتها وسيرتها الآفاق، التي كانت واحدة من ثلاث ربانات طائرات مدنية في العالم سنة 1955 (واحدة فرنسية وواحدة أمريكية وثريانا المغربية)، أصبحت علامة مغربية عن معنى نبيل لكل نساء البلاد، ما جعل الآباء والأمهات يطلقون لسنوات إسم «ثريا» على مواليدهم من الإناث. بالتالي ليس مستغربا أن نجد في سجل الحالة المدنية بمختلف مدننا المغربية حضورا طاغيا لهذا الإسم في سجلات المواليد لأكثر من 15 سنة. لم تكن ثريا الشاوي عنوان الشرف المغربي الوحيدة في مجال الطيران المدني، حتى وإن كانت هي من أسس رمز الطيران المغربي، وواضعة أسس المدرسة العسكرية للطيران بالمغرب وصاحبة أول كتاب تعليمي مغربي للطيران المدني. لم تكن العنوان الوحيد في كتاب الطيران المغربي بل، توالت أسماء عدة من ذات قيمتها ودربتها واحترافيتها، من قبيل الراحلة الأخرى التي رحلت في حادث تحطم طائرة «أتر إر 45» الشهيرة ذات صباح صيفي بضواحي مدينة أكادير سنة 1994، أميمة السايح، هي التي كانت عائدة مع ركاب تلك الطائرة الصغيرة إلى الدارالبيضاء بعد أن أنهت مهمتها في رحلة طيران لطائرة بوينغ 737 إلى مطار أكادير المسيرة. فاغتصب شبابها واغتصب الطيران المدني المغربي في كفاءتها. وكذا رفيقتها وزميلتها بشرى البرنوصي، التي ظلت عنوان اعتزاز مغربي في مجال قيادة كبريات الطائرات المدنية المغربية لسنوات. قبل أن تلتحق بهن اليوم الربانة لطيفة فدواش، سنة 2005. ثريا الشاوي، مجد مغربي لا يحمل أي مطار اسمها إلى اليوم.. لنتذكر هنا، نساءنا الطائرات في السماء، تلك الأنامل الناعمة الرصينة التي تعرف جيدا كيف توجه طائر الرخ المعدني، كي يسبح بين التيارات، وكيف يحط في كل مطارات العالم وتحت أي ظرف من الظروف: صهدا أو شتاء،، ثلجا أو غبار رمل. لنتذكر ثريا الشاوي، تلك الطفلة التي مرضت بمرض صدري وهي لا تزال في يفاعة طفولتها، ونصح الطبيب والدها، رجل المسرح، المثقف، بفاس أن يأخد ابنته إلى مطار المدينة ويتوسط عند أحدهم ليقوم بجولة بالطفلة في الأعالي، حتى تستنشق الأوكسجين الأصفى، فهو شفاء لحالتها. قبل الأب المغامرة وبحث عمن يساعده على تحقيق وصفة الطيران الشافية لصغراه ثريا، فكان ما كان: صعدت طفلة ونزلت أخرى. من حينها أصيبت بلوثة الطيران، الذي صار حلم عمر لديها. وبدلا من أن تتبع نداء أنوتثها، ركبت التحدي لتدرس الطيران بمدرسة تيط مليل بالدارالبيضاء، التي انتقلت إليها كل العائلة. كانت لا تزال في 16 من عمرها حين ولجت المدرسة تلك، مغربية وحيدة بين فرنسيين وإسبان وإيطاليين، وكانت النظرات إليها محقرة عنصرية، لكن أستاذها الإسباني كان وفيا لمهنته وأخلاقها، فكان محاميها الأول والأخير. فيما كانت الأم والأب يقتطعان من ميزانية البيت لتوفير واجبات الدراسة الشهرية وكذا توفير ثمن التنقل إلى المدرسة التي كانت حينها في أطراف أطراف المدينة، في منطقة خلاء. وحين جاء يوم الإمتحان اختارت لها الإدارة يوما ممنوعا فيه الطيران بسبب عاصفة وغيم ومطر كثيف. ركبت ثريا الشاوي التحدي، صعدت بطائرتها الصغيرة، دارت دوراتها الواجبة، تلاعبت مع الريح الهوجاء، ونزلت سالمة غانمة. فوقف الجميع يصفق لها. حين عاد محمد الخامس من منفاه صعدت بطائرتها الصغيرة ورمت مناشير الترحيب في كل المسافة بين الدارالبيضاء والرباط وسلا، ونزلت حتى قاربت القصر الملكي بالرباط ورمت ذات المناشير هناك. وكان ذلك سببا لإصابتها إصابة بليغة في رئتها، مما تطلب شهورا من التداوي بسويسرا، وحين عادت، أسست لأول مدرسة للطيران العسكري والمدني بالمغرب، واختارت رمز الطيران المغربي الذي لا يزال هو هو إلى اليوم، مثلما حررت كتابا بالتنسيق مع وزارة التجهيز والنقل لتعلم الطيران باللغة العربية. وذات رحلة كانت قادمة من غرناطة بإسبانيا في رحلة إلى تطوان سنة 1954، وكان الربان الإسباني يتجول بين الصفوف فلمحها لابسة لباسا ربانة طيارة مدنية، وهي الصغيرة السن (17 سنة) والقصيرة القامة، فاعتقدها طفلة تتشبه بالربابنة، حياها ففوجئ أن أخبرته أنها ربانة طائرات. لم يصدقها الرجل، فدعاها إلى مقصورة القيادة وقال لها أن تكمل الرحلة حتى تطوان أمام ناظريه. فقامت باللازم باحترافية عالية، وحين حطت الطائرة بمطار تطوان، تناول الربان الميكروفون وقال للمسافرين: «أيها السادة والسيدات صفقوا للشابة المغربية ثريا الشاوي، هي من قادت الطائرة بكم وحطت بنا بسلام على أرضية المطار»، فصفق الجميع. أصبحت ثريا الشاوي مثالا لمغرب ناهض، من خلال نسائه. فكان ذلك مقلقا للكثيرين، فتقررت تصفيتها، وكان أحمد الطويل من نفذ تلك العملية الإجرامية. أميمة السايح، القدر الظالم.. كانت لا تزال في أول شبابها، ربانة طائرة أولى في العالم العربي في زمنها، رفقة زميلتها بشرى البرنوصي. كانت صورتهما الشهيرة إلى جانب الملك الراحل الحسن الثاني، ترجمانا لقصر قامتهما، لكن لسمو هامتهما العلمية والمهنية. كانت أميمة لا تزال في أول وعدها، أما وربة بيت وسيدة مغربية فاضلة صموت، وعلى خلق عال، وأيضا على دربة عالية في مجال الطيران المدني، حيث كانت من أول النساء العربيات والإفريقيات التي قادت طائرات البوينغ الضخمة. وكانت كلما دخلت مجالات أجواء الدول، تقول جملتها التقنية العادية «أنا ربان الطائرة أميمة السايح، من الخطوط الملكية المغربية رقم الرحلة كذا وكذا.... « وما يلي ذلك من خطاب تقني محض، فتقف لها الهامات في مطارات العالم، في أروبا والعديد من عواصم العالم العربي. كانت بمنجزها تقدم رسالة، باكرا، أن المغرب ينتصر لخيار التحول والإصلاح بالملموس وليس بالخطاب. وأنه حين بدأت أخيرا عواصم عربية كبرى مثل القاهرة تحتفي بتعيين نساء قاضيات في آخر القرن العشرين، كان المغرب قد فرح بهن منذ سنة 1962، وحين لا تزال المرأة السعودية من سياقة مجرد سيارة أو دراجة هوائية أو نارية، كانت نساء المغرب بجلابيبهن ونقابهن يسقن السيارات منذ الأربعينات من القرن 20. كانت أميمة، التي أصبحت ابنة لكل بيت مغربي بعد موتها المأساوي في ذلك الصباح الساخن من صيف سنة 1994، كانت على موعد مع عائلتها في طريق عودتها من مطار أكادير بعد أن أنزلت فيه طائرة بوينغ ضخمة قادمة من أروبا وطار الدارالبيضاء، لكن الموت اختطفها في تحطم تلك الطائرة المغربية الصغيرة من نوع «أتي إر 42»، التي كان يسوقها زميلها من مدينة القنيطرة. فماتت مثلما يموت الفنان فوق خشبة المسرح، أو مثلما يموت القبطان في لج المحيطات، فانتكست الخواطر في طول البلاد وعرضها قبل أن تنتكس الأعلام حدادا على شبابها وعلى مهنيتها وكفاءتها.. أميمة السايح هي أيضا لا يحمل أي مطار مغربي اسمها.. لماذا؟. لاجواب. بشرى البرنوصي، الكفاءة بصيغة المؤنث., كان عمرها 17 سنة فقط، حين حصلت على الباكالوريا شعبة الرياضيات، وتقدمت سنة 1980 إلى مباراة تعلم الطيران المدني. كان والدها الذي وضع طلبها يراهن أنها لن تصبر طويلا. لكنها من ضمن 18 طالبة، نجحت هي والراحلة أميمة السايح في اجتياز كل مراحل التكوين النظري والتطبيقي بامتياز. فتخرجت ربانة طائرة مدنية مغربية. هي اليوم تزاوج بين مهتمها النبيلة كأم ومهمتها النبيلة الأخرى كربانة طائرة، خاصة وأن زوجها الطبيب الجراح للتوليد كثيرا ما يتغيب هو الآخر عن بيت العائلة بسبب التزاماته المهنية، فتصبح بشرى مضطرة أحيانا لتتبع مراجعة الدروس مع بنتها البكر عبر الهاتف من هذا المطار أو ذاك عبر العالم. وهي اليوم من أكثر مناصرات حقوق المرأة في المغرب، هي التي لا يمكنها أن تنسى كيف ظل ينظر إليها بازدراء وتجاهل في عدد من عواصم العرب، وكذا باستغراب في عواصم أروبية. في أروبا كانوا يستغربون كيف سمح الرجال في المغرب لامرأة أن تحترف الطيران، لأن لهم تصورا فولكلوريا عن وضعية المرأة بالمغرب، وهو تصور الحريم. لكنهم يفقون لها تبجيلا وتقديرا لكفاءتها المهنية. لكن أغرب ما ظل يقع لها على مدى سنوات، هو حين كانت تقود رحلات طيران باتجاه السعودية. لقد أكدت أنه في ما بين سنوات 1998 و 2001، كانت تتوجه ثلاث مرات في الشهر إلى السعودية، وكانت سلطات المطار تتجاهلها وتتعامل فقط مع زميلها المساعد في قمرة القيادة. وبعد سنوات قليلة من ذلك، حدث أن كانت الربانة المساعدة لها امرأة مغربية أيضا، مما أجج غضب وحنق السلطات السعودية، التي لم تخجل أن تطلق في وجهيهما هذه العبارة المثيرة: «كنا بالكاد نتحمل وجود امرأة مغربية واحدة واحدة في قمرة القيادة، أما اليوم أمام امراتين فقط في قمرة القيادة فهذا كثير». (بدون تعليق).. لطيفة فدواش، الجيل الجديد الراسخ الخطو بمجد.. اليوم تزايد عدد سيدات الطيران المغربيات، مساعدات طيران وطيارات أيضا. وضمنهم نقف عند قصة لطيفة فدواش الربانة التي قادت إحدى رحلات يوم 8 مارس 2013 إلى باريس ومنها إلى الدارالبيضاء، بطاقم نسائي كامل. هي أيضا ربة بيت وأم لثلاث فتيات وزوجها ربان طائرة هو الآخر. وهي أيضا قادمة من الباكالوريا علوم رياضية بثانوية شوقي بالدارالبيضاء. ولقد ولجت إلى معهد الطيران سنة 1987 وتخرجت منه سنة 1992، تاريخ البداية الجدية للطيران المدني في الطائرات الكبيرة، من طراز بوينغ 727 و 737. وبعد أن راكمت 4 آلاف ساعة طيران حازت صفة ربانة طائرة، لتكون هي الثالثة في المغرب بعد المرحومة السايح وزميلتها بشرى البرنوصي. وهي المهمة التي حازتها ابتداء من سنة 2005. هي اليوم تجوب مطارات العالم ضمن رحلات الخطوط الملكية المغربية، وهي من القلائل جدا في العالم العربي وإفريقيا التي لها تجربة رصينة ومجربة في مجال قيادة الطائرات الضخمة، بعد أن كانت تنام على ظهرها لصق الأرض رفقة شقيقها وهي طفلة وتتأمل الطائرات العابرة في السماء وتتساءل معه كم علوها؟ كم سرعتها؟ كيف هي في الداخل الآن؟، حتى أصبحت هي أيضا جزء من قصة تلك الرحلات الطويلة في السماء بين القارات والدول. وهي حين تلج إلى رادارات العالم يكون صوتها صوت بلد وصوت معنى حضاري أيضا.. معنى عن مكانة للنساء مغربيات أخدت بالجد والمثابرة والإستحقاق. وبذلك فهي عنوان من عناوين الإعتزاز المغربي.