يعيدُ النقاش الدائر اليوم، حول اختيارات لجنة «جائزة البوكر» مصداقية الجوائز الثقافية في العالَم العربي، وضمنها بلادنا. فلا زلنا نتذكّر اليوم ما أثارته جائزة المغرب للكتاب في السنوات الماضية. وهي الجائزة السنوية التي تمنحها وزارة الثقافة. ففي كلّ مرّة، وفي كلّ أجناس الكتابة، تثار مسألة تحيّز لجان القراءة لهذا الكاتب أو ذاك، مرّة بدعوى «كبَر سنّ» الكاتب، أو «تراكمه» الخ، ومرّات بسبب العلاقات والولاءات. وهذه الصورة المؤسفة هي التي تؤثّث الجوائز العربية ككلّ. لكن مع إضافة بسيطة تطرح إشكالا إضافيّا، وهو علاقة «كبار» الكتّاب ب»صغارهم. فهذا عبده وازن، مثلا، يعتبر قرار لجنة تحكيم جائزة البوكر العربية في اختيار أسماء جديدة مفاجئا، وذلك بحجّة أنّ بعضَها مجهول أو شبه مجهول، في اللائحة القصيرة للجائزة، وأنها أطاحتْ ببعض الأسماء التي هي في طليعة المشهد الروائي العربي... وإذا كان يعتبر القرار جريئا لم تعهد الجائزة ما يماثله سابقاً، وبخاصة في بادرته الجماعية التي لم تُسقط اسماً أو اسمين من اللائحة، بل أكثر (إلياس خوري هدى بركات، إبراهيم نصرالله، واسيني الأعرج، ربيع جابر وسواهم) ، فإنه لم يقتنع بالخطوة لكونها لمْ تُرفق ببيان يبرّر الجرأة التي نجمت عنها. ولعلّ الذرائع التي حملها البيان المقتضب للجنة التحكيم غدت، في نظره، هزيلة وخاوية ولا يمكن اعتمادها بصفتها معايير أو مقاييس نقدية يفترضها فعل اختيار رواية وإسقاط أخرى. بل إنّ الذرائع هذه ساهمت في فضح »العدّة« النقدية التي تملكها لجنة التحكيم وفي كشف عجزها عن المقاربة الصحيحة للأعمال الروائية والأدبية. فهل ينطلق وازن هنا من منظور ذاتي ضيّق؟ قد يكون الأمر كذلك، لكنه يثير مسائل موجودة بالفعل في جوائزنا العربية. فمَن يقرأ البيان بحذافيره يدرك أنّ اللجنة سعت إلى اعتماد نوع من الحكم الأخلاقي والاجتماعي والسياسي على الروايات المرشحة للجائزة. هل يكفي مثلاً أن تصب الرواية في »صلب الواقع العربي القائم« لتكون رواية مهمة وطليعية؟ بل هل يجب على الرواية أن تعالج قضايا راهنة، مثل »التطرّف الديني« و»غياب التسامح« و »رفض الآخر« و »إحباط المرأة« و »الفساد«... لتكون رواية حقيقية وراسخة فنياً وجمالياً وهذه الذرائع أو المعايير التي ركّز عليها البيان، بعيدة بالفعل كلّ البعد من مفاهيم الفن الروائي، قديماً وحديثاً. إنها شروط أخلاقية لا علاقة لها بالإبداع، بل هي تساهم في قتل الإبداع وتعريته من حقيقته الجوهرية وعزله في خانة الجاهز والمتوقع. ولعلّ هذا الحكم هو الذي أطاح بالروائي المغربي سوف فاضل في السنة الماضية، حيث حوكمتْ روايته بمعيار الأخلاق. الحقيقة بالفعل هي أنه ليس من واجب الروائي أن يؤدي رسالة المصلح الاجتماعي والمراقب الأخلاقي، وليس من مهمة الرواية أن تعالج المسائل السياسية الشائكة وتبحث لها عن حلول. هذه رؤية سطحية وخارجية إلى الأدب تجاوزها العصر، وحتى التاريخ. وهذا أيضاً خطأ فادح ارتكبته اللجنة، ورئيسها خصوصاً، الذي بدا أثره بيّناً في البيان وفي القرار على السواء، فمن المعروف أنّ جلال أمين باحث في علم الاقتصاد ولا علاقة عميقة تربطه بالرواية والنقد الروائي، ولا ينسى المثقفون المصريون موقفه السلبي من رواية »الخبز الحافي« عندما خاضت الناقدة سامية محرز معركة تدريسها في الجامعة الأميركية في القاهرة. كان أمين في مقدّم الرافضين لها والمطالبين بمنع تدريسها، انطلاقاً من رؤيته الأخلاقية والسياسية إلى الأدب ورسالته. كان من حقّ لجنة التحكيم أن تسقط رواية... ولكن هل ما اختارته من روايات رديفة، قادر على ملء الفراغ الذي تركته هذه الأسماء المكرسة إبداعياً وليس إعلامياً؟ لا يمكن الطعن بالروايات التي اختيرت كلها، ولا بالأسماء الشابة التي سيكون لبعضها حضوره لاحقاً، وثمة رواية هي »يا مريم« للعراقي سنان أنطون تستحق -بحسب رأيي الشخصي- المثول في اللائحة القصيرة عن جدارة، لكن معظم الروايات تفتقر بوضوح إلى الشروط الفنية والتقنية، علاوة على خلوها من جماليات السرد ومتانة البناء ورسم الشخصيات وحبك علاقاتها... ولئن صبّت هذه الروايات في »صلب الواقع العربي الراهن«، معالِجةً قضايا شائكة وملحة، فهي خرجت عن مسار الفن الروائي لتقع إمّا في المباشَرة السردية أو في الفضح المجاني أو في السطحية التي تعمّمها الدراما التلفزيونية الرائجة. لا أعتقد أنّ كان من الممكن إسقاط رواية الياس خوري »سينالكول« وإحلال روايات أخرى تستحيل مقارنتها بها، وإن كان هذا رأياً شخصياً أيضاً، فإنّ الفرادة التي تميّزت بها هذه الرواية، سواء في بنيتها أم في شخصياتها وجمالياتها العالية، تجعلها في طليعة الروايات العربية الجديدة. هذا ليس دفاعاً عن إلياس خوري، وهو أصلا لا يحتاج إلى من يدافع عنه بعد أن عرفت أعماله رواجاً عالمياً، وبعد أن رشحته صحيفتا »لوموند« و »لو فيغارو« الفرنسيتان قبل عامين إلى جائزة نوبل. نعم، لقد أصبح لجائزة البوكر العربية موقعها المهم والمتقدّم بين الجوائز العربية، ومن المحتّم الحفاظ عليها وصونها من أي شوائب. ولم يبق مسموحاً أن تُرتكب في حق هذه الجائزة أخطاء ولو صغيرة، ولا أن تُنْصَب في متنها أو على هامشها »أفخاخ« هي براء منها. ويجب أولاً وأخيراً إبعاد هذه الجائزة عن أي صبغة إقليمية أو تمثيلية أو قومية أو سياسية. إنها جائزة أدبية، وأدبية فقط. ?روائيون ستة من ست دول عربية فازوا في القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) وسيكون واحد منهم صاحب الجائزة التي ستعلن في أبو ظبي في أبريل المقبل: العراقي سنان أنطون (روايته «يا مريم» في منشورات الجمل - بغداد، بيروت)، اللبنانية جنى فواز الحسن (روايتها «أنا، هي والأخريات» عن الدار العربية للعلوم - ناشرون - بيروت)، الكويتي سعود السنعوسي (روايته «ساق البامبو» عن الدار العربية للعلوم - ناشرون - بيروت)، السعودي محمد حسن علوان (روايته «القندس» عن دار الساقي - بيروت)، المصري إبراهيم عيسى (روايته «مولانا» عن مؤسستي بلومزبري وقطر للنشر)، التونسي حسين الواد (روايته «سعادته السيد الوزير» في منشورات دار الجنوب - تونس). والضجة التي أعقبت إعلان القائمة القصيرة دليل اهتمام بجائزة نهضت عبر دوراتها الخمس السابقة بالرواية العربية، مشجعة على كتابتها وداعمة انتشارها العالمي بالترجمة. وحين تستبعد لجنة التحكيم روائيين مكرسين لمصلحة كتّاب يقدمون رواياتهم الثانية قادمين من مجالات الشعر والنقد والبحث الجامعي والصحافة السياسية والترجمة، فهل تؤكد بذلك انفتاح الكتابة الروائية بلا حدود أم أنّ الأمر كله مثار شكوك. ثمّ هناك أخيرا مشكل «ذوْق» لجان القراءة أيضا. فلجنة «البوكر»، مثلا، اتُّهمها البعض بتفضيل الملمح الكلاسيكي للسرد من دون الملمح التجريبي، واتهمها آخر بإقصاء الرواية المغاربية تحديداً لاعتمادها ما يعادل التجريبية الفرنسية. لذلك أتمنّى أنْ يكون هذا الجدال حافزا لكيْ تتجاوز جائزة المغرب للكتاب هفوات العرب وتدافع عن مصداقيتها.