بعدما تطرقنا في مقالات سابقة لمفهوم الإنسان وعالمية حقوقه الكونية في المرجعيتين الغربية والإسلامية، وأبرزنا كون الأسس الفلسفية لهذه الحقوق تعلو على الخصوصيات الثقافية للشعوب والأمم، نعود من خلال هذا المقال لإثارة النقاش من جديد في شأن ما راج ويروج من خطابات تقليدية مرتبطة ببعض القضايا المثيرة للجدل، والتي يتم استغلالها داخليا (على مستوى البلد الواحد عربيا ومغاربيا) من طرف القوى المحافظة لمواجهة القوى الحداثية، وخارجيا (غربيا) للطعن في عالمية حقوق الإنسان في الإسلام. ومن القضايا الأكثر تداولا، التي تتم إثارة كونها لا تحترم مبدأي الحرية والمساواة، نجد حكم «المرتد»، وأحكام تخص «قيمة» المرأة. ونظرا لأهمية مبدأ «الحرية»، كأساس فلسفي لعالمية حقوق الإنسان، سنخصص هذا المقال لمناقشة كل ما ورد بشأنها في الإسلام (المحور الأول: الحرية في الإسلام تهم المجالات كافة)، لنبين للقارئ كيف تم توالي المحاولات بشكل «تعسفي» لربطها بظاهرة «الردة» وحكم «المرتد» للطعن في عالمية أبعادها في الدين الإسلامي (المحور الثاني: حرية «الاعتقاد»، ظاهرة «الردة» وحكم «المرتد»)، على أن نعود في مقال لاحق لقضية المرأة. دوافعنا للتركيز على هاتين القضيتين («الردة» والمرأة) نابعة من اقتناعنا كونهما قضيتان هامتان تؤكدان، من جهة، أن التمادي في إصدار الأحكام والخطابات الدينية بدون فسح المجال لتوسيع الحوار والنقاش والاجتهاد بشأنهما على أساس علمي، يشكل عرقلة حقيقية لمسار الشعوب العربية والمغاربية نحو التحديث الثقافي، ومن جهة أخرى، أن لا حداثة ولا تحديث إلا بالعودة إلى التراث وإعادة قراءته بمنهج جديد أساسه البحث والتأويل والمساءلة والنقد المسلح بسلاح العقلانية. كما نطمح، من خلال تطرقنا لهاتين القضيتين، إلى لفت انتباه القارئ كون الدفع بضرورة تحديث التراث وإعادة قراءته يجد تبريره، كما جاء في كتابات المرحوم محمد عابد الجابري، في صعوبة الاحتكام إلى «الأشباه» و»النظائر»، وأن العديد من معطيات الحضارة الراهنة، المتطورة من كل النواحي معرفيا وتكنولوجبا، لا أشباه ولا نظائر لها في الماضي، الشيء الذي يفرض التعامل مع التراث بطريقة معاصرة، تتجاوز القراءات التراثية للتراث، وتساعد على الانخراط الواعي والنقدي في الفكر العالمي المعاصر من خلال إعادة الاعتبار للتراث من زاوية متطلبات الحداثة (تأصيل المعقول كمكون هوياتي، وتصحيح المنقول بالعقل النقدي). وعلى سبيل المثال لا الحصر، تحدث القرآن عن وسائل تنقل الإنسان في البر والبحر كالأنعام والفلك (الآية: «وإن لكم في الأنعام لعبرة، نسقيكم مما في بطونها، ولكم فيها منافع كثيرة ومنها يأكلون. وعليها وعلى الفلك تحملون» (سورة المؤمنون الآيتان 21-22)، والآية:»...والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس...»)، لكن كان من الصعب في تلك الفترة الحديث عن وسائل النقل الحديثة كالسيارات والحافلات والقطارات والطائرات والمروحيات،...إلخ. وفي هذا الموضوع بالذات يقول الجابري في كتابه «نحن والتراث»: «فالحداثة، في نظرنا، لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه بالمعاصرة، أعني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي». وأضاف: «ونحن نعتقد أنه ما لم نمارس العقلانية في تراثنا وما لم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في التراث فإننا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة «العالمية» كفاعلين وليس كمنفعلين». وقبل الدخول في صلب موضوعنا هذا، ارتأينا منهجيا استحضار بعض المنطلقات التي ركز عليها الجابري كقواعد في تناوله لمثل هذه القضايا. بالنسبة له، الشريعة الإسلامية كليات وجزئيات، مبادئ وتطبيقات، والأصل في الحكم الصادر في الجزئي أن يكون تطبيقا للمبدأ الكلي. فإذا كان هناك اختلاف، فلسبب وحكمة. والأسباب التي تبرر الحكم الجزئي وتبين معقوليته هي، إما «أسباب النزول»، وهي عموما الظروف الخاصة التي اقتضت ذلك الحكم، وإما مقاصد عامة تستوحي الخير العام. ومن أجل فهم معقولية الأحكام الشرعية في الإسلام، يقول الجابري، لا بد من استحضار ثلاثة مفاتيح أساسية: كليات الشريعة، الأحكام الجزئية، المقاصد وأسباب النزول. 1- الحرية في الإسلام تهم المجالات كافة لقد ورد في القرآن الكريم أن الله لم يجبر الإنسان على تحمل «أمانة» خلافة الله في الأرض، واستعمال العقل في اكتشاف نظام الطبيعة، وتحمل المسؤولية في احترام ميثاق الاستخلاف، بل عرض عليه الأمر وترك له حق الاختيار واتخاذ القرار: « إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان...» (سورة الأحزاب الآية 72). لقد قدم الله سبحانه وتعالى هذا العرض للإنسان ما قبل التاريخ (قبل نزول آدم إلى الأرض) بعدما عبرت السماوات والأرض والجبال عن عدم قدرتهم على تحمل «الأمانة». وإن دل هذا على شيء فإنما يدل أن الحرية مبدأ قار عند الخالق، وجزء جوهري من كينونة المخلوق منذ الأزل. واحتراما لنفس المبدأ «الرباني»، وسعيا لترسيخه في حياة الإنسان في الدنيا، وردت في القرآن عدة آيات مناهضة للاسترقاق والاستعباد، بل أكثر من ذلك، اعتبر الله تحرير العبيد واجبات تعبدية ومطلبا اجتماعيا ملحا. وتماشيا مع روح القرآن، جاءت قولة عمر بن الخطاب الشهيرة لمناهضة ظاهرة الرق: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا». كما أثبت التاريخ أنه بالرغم من وضوح النص القرآني في مسألة الحرية والدعوة إلى تصفية الاستعباد، فإن ذلك لم يتوج بالحسم في تحريم هذه الظاهرة إلا في العصر الحديث. وهنا يقول الجابري: «فقضايا الحرية وغيرها تختلف، من بعض الوجوه على الأقل، من عصر إلى آخر، باختلاف درجة التطور واختلاف المشاغل والتطلعات». اعتبارا لما سبق يتضح أن الله عز وجل، بعظمته وقوته التي لا توصف ورحمته التي وسعت كل شيء، تعامل مع بني آدم «ديمقراطيا» ولم يجبره على تحمل «الأمانة»، وبذلك، فكل ما جاء في القرآن الكريم من أوامر ربانية لنبيه (ص) بشأن الحرية و»الديمقراطية» لم يكن بالصدفة، بل كانت أوامر ليكون قدوة للبشرية كمبعوث «ديمقراطي» وصادق ولين. وبالفعل، لم يكن قاسيا ولا مستبدا قط، ولم يكن فظا غليظ القلب منفرا بالرغم من تواصله المباشر مع السماء عبر الوحي، بل كان محببا وجذابا. 1- حرية الاعتقاد وظاهرة «الردة» وحكم «المرتد» استكمالا لما جاء في المحور الأول، والذي أكدنا من خلاله أن حرية الإنسان تعتبر مبدأ ربانيا ابتدأ تطبيقه منذ الأزل (مبدأ ارتبط ب»الطبيعة الديمقراطية للذات الإلهية» التي لا يمكن وصفها)، نجد أن القرآن الكريم كان كذلك حاسما في مسألة حرية الاعتقاد وفي حكم «المرتد» حيث لم يربط القرآن هذا الحكم بأي عقوبة يمارسها الإنسان على الإنسان: * «وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (سورة الكهف الآية 29). * «فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر» (سورة الغاشية الآيتان 21-22). * «فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ» (سورة الشورى الآية 45). * «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» (سورة يونس الآية 99). * «إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا. إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا» (سورة الإنسان الآيتان 2-3). * «ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم...» سورة البقرة الآية 215). * «إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة» (سورة آل عمرن الآية 76). * «كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم بالبينات، والله لا يهدي القوم الظالمين. أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (سورة آل عمران الآيتان 85-86) * «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا» (سورة النساء الآية 114). * «ومن كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم» (سورة النحل الآية 106). تأملا في هذه الآيات، يتضح أن الله قد حسم مع مسألة حرية «الاعتقاد»، وبذلك يكون الأمر ب»قتل المرتد» في عهد خلافة أبي بكر مجرد قضية جزئية أملتها ظروف خاصة عاشتها الدولة ما بعد وفاة الرسول (ص)، ظروف حتمت نوع من الصرامة السياسية للتحكم في الوضع وإرساء ركائز الحكم. أما على المستوى الديني، فالله لم يأمر بقتل «المرتد»، بل ترك له الباب مفتوحا للتوبة. ففي كل الآيات السالفة الذكر تأرجح حكم «المرتد» ما بين اللعنة والغضب وجهنم. أما ما صدر من أحكام ب»القتل» في عهد خلافة أبي بكر فقد كان قرارا سياسيا. وهنا قال الجابري: «...وهكذا فالوضع القانوني «للمرتد» لا يتحدد في الإسلام بمرجعية «الحرية»، حرية الاعتقاد، بل يتحدد بمرجعية ما نسميه اليوم ب»الخيانة للوطن» أو إشهار الحرب على المجتمع والدولة...». خاتمة يتضح مما سبق أن «المرتد»، عند الخليفة أبي بكر، هو ذلك المواطن الخارج عن الأمة، والخائن لوطنه، والمتواطئ مع العدو في عهده (المشركون، الروم والفرس). ف»المرتد» بهذا المعنى له دلالة سياسية، وهو من خرج عن طوع الدولة «محاربا» أو متآمرا أو جاسوسا للعدو،...إلخ. وبذلك، فالحكم عليه بالقتل هو حكم وضعي وليس ديني، حكم كان دافعه الحفاظ على قوة الدولة الإسلامية الحديثة العهد. ففي تلك الفترة كان الإسلام هو أساس هوية الدولة والمجتمع، وأساس انتماء الفرد إلى الوطن. واليوم، نتيجة لتطور الحياة البشرية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا وتكنولوجيا، والتي أبرزت حاجة الشعوب إلى اقتسام قيم التسامح والإيمان بالاختلاف واحترام الخصوصيات، أصبح الانتماء إلى الأوطان يخضع لعدة اعتبارات. كما أصبحنا نلمس أن نزعة الانتماء إلى الأوطان أصبحت تأخذ عدة أشكال وتفرعت عنها انتماءات ترابية (الانتماء إلى الوطن، إلى الجهة، إلى الإقليم، إلى الجماعة المحلية الحضرية والقروية، إلى الدوار أو الحي). كما نلمس، موازاة مع ما تعرفه المجتمعات من تطور ثقافي مستمر، أن هذه النزعة أصبحت جد مرتبطة بمفهوم «الترابية»، وتحركها المصلحة العامة والقواسم المشتركة للأفراد والجماعات، والمنافسة مع ساكنة باقي الوحدات الترابية في مجال التنمية. كما أصبحت هواجس الدفاع على الأوطان لا تحركها نزعات الانتماء الديني (عدد من الحروب نشبت بين دول لها نفس الديانة)، بقدر ما تحركها الانتماءات الترابية والمصالح الاقتصادية والتاريخ المشترك والقيم الإنسانية والثقافية المشتركة للمجتمعات. أكثر من ذلك، موازاة مع تأثيرات العولمة، نجد أن هذه النزعات «الإنتمائية» المثيرة للحماس الجماعي في تطور مستمر، وهي اليوم في طريقها لتتجاوز الحدود الترابية الوطنية نتيجة تكوين المجموعات الإقليمية والجهوية بين الدول الأعضاء (الانتماء إلى المجتمع الأوربي كنموذج).