في هذا الحوار المفتوح مع الباحث والمؤرّخ وعميد كليّة الآداب والعلوم الإنسانية ابن امسيك، عبد المجيد قدوري، يقدّم عددا من آرائه ومواقفه بشأن جملة من القضايا التي تهمّ تاريخ المغرب وعوائق الحداثة التحديث والفكر التقليدي وتهميش الثقافة ومشاكل الحركات الاحتجاجيّة في العالم العربي. يشير قدوري إلى أن الحداثة استمرار وثورة ودينامكية وتختلف من رقعة ثقافية إلى أخرى ومن زمن إلى آخر. كما يشير إلى مشكلة التقاليد والعادات، ليخلص إلى دور النخبة السياسية في المغرب، والتباس الخطابيْن السياسي والديني، وانعدام الوضوح لدى الإسلاميين. الأستاذ عبد المجيد قدوري، أنتَ من الباحثين القلائل الذين اهتموا، كالأستاذ محمد القبلي، بتاريخ المغرب في العصر الوسيط. هل الأمر مجرّد اهتمام أكاديمي، أمْ أنه ينخرط في إطار فهم الماضي من أجل فهم الحاضر وتحليل آلياته؟ صحيح، إنّ اهتمامي الأكاديمي كان يتركّز على علاقات المغرب بأوربا من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر، وخصوصا بدءا من النكسة في الأندلس، وبالتالي فإن النهاية هي محاولة التحديث لمحمد بن عبد الله. لكنْ تناولي لهذا الموضوع كان بهدف امتداداته في الرّاهن. لكونه محاولة لأن الأطروحة التي كانت تسود هي محاولة تفسير كلّ ما وقع للمغرب وربطه بالحركة الاستعمارية. في حين أنّ الفكرة التي حاولت الدفاع عنها هي أن الاستعمار أوْ الحماية ما هي إلاّ نتيجة تطوّر آت من بعيد. وبالتالي كنت دائما أردّد العبارة التي تقول «داء العطب قديم» للسلطان مولاي حفيظ. كانت الأسئلة التي توجه عملي هي: ما هي الأسباب التي جعلتنا نصل إلى ما نحن عليه؟ وبالتالي،فقد رجعت إلى هذه الفترة لأبرز المشاكل العميقة والحقيقية، بعيدا عن التاريخ التمجيدي. وأعتقد أن نكسة الأندلس، أو ربما حتى من قبل كان هذا التطور التاريخي للمغرب، الذي لم يتغيّر لأنه كانت له رغبة في مسايرة أوربا في التحوّلات التي عرفتها. لكن التحوّلات في أوربا كانت لها أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية متداخلة، في حين أن المحاولات التحديثية أو الإصلاحية التي تمّت في المغرب كانت دائما تأتي من الفروع، ولم تكن مترسخة ومتعمقة في الجذور الاجتماعية. لم يكن المجتمع مؤهلا من داخله لذلك. لأنّ تأهيل المجتمع يكون عن طريق الاقتصاد، وعن طريق الثقافة، وعن الطّرق الذهنية. وهذه أمور تمّت في أوربا ولكنها لم تتمّ في المغرب. ومن ثمّ فالقارئ لكتاب «المغرب وأوربا سيلاحظ هذه الإفرازات. وعن طريق العوائق المفسرة لها، رأيتها في العقل المغربي، في الدبلوماسيةالمغرب، في الاقتصاد المغربي، وكذلك رأيتها أساسا في النظام التعليمي بالمغرب الذي بقي نظاما تقليديا مبنيا على المحافظة، على عكس النظام الأوربي التي حاولت أوربا أن تجعل نظامها التعليمي بشكل عملي لا تعليما محافظا. وبالتالي فإنّ قراءة هذا الكتاب أو قراءة الأطروحة سيجد نفسه بأنه لازالت المشاكل تعترض المغرب حتى اليوم. هل معنى ذلك أننا من الضروريّ أنْ نمرّ من نفس التجربة لكيْ يتحقّق التقدم والتطور والتغيير؟ المرور من نفس التجربة ممكن، لكن ليست مسألة حتمية. في الحقيقة، وكما نعلم فإن هذا التطور يخضع لعمل داخلي طويل، وكما فسرها البعض فإنّ إيديولوجية التغيير نسبية. ما هو حديث اليوم يصبح قديما غدا. فالحداثة هي سيرورة، وبالتالي فإنّ الحداثة في أوربا كانت مبنية على عمل شمولي ومتكامل، وبدأ منذ القرن الثالث عشر، بحيث بدأ بالاقتصاد من هوامشه الداخلية البورجوازية التي كانت في الضواحي حتى أصبحت في المركز. ولما أصبحت تسيطر على الاقتصاد، بدأت تفكر في السيطرة على السياسة. أما بالنسبة للمغرب، فأعتقد بالنسبة للحالة لا أقول بأنها حتمية، ولكن لا يمكن أن تمر من المرحل التي مرّت منها أوربا، لأن هذا الذي نعيشه اليوم في المغرب، وفي البلدان العربية التي تعيش وضعية المغرب، يستدعي فهم الواقع الذي نعيشه، وهو واقع محافظ مرتبط أساسا بالذهنية. والحداثة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا حاولنا العمل في عمق النظام المجتمعي لتغيير هذه الذهنية. وبالتالي محاولة تجاوز ما هو تقليدي، لأنّ العائق الذي نراه مرتبط بما هو ماضويّ، ويقاوم كل ما هو جديد ومبدع الذي يرى فيه عكس ما يريد. لهذا ومن أجل التجاوز، لابد من العمل في عمق، والعمل في عمق لابدّ أن يرتبط في المقام الأوّل بالنظام التعليمي، والنظام التعليمي يجب أن يهيّء هذا المواطن ذهنيا وتكوينيّا حتي يصبح قابلا ومستعدّا لقبول التغيير والإيمان به. لكن التعليم أو العمل في النظام التعليمي يجب أنْ يكون تعليما عملاي بمعنى أن هذا التلميذ أو الطالب يتعيّن منذ البداية أنْ نعدّ له برامج تأهيلية، ويجب أن تكون داخلية وعملية وتسير في هذا الاتجاه حتى يكون إنسانا متكاملا. بمعن أن يهيئ الذهنية القابلة للتغيير، والقابلة للتعديل، والمسايرة لما نعيشه ولقعيا. كما أنه لا يمكن الانعزال عن العالم الذي يسير بخطي سريعة. يجب أن نجد السرعة التي تلائمنا والتي تلائم المغرب، ولكن هذا يجب أن نكوّنه في الذهنية، وأن نكوّنه مهنيّا حتى يكون قادرا على الاستجابة والمشاركة، كما يجب إعطاء قيمة أساسية للفن والإبداع، لأن المجتمعات التي لا تعطي أهمية للفنّ والإبداع محكوم عليها بالجمود لأن الفنّ بصف عامة هو المخيّلة الأساسية التي تفكر في المستقبل وتفتح الآفاق التي نراها عند الإنسان. إنّ الاهتمام بالتكوين وبالنظام التعليمي، والاهتمام بالقدرات الشخصية المغربية، لا يمكن تحقّقه إلا إذا كان المجتمع بالطبع مكوَّنا، وهذا يتطلب منا اختيارات، وهذه الاختيارت يجب أن تكون فيما جرأة، بمعنى أننا نسعى إلى التغيير في العمق والتغيير في النظام التعليمي في المقام الأوّل. هل معنى ذلك، كما تقول، أنك تعتبر حركة التاريخ كعامل حاسم وضروريّ في تغيير العقليات؟ التاريخ ضروريّ. وأظن أن المجتمعات التي تهتم أو تبدأ في الوعي بالتاريخ، تبدأ بالوعي في الأسباب الحقيقية. بمعنى أنها مجتمعات تعي التأخر والتخلّف، معنى هذا يجب أن تميّز التاريخ كحركة، كدينامية. المؤرخ يؤمن بالتطور والتغيير، ولا يمكن أن يقول إنّ مغرب بداية القرن التاسع عشر هو مغرب بداية القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين. لأنّ مغرب اليوم يختلف تماما عن مغرب القرنيْن الماضييْن، وبالتالي فالعادات والتقاليد هي العادات التي ترتبط بالذاكرة، هي التكرار لما هو موروث. وهذه الموروث إذا لم نكن على وعي به، وبأهمية تغيير هذه العادات لا يمكن تجاوز هذه الأشياء. وكما قلت، فإنّه يجب أنْ نهيئ ذهنية الإنسان بالمغرب. يمكن أنْ نعطي مثالا بالأعراس المغربية، فالأغاني التي تتردد في الأعراس هي نفس الأغاني التي كانت تردد بالأعراس منذ القرن السادس عشر، في حين نجد مجتمعات أخرى، كالمجتمع الإسباني على سبيل المثال، أخذ الفلامينكو التقليدي، لكنه غيّر إيقاعاته وطرق تأديته. وحتى في المدارس الإسبانية حاولوا تطوير هذا النوع من الفن الإسباني ليلائم مع العقلية الجديدة. بهذه الطريقة تتغيّر العادات والتقاليد. وأظن أنّ الاهتمام بتكوين الإنسان المغربي لتجاوز العادات الموروثة ،إذا إن لمْ نهيّء ذهنية الإنسان المغربي المستقبلي، إذا لم نجعله واعيا بالتغيير، فإن العادات هي التي ستظلّ مسيطرة عليه، وسيبقى خامدا في الجمود? تعتبر أنه ما لم تتجدد اللغة السياسية، ويتحرر الفاعلون، ويتأسس إجماع عصري جديد، فإن الإيقاع البطيء للقرار، واحتقان الحياة السياسية والاجتماعية سيؤدي إلى مزيد من إضاعة الفرص، وتشجيع عوامل التخلف. فهل هذه شروط حتمية في نظرك؟ هذا يجرنا الى علاقة النخب داخل المجتمعات تحدثنا سابقا عن أوربا. فالنّخب كانت على وعي، وكانت لها رغبة في التغيير. إنّ عمالقة النهضة أو عمالقة القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر كانت لهم رؤية وإرادة في التغيير، وكانتْ لهم مقترحات جرّيئة وآراء هي التي أحدثتْ تغييرا في العقول وفي البنيات الاجتماعية. وبالتالي كان لهم دور في تطهير المجتمع التي ينتمون إليه. فأعتقد أنّ المجتع إذا لم تكن فيه مثل هذه النخب التي تعي مسؤوليتها ولها الإرادة الكبيرة في التغيير? ما المقصود هذا القول؟ أعني بالفاعلين المثقف والأستاذ ورجل الاقتصاد، لأن المجتمع يسير على عجلات المثقف والأستاذ والاقصادي. هؤلاء لهم وعي. لأنهم هم المسؤولون عن هذه الرؤية الجريئة والمتبصّرة. أظن أن هؤلاء الفاعلين يجب أن يلعبوا دورا كبيرا، لكن نلاحظ في المجتمع المغربي غياب هذا الشرط، وهذا الشرط غير موجود. بمعنى أنّ هناك انفصاما فيما يخصّ الوشائج الضرورية بين النخبة والمجتمع، ولهذا الانفصام أسبابه الذاتية والموضوعية. لا نجدا نقاشا فيه دينامية داخلية. هناك مشكلة الأمية التي تعرف ارتفاعا كبيرا في نسبتها، وهناك أيضا جانب المقاومة من طرف الفاعلين في المجتمع كالأحزاب السياسية مثلا التي موكول إليْها تأطير المجتمع. أظن أن الأمية تشكّل عائقا كبيرا. هناك محاولات لتجاوز هذا العائق، لكن هذه المحاولات يجب أن تنظَّم، وأنْ تكون مشروطة بهدف تغييري، بمعنى ترمي إلى الوصول إلى ذهنية الإنسان العادي. يجب أنْ نبتكر الحلول التي تلائم المجتمع المغربي، ويجب أن نخاطبه عن طريق العمل الميداني والتسرّبات السياسية، والتركيز على أدوار الأحزاب السياسية لتتمكن من تأطير هذه الفئات، وخصوصا تأطير الشباب الذي يشكل القاعدة الأساسية للمستقبل. بمعنى أنه إذا لم يكن هناك عمل ميدانيّ للفاعل السياسي، لا يمكن التقدّم. نحن نتحدّث عن الأمية في المجتمع، لكننا نلاحظ أنه تطال حتى الفاعلين السياسيين. بمعنى أنّ هذه الأمية موجودة حتى بين الفاعيلن السياسيين، الذين يتحكمون في المقاطعات وفي الجماعات والبلديات. هؤلاء أهميتهم كبيرة وخطيرة لأنّ عملهم مرتبط بمصير ومستقبل البلاد، وهذا أمر لابدّ من الانتباه إليْه? يعتبر الأستاذ عبد الله العروي أن المجال الديني ينبغي أن يبقى بين يدي الملك لأن ذلك في مصلحة البلاد، ما الدافع في نظرك إلى هذا القول؟ أظن أن عبد الله العروي عندما طرح هذه المسألة كان ينطلق من الواقع المعيش، ومن الوضعية التي يعيشها العالم العربي. العروي ينطلق من تاريخ المغرب الذي يعرفه جيّدا، وبالتالي فإنه يعتبر أنّ المغاربة كلّهم مسلمون، ولا أحد يحتكر الإسلام والحديث باسمه. وحتى لا يصبح الإسلام يستعمل أداة للسياسة والسياسييّن، فهو يعتقد أن الضمانة لاستمرارية الدولة يجب أنْ تنطلق من الشروط المعيشة حاليا في المغرب، وهي شروط الإيمان بدور الدولة ودور المَلَكية أساسا التي تدبّر الشان الديني ولها الإمارة. وذلك بعيدا عن الصراعات السياسية الموجودة في المغرب. ففي هذه الظروف، وفي هذا السياق، ووفق هذا المنظور يجب أن فهم هذه المقولة التي قالها عبد الله العروي? في السياق ذاته، سياق الحديث عن الآراء الجريئة لعبد الله العروي، هناك من يعتبر أنها آراء تنطوي أحيانا على «نزعته التشاؤمية»، تمتدّ إلى حدّ الشكّ في إمكانية إقامة ديمقراطية في بلادنا؟ ما هي مسوّغات هذا النقاش أو النقد في نظركَ؟ سبق لي أنْ ناقشتُ مرارا مع العروي هذه النقد الموجّه إليه عن نزعته التشاؤمية، وكان يجيبني بالقوْل إن من يتهمني هذا الاتهام هم أناس ليس لهم تكوين عميق في التاريخ المغربي، والتاريخ بصفة عامة. يقول إنه ينطلق من الواقع الذي يعيش فيه، ومن التطور الذي عرفه التاريخ المغربي، وهو الذي سمح له بأنْ يعطي هذه التحاليل. ولا أعتقد بأنها نظرة تشاؤمية، بقدر ما هي نظرة تاريخية واقعية? ألا يمكن القول بأن الالتباس الكبير الذي يعيشه المغرب هو الالتباس ما بين الخطاب الديني والخطاب السياسي؟ وإذا هذا صحيحا، فما السبيل للخروج منه؟ نعم هناك غموض، وهو غموض ناتج عن انعدام النقاش الصريح بالمغرب، وكذلك ناتج عن انعدام التجربة في الحوار والجدال والمناقشة وعن الخوف من هذا كلّه. أعتقد أنه يجب فتح نقاش في هذه النقطة بالذات، وبالتالي أعتقد أن الدارس لتاريخ المغرب، وللواقع والمجتمع المغربي لا يمكنه أن يقول إن المغرب ليس بلدا مسلما، لأن الإسلام متجذّر في مجتمعنا ويشكّل قاعدة أساسية داخل المجتمع المغربي. هذا شيء مفروغ منه لأنه لا يوجد من لا يعتقد ولا يؤمن، ولكن القاعدة العامة هي لأن المشكل مطروح ولا يناقشه الفاعلون بصرتحة وجرأة. لأن هناك خوفا من فتح نقاش صريح ومفتوح لتجاوز هذه الضبابية الموجودة، وربما أحيانا تتسبب في حدوث شروخ كبيرة لا نعي تبعاتها وتخلق مزيدا من الالتباس والغموض والخلْط. وهذه الضبابية مبنية على الانطباعات الذاتية أكثر مما هي مبنية على التحليل. بمعنى أن شخصا معينا يقوم بإعطاء تصريح دون أن يكونَ له تكوين في الميدان الذي يخوض فيه. يجب تشجيع النقاش وفتح جميع الملفات للنقاش حتى لا تبْقى طابوهات، وخصوصا من طرف النّخب المثقفة، إذا أردنا أنْ نبني المستقبل على أسس متينة. ما يعرفه العالم العربي من حركات احتجاجية، يبرز لحدّ الآن حقيقة أن المجتمعات العربية كلها، ومنها المغرب، مؤطرة بثقافة تقليدية راسخة، تتجلى تمظهراتها في هيْمنة الخطاب الديني في صيغته الشعبوية. هل تتفق مع هذا الحكم؟ أظن أن ما سمّي ب «الربيع العربي» هو نسخة مأخوذة عن تاريخ أوربا، وخصوصا من الثورات التي قامت في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر وصولا إلى كومونة باريس. هذه الاحتجاجات والانتفاضات التي حدثت هي نتيجة الدمار والتدني الذي يعرفه العالم العربي، والذي يتجلّى في انعدام الديمقراطية والاستبداد والرشاوى والتهميش والفساد داخل الأجهزة التي تسيّر. وبالتالي الشعور عند عامّة الناس في المجتمعات العربية. هناك إحساس بالعيْش في وضعية غير صحيحة. من جهة ثانية، فقد كانت الحركات الدينية، وبالخصوص الحركات الإسلامية في مصر وتونس بالخصوص مقموعة ومقهورة، لكنها كانت تشتغل في العمق، كانت منظّمة في جماعات وخلايا تعمل. كانت لها اتصالات مع القواعد الاجتماعية، وكانت هذه القواعد ترى فيها الخلاص والأمل من الخروج من الأوضاع المتردّية. لكن هذا الفوران أعطى انتفاضات غيْر مؤطّرة. لذلك فإنّ السؤال المطروح هو: هل غيّرتْ هذه الانتفاضات المسار المجتمعيّ السابق؟ هل غيّرت الواقع، أمْ أنّ الواقع لا زال ممتدّا كما هو. هذه الحركات انفجارات كانت ترى خلاصها في الحركات الإسلامية، التي كانت متواجدة وتؤطر وتشتغل. فضلا عن سهولة خطابها، الذي هو خطاب يمسّ الواقع المعيش واليومي، لكن لا يمكن القول بأنها كانت كلّها دينية، بل حتى الفئات الأخرى التي كانت تشعر بالضيْم انخرطت في هذه الحركات. ما نراه اليوم هو عبارة عن خليط وعدم وضوح. أقول إنها حركات فشلت في المسار الذي اختطّته، وهو فشل ناتج عن الخلط وعن الوضوح فيما نريد، في الوعي النظري فيما نريد، لذلك نراها تتخبّط في خطاها. هذه الحركات التي تحدث اليوم في العالم العربي تفتقد ربما إلى إيديولوجيا واحدة وموحدة، ويغلب عليها الطابع المطلبي، مطالب جماهير تريد الأشياء الملموسة، في حين يتم تكييف هذه المطالب من أجل إعطائها البعد الديموقراطي. بمعنى آخر، فإنّ النخب السياسية تعمل على تأطير رسمي وتكييف هذه الاحتجاجات. ما كان ينقصها هو التأطير، وبخاصة التأطير الفكري والإيديولوجي الواضح. الاحتجاجات في حدّ ذاتها كحركة مجتمعية، نجحت مائة في المائة، في مصر وتونس وليبيا بالخصوص، لكن بعد الاحتجاجات وقلب الأنظمة، تحتاج إلى وضوح الرؤية في التخطيط والتسيير، وبالتالي حتى الحركات الإسلامية في مصر وفي تونس الأكثر وضوحا، لا تجرؤ على توضيح مسارها وأفقها الاستراتيجي. لذلك تلعب دور الغموض والإشارات هنا وهناك لكي تحافظ على تواجدها. ربّما هذا يصدق حتى على الجيل الجديد، وهو جيل حيوي، استفاد من التقنية، يناضل من أجل حقه في الحياة، بعيدا عن أية مدونة إيديولوجية ورابطة قومية وعن أية منظومة عقدية. جيل عار إلا من بيولوجيته وبدون أشباح أو يوطوبيا (لا صورة واضحة لديه لمجتمع الغد) وبدون بيروقراطية ثورية. نفس الشيء، لأنّ الثورة الإلكترونية لعبت دورا وأعطت فرصة للتعبير عما يشعر به الشاب، لكن مشكلتها أنها انفرادية وغير منظمة وغير مؤطرة. كل واحد يمكن أن يخلق موقعا ومدوّنة بدون حاجة إلى الغير. يمكنها أن تخلق ضجّة بدون أفق. تبقى داخل المكاتب وأمام الشاشة، في حين أنّ التغيير له بعد عمليّ. باعتبار أحد الفاعلين في الحقل الثقافي المغربي داخل الجامعة، وفي التأليف، كيْف يبدو لك الواقع الثقافي اليوم؟ أعتقد أن هناك تهميشا للثقافة في المغرب. وإذا كانت الثقافة في بلدان أخرى تعتبر كرافعة للبلاد، ففي المغرب نرى الثقافة كشيء ثانويّ لا أهمّية لها. وبالتالي يشعر المثقف بهذا الغبْن الذي يعيش فيه. يشعر به حين يذهب كزائر يلاحظ كيف تولي المجتمعات الغربية أهمية وتقديرا للمثقّف، لكن عندما يعود إلى هنا يجد العيش. هناك تراجع لأنّ هناك، من جهة، التهافُت، وبسهولة يرتقي المرء إلى وضعية، ولكن العمق غير موجود. ومن جهة أخرى هناك تجاهل وعدم اهتمام بجيل الستينيات الذي كانت أفكاره فاعلة وواعدة. أفكّر هنا في اللعبي، الخطيبي، العروي، شبعة وغيرهم. كان لهم حضور، وأفكارهم غير معترف بها. ما هو مهيمن اليوم هو الفكر التقليدي والخرافي، الفكر الذي يحاصر وليست له رؤية للمستقبل. إذا لم تُعط للثقافة المغربية الدور الذي تستحقّ من طرف الجهات المسؤولة، وإذا لم تدعم العمل الجيّد، وتوفّر الظروف الملائمة للعمل، فإننا لن نتقدّم. نلاحظ انكماشا للعمل الثقافي حتى في المنابر الإعلامية بحث أن عددا من الجرائد لا تتوفّر على ملاحق ثقافية. ألا زال للجامعة المغربية دور في إفراز شرائح تتطور في اتجاه الخلق والإبداع والبحث الرصين، أمام التراجع الملاحظ؟ الجامعة اليوم هي نتيجة تسلسل سياسات تعليمية. الجامعة في السبعينيات والثمانينيات مرتبة بمكانة الأستاذ الجامعي والإنسان الجامعي. هذه المكانة تراجعت وتمّ التركيز على الشغل وربط الجامعة بالشغل، مع تزايد القول بأن الجامعة لا تكوّن إلا البطالة. كل هذا كان سببا في تقليص دور الجامعة اليوم. وحتى الإصلاح الجامعي الجديد لا يسمح بإعداد أطروحات جامعية في المستوى. وحتى الأجيال السابقة كان له حلم في الجامعة ومثال. اليوم بات مفهوم «الخبير» يعطي خبرة وينتظر تعويضا ولا يهتم بالبحث. لا بدّ من توفير ميزانية ومختبرات تشجّع البحث العلمي، فضْلا عن خلق مجموعات ومحاور للعمل الجماعي، وهذا ما يكوّن تيارات فكرية. فعبد الله العروي معزول، والقبْلي معزول، وكيليطو معزول، ومفتاح معزول، بمعنى أننا لا نهتمّ بالخلف، وأتمنى مستقبلا أنْ نهتمّ بها.