تسجل الرواية الأخيرة للطاهر بن جلون نفسها ضمن أعمال أخرى تميز الدخول الأدبي لفرنسا خريف 2012 وتأتي لتطرق موضوعا قديما وجديدا في آن بالنظر إلى التيمة المتناولة وهي علاقة المرأة بالرجل من خلال قصة حب فزواج بين فنان تشكيلي مقيم بباريس/ سليل أسرة فاسية متجذرة وفتاة /بنت إحدى العمال المهاجرين في الجنوب الفرنسي ( كليرمون فيران تحديدا) : تبدأ العلاقة وتتدرج نحو الترسيم رغم معارضة أسرة الفنان الاقتران بعائلة بدوية وفقيرة ومع إصرار الزوجين اللذين لم يسمعا إلا نداء القلب لتبدأ رحلة الألف ميل المؤثثة في البداية بتقاسم اهتمامات الزوج الفنية والرحلات إلى المعارض الدولية والانتشاء بالنجاحات المتواترة وبلذة الشهرة والكسب المريح . الفنان وزوجته ?موازاة مع ذلك- يقضمان لذات الحياة بملء أسنانهما ولا يلتفتان إلى ما يدور حولهما إلا بقدوم الطفل الأول حيث يتغير مزاج الزوجة وتكثر الخصومات ويختفي الحب ليترك مكانه للصراعات ( غيرة، محاسبة، اتهامات متبادلة، شكوك، معاكسات، غياب التواصل، ....) والتي أفرزت بسبب جلطة قلبية إعاقة شلت الفنان وحركاته وحدت من معارفه وأصدقائه لدرجة أنها أجبرته على الاستعانة بخدمات معاونين يهتمون بصحته (إطعام، تنظيف، مساعدة على الحركة، تجوال، ...) في غياب زوجته التي آثرت الانزواء في ركن من البيت وعدم الاقتراب من الزوج الذي باتت نجاحاته وإنجازاته مجرد ذكرى ....هنا يجرنا الراوي إلى الاستماع إلى «روايتين» أولاهما من سرد الزوج وهي التي تحتل الحيز الأوفر من الرواية ( من حيث الكم والكيف) وثانيهما من رد الزوجة(أمينة) والتي تقدم سردا لرؤيتها والتي تراها لن تقنع القارئ في شيء ما دام الكل اقتنع برؤية الفنان ....يمكن اعتبار اللجوء إلى «شهادتين» متباينتين إحدى أهم ركائز المتن الروائي ل»السعادة الزوجية» لترك النطق بالحكم الفيصل للقارئ . القارئ وحده قمين بالتقدير وإمكانية إصدار الحكم باعتناق تلك الرواية أو تلك .... رواية الرسام/الفنان : يشتكي الزوج من حالات الهيستيريا التي تنتاب زوجته مرارا وتكرارا بشكل تحول عش الزوجية إلى جحيم . فلا هي تطيق الزوج ولا تطيق الأبناء . لم تعد تنظر إليه باعتباره «وليا لنعمتها» ومنقذها من فقر فتاك وتيه لا حدود له بل باعتباره «بقرة حلوبا» تفي بكل متطلباتها ومتطلبات الأبناء والعائلة القريبة والبعيدة والمحتاجين . إنها الحالة التي حولت الزوجة من مصدر للمتعة والانتشاء إلى زوجة/كابوس يوثر فيه الفنان قضاء لياليه الكثير ة بمرسمه بدل الالتحاق بالبيت الرهيب الذي تحوله الزوجة بشكاواها وأناتها إلى فضاء منبوذ ....الأمر الذي جعله يستسيغ الارتكان إلى خليلات متعددات وعلاقات متجددة مع عاشقات/معشوقات يتقن إلى الارتماء في أحضانه مقابل أن ينعمن بلحظة متعة تتحول مع الزمن إلى قناعة العثور على «فارس الأحلام» وما يرافق ذلك من «أوهام» ....وضع مريح ما دام يساعده على الإنتاج وضمان استمرارية نبوغ نجمه : يورد الفنان أحداثا تجعل القارئ «يتعاطف» مع قضيته وروايته ( تسريح مدير أعماله ، مضايقة شرسة لممرضته ومدلكته «إيمان» ، انتفاضة زوجته أمام ضيوفه وجسامة الإهانة التي تلحقها به ، انفرادها بقرارات مصيرية دونما استشارة تذكر معه، التجسس على أموره الخاصة وأسراره التي يعتبرها «حديقته السرية» ...) . وضع أعطى في نهاية المطاف رجلا مشلولا لا حول له ولا قوة إلا خيط رفيع من الأمل في استعادة حركته والعودة إلى نشاطه ( إيمانه بجدوى استمرار الممرضة أمينة في خدماته) .... رواية الزوجة : عكس اكتشافها المتواتر لأسرار زوجها تنامي حقد دفين في تدميره ( العوازل الطبية، النص الذي كتبه وكان عبارة عن بوح صريح رسم بورتريها موضوعيا للزوجة/المشكل ، ارتكانه إلى «صورة مجيدة وممجدة عن الأسرة الفاسية» ذات الفضل في مساره، فشله الذريع في الحياة الجنسية، علاقته بالمال وحبه الشديد للتحكم في صنابير الدفق المالي ، وفاؤه «غير المبرر» لصداقاته القديمة والجديدة) ...عكس كل هذا تجليات حقيقية وكافية لزعزعة عقيدة ترسخت على طول الصفحات الأولى من الرواية والتي يجب أن تدفع بالقارئ إلى إعادة طرح السؤال والتريث قبل إصدار الحكم والقول الفصل ...إنه سر الرواية، إنها الأبواب المشرعة حول الشك، حول الزعم الوثوقي ، حول الرغبات الملحوظة بشكل عام والتي تروم التسرع في إصدار الأحكام وقطع الشك باليقين في معادلة أطرافها غاية في التعقيد لأنها تتغيى إعمال العقل قبل العاطفة وتتغيى نبذ الكليشيهات الجاهزة قبل الفهم الدقيق لمجريات الأمور وتستهدف الموضوعية بكل اختصار ..... هل نعود ونحن نكمل قراءة الرواية الأخيرة لصاحب جائزة كونكورسنة 1987 لطرح السؤال الأبدي : من ينتصر الرجل أم المرأة؟ وهل أصبح هذا السؤال ذا جدوى؟ ما نصيب الذاتي والموضوعي في الرواية؟ وهل هو صراع «مرأة/رجل في نهاية المطاف أم أنه يتعداه إلى أبعد من ذلك من قبيل صراع مرجعيات وفكر وتاريخ ( لا داعي للسقوط في فخ من سبق البيضة أم الديك؟) الأموسية أم الأبوسية؟ المستعبد ( بكسر الباء أم المستعبد بفتحها؟) المستغل ( بكسر الغين أم بفتحها؟) ...أسئلة أزلية جادت بها رواية المؤلف وهي بالمناسبة تختلف جودة وقيمة عن «حول أمي « أو « الرجوع إلى البلد» اللتين لم يكن لهما نفس الصدى ونفس الوقع ....رواية جديرة بالمتابعة ومحاولة استكشاف الذاتي منها ( المرتبط أساسا بالكاتب ومدى تقاطع بعض الفصول بحياته الشخصية ) والموضوعي ( نصيب الموضوعية في كلتا الروايتين ) وهو ما يبقي الرواية مفتوحة على كل التأويلات الممكنة ....بما فيها إعادة إنتاج مواقف مكرورة في قالب روائي يشد جزئيا ولا يعطي الانطباع المريح كليا أمران لا بد من الإشارة إليهما في الرواية : لغتها المحبوكة وهو ما بات معروفا عند الكاتب بالسهل الممتنع وهو أمر ممتع للغاية ثم موقف الحيص بيص الذي يوضع فيه القارئ بمجرد اكتمال الرواية والشروع في تأمل الحكايتين على سبيل المقارنة ، لهذه الغاية نستأذن القراء في وضع جدول مختصر قصد تبين آراء الفنان الراوي والزوجة أمينة. رواية الزوجة أمينة رواية الفنان التشكيلي موضوع الاختلاف زوجي ليس زوجا ، إنه خائن من النوع الرديء ترى زوجتي أن الحياة الزوجية تلغي الأسرار بين الزوجين لأنها انصهار كلي وتواطؤ أعمى الحياة الزوجية يزعم زوجي أنه يحب النساء وهذا خطأ، لأنه عاجز حتى عن حب زوجته زوجتي محبوبة ولطيفة مع كل الناس إلا معي العلاقة بالآخر زوجي لا يؤمن بالأرواح ولا بالطاقات الكامنة والمنقولة عبر الذبذبات زوجتي ليست ساحرة لكنها تثق تمام الثقة في ساحرات العالم بأسره وتصدق بسهولة دجالا ولا يمكنها تصديق عالم الاعتقاد في القوى والأساطير لزوجي مزايا كثيرة لكني لم أعرف إلا مساوئه لم يسبق لزوجتي أن قالت لي «شكرا» التعامل والمعاملة زوجي يضطهدني إن شربت كاسا أودخنت سيجارة تدعي زوجتي أنها لم تبالغ يوما في الشرب حتى الثمالة التدخين وتناول الخمر هي فقط نماذج من رواية تتداخل فيها الاتهامات والاتهامات المضادة وتتضارب فيها الآراء حول المسئول عن تدني علاقة زوجية بالرغم من أنها بنيت عن حب ، ربما كان غير متكافئ ، ربما جعلته نوائب الدهر يفتر أو ربما تلك طبيعة الأشياء وذلك هو «القدر المحتوم» ...وربما ذلك ما قصده المؤلف بروايته : زعزعة الثوابت ومساءلة ما تراكم ?نظريا- عن الأسرة والتماسك والسعادة والانسجام وغيرها من القيم الإنسانية والاجتماعية ....