أذكر أنه منذ زمان بعيد، أيام السي محمد البريني، أطال الله عمره وأمدنا بطاقته على رأس «الاتحاد الاشتراكي»، أعدت هيئة التحرير ملفا حول القضاة. وقتها كانت قضية الأيادي البيضاء على أشدها في إيطاليا، وكان القاضي دي بييترو يشغل وسائل الإعلام في بلاده وفي العالم، لأنه كان يقود حملة الأيادي النظيفة ضد الفاسدين - المفسدين من السياسيين والبرلمانيين ورجال الأعمال وغيرهم.. كان الأثر كبيرا إلى درجة أن أحزابا بكاملها انتهت، وأن الحديث عن جمهورية إيطالية ثانية أصبح في محكم المسلم به. وكان الأثر كبيرا إلى درجة دفعت الفاسدين إلى التخطيط لاغتيال القاضي المضاد لفساد المافيا وأساليبها، بولو بورسولينو، بمعية حراسه. كان ذلك في بداية التسعينيات من القرن الماضي. وقتها كتبت متسائلا: متى تقوم ثورة القضاة في المغرب؟ كنت حالما ( ومازالت لوثة الحلم لم تفارق هذا العبد الضعيف لربه، بالرغم من كل النكسات والمكنسات التي ضربت بها ..!!)،.. وانتظرنا. واليوم يخرج القضاة في ما يشبه الثورة. وهي ثورة، لأنه ما كان متوقعا أن يخرج القضاة وهم يعلنونها انتفاضة ضد الوزير، وضد تدبير القضاء وضد تداخل العناصر والمعايير. وهي ثورة، لأن جيلا جديدا أصبح يشكل القاعدة البشرية لمكان كان قلعة للدولة وحدها..لا شريك لها في دخولها. وما كان في محكم المستحيل أصبح ممكنا. ولن نجانب الصواب إذا قلنا إن صورة القاضية وهي تحمل لوحة كتب عليها «لا للرشوة»، تشكل صورة لميلاد القضاء من جديد في بلادنا. لأن تلخص التحول الكبير الذي عرفته البلاد. من الصمت المطلق، إلى الصوت المطلق. لقد بدأت تباشير التحول مع ميلاد نقابة العدل، ولن نجانب الصواب، مرة أخرى، إذا قلنا إن التأسيس للحرية بدأه كتاب الضبط وصغار موظفي العدل، الذين وجدوا في الجولة الثانية من تجربة التناوب الظرف الملائم لخوض عملية التنظيم الذاتي وإدخال النقابة إلى حيث كانت من المحرمات. واليوم، أمامنا السؤال الكبير: هل بدأ السادة القضاة ثورتهم ؟ نعم وبلى.. وهل وصلت إلى حيث يجب أن تصل، كما في الأيادي النظيفة الإيطالية؟ كلا ولا وليس، بلى ولا نعم. متى؟ عندما يفهم السياسي الذي يدير القطاع أن محاربة الفساد تحتاج إلى قطاع قوي، وقطاع استراتيجي مستقل، وأن السعي إلى تفكيك النسيج النقابي أو التمثيلي للقضاة لن يكون في صالح الشعارات الداعية إلى حرب لا هوادة فيها ضد الفساد. ما الذي سينفع أي إصلاح، هل سينفعه خروج القضاة من جدار الصمت إلى فسحة اللغة، أم سيكونوا أكثر شعورا بالراحة وهم يجلسون في عتمات غيرمعروفة، وغيرمعروفة نواياهم؟ ما الذي سينفع وزيرا للعدل يريد الإصلاح؟ أهي نقابة قوية، تجمع كل القوى العاملة في القطاع، ومخاطبا قويا يمكنه أن يصل إلى اتفاق ويقبل به الجميع أو، على الأقل، أغلبية العاملين، أم نقابات موزعة بين القبعات، ولا يمكن لأي واحدة فيها أن تكون مخاطبا نافذة توقيعاته في حال توصل إلى اتفاق؟ إن أي رجل سياسة أو تدبير يسعى إلى أن يكون له مخاطب واحد، قوي، يصل معه إلى اتفاق يسري على الجميع عوض رقعة شطرنج لا يعرف فيها مخاطبا؟ هل تكون وزارة العدل، مثلا، أقوى من الاتحاد الاوروبي الذي يطلب من دول المغرب الكبير أن توحد سياستها وتخاطبه بلسان واحد؟ (رغم أن الطلب لازال قائما) طبعا، كلا. فلماذا يسعى الوزير إلى خلق بؤر التوتر ما بين نقابات من داخل نقابة واحدة؟ وتعاضديات من بين تعاضدية واحدة؟ وأندية من بين ناد واحد؟ لا أحد يمكنه أن يفسر ذلك سوى بالحكمة المرفوضة، ولا نخالها اختيار السيد الرميد، التي تريد أن «تفرق لكي تسود». إذا كان الوزير، وهذا مجرد افتراض، يريد أن يفرق لكي يسود، فإن النصيحة التي يمكن أن نقدمها إليه هو أنه من الأفضل أن يوحد لكي تسود العدالة. لا الوزير ولا حزب الوزير.. لا يمكن لفورة الوزير أن تصل إلى المرجو منها، إذا هي لم تستند إلى ثورة القضاء بكل أسلاكه وأصنافه. وربما يجب أن يشعر الوزير بالنعمة التي حصل عليها، عندما يقف القضاة وهم يرفعون لافتات تطالب باستقلاليتهم وبمحاربة الرشوة وبكل قيم النبل والسمو الأخلاقي المطلوب من القطاع اليوم. هذه النعمة لها اسمها النقابي، ولها اسمها القطاعي، ولها أسماء أبنائها الذين كسروا تقاليد مرعبة منذ عقود من أجل أن يكون العدل هو ملجأنا جميعا. وملجأ الوزير نفسه. إذا اشتدت ِزيَمُ !!